(كما أن الربيع أجمل ما في الفصول والشباب أجمل ما في العمر كذلك المدة التي قضيتها في وزارة التربية والتعليم كانت من أخصب وأمتع سنوات عمري في آفاقها وأعماقها وحلوها ومرها) بهذه الكلمات المزهرة استهل معالي وزير التربية والتعليم السابق الدكتور محمد بن أحمد الرشيد ربيعيته المنشورة في هذه الصحيفة الثلاثاء الماضي، وفي مثل هذا اليوم من الأسبوع الذي سبقه انتهت فيه مدة عمله في الوزارة، فهو هنا يؤكد ما يتمتع به من مهنية عالية، وحب لهذا الوطن وأهله، وإخلاص لله تعالى، وولاء للقيادة، وعشق للجمال، ونفس شابة متفائلة تواقة دوما إلى الإنتاج والاستمتاع بالنجاح الذي يأتي غالبا بعد (العسر والشدة) إذ لولا المشقة ساد الناس كلهم! فتنقلب المعاناة أنسا ورضا. ثم يتحول الوزير للحديث عن علاقته الراقية بمنسوبي وزارته مؤكدا أنها تدرجت من الزمالة إلى الصداقة ثم إلى الأخوة، وفي هذا التدرج علامة واضحة على سمو الرباط الذي يجمع بين العاملين في الوزارة بوصفهم أسرة واحدة. و (للأسرية) التي كانت محفزا للكثير من النجاحات علامات منها: العطاء بلا حدود، والنصح بصدق، والعمل بإخلاص، والتعامل على أساس الألفة على الرغم من احتمالية الاختلاف التي عبر عنها الوزير بقول الإمام الشافعي: قولي صحيح يحتمل الخطأ وقول غيري عندي خطأ يحتمل الصواب! وذلك في إشارة إلى ما يحدث من حوار ديمقراطي صحي في الاجتماع الأسبوعي الذي يعقده الوزير مع أركان وزارته لمناقشة كل المستجدات، ليأتي القرار ناضجا ويأخذ طريقه للتنفيذ. ويستمر د. الرشيد في حديثه بلغة الجماعة التي لم تفارق يوما خطاباته طيلة عمله في الوزارة ليقول: (لقد نجحنا في إنجاز الكثير.. وأن الخطأ البشري سمة بني آدم) وفي ذلك تأكيد ودعوة إلى التزام الجماعة، وعلى الإنسان أن ينسب الفضل لأهله ولا يتبرم من الاعتراف بالتقصير إن حدث! وهناك فرق بين الخطأ غير المقصود الذي جاء في حديث الرسول الكريم (كل ابن آدم خطاء!) وبين الخطأ العمد الذي له دلائل ومؤشرات لا تخفى على كل منصف حكيم، وكثيرا ما كان (أبو أحمد) يحذر من الكسل والدعة والاستسلام للعقبات، ويدعو إلى خوض المغامرة والتحدي على أسس علمية وعلى هدى وبصيرة، لأنهما لب الإبداع: اعملوا وحدودكم السماء، النائم لا يتعثر، النقد دليل على أنكم تعملون شيئا يعتد به.. هذه بعض العبارات التي يحفز بها زملاءه للعمل والإنتاج، ويعتقد أنه إن كانت النتيجة هي الفوز فالفريق هو الفائز، وإن كانت التعادل فنحن الذين قمنا بذلك معا، وإن كانت الخسارة فأنا الذي خسرت! والعذر عند كرام الناس مقبول! هذه هي أخلاق د. الرشيد لا يهتم بصغائر الأمور. وهو يؤمن بالحوار ويدعو إليه، وفي مقابل هذا التوجه المسؤول يمقت الرأي الانطباعي أو الإنشائي الذي لا يحمل مقومات الأصالة والموضوعية، بعد أن اتسعت مساحة الرأي حول كثير من مشروعات الوزارة الجديدة وبناء أحكام عامة دون علم بقصد وبدون قصد! علاوة على استعجال النتائج قبل أن تنضج الثمار! وربما اعتبرت بعض الآراء الخطط الاستراتيجية أحلاما مستحيلة..!! وهذا أمر طبيعي، لأن في عامة الناس أعداء لما جهلوا وأصدقاء لما ألفوا! كما أنه من الطبيعي أن تتعرض وزارة بحجم التربية والتعليم التي تهم كل بيت في المجتمع والتي تتميز بالحركة والنشاط الدائمين للنقد بكل أنواعه، خاصة في ظل إصرار الوزير على الحوار الذي بدأت بلادنا تؤسس له، وترسخ مفهومه في المجتمع، وأذكر أنه قال في أحد لقاءاته الصحفية: لا نريد أن نسمع نعم! نعم! فقط - إذ يمكن أن يقوم بهذا الدور جهاز تسجيل أو طائر الببغاء - لكن أريد بالفعل مشاركة الرجال عقولها.. ثم عمل على بذر جذور الحوار في المدارس بإنشاء مجالس للحوار بين المعلمين وأخرى بين الطلاب، إلا أنه في بعض الأحايين يخرج النقد الإعلامي والمجتمعي عن وجهته ليتحول إلى تجريح وتهكم واتهام في نيات الشخوص وهذا ما لا يقبله الدين أو المنطق، مما دعاه إلى توجيه رسالة تربوية ضمنها كتابه (هكذا تعلمت الإسلام) شرح فيه كثيراً من القيم الإسلامية التي طلب من التربويين أن يجدّوا في نقلها إلى الأجيال القادمة منه: إحسان الظن بالمسلمين وحفظ اللسان من الخوض في أعراضهم ودينهم وإخلاصهم دون دليل أو حجة، مشيرا إلى حديث الرسول الأمين (بئس مطية الرجل زعموا!) . ثم عبر في موقع آخر من مقالته عن شكره للثقة التي حظي بها من القيادة طيلة مدة عمله السابقة، ولم يخل مجلس أو مناسبة للوزير السابق دون أن يتحدث فيها عن قيمة وطنية عليا؛ إذ كثيرا ما يقارن بين ما ننعم به في هذا الوطن العزيز وبلدان أخرى، وكان يؤكد دائما بأن تمسكنا بديننا الإسلامي المجيد والتفافنا حول القيادة هما أكبر عون لدوام النعم. ويستمر خطابه الإنساني ليشكر كل من آزره طيلة عمله في الوزارة، والذين (زاروه أو هاتفوه بمناسبة انتهاء فترة عمله) مؤكدا مرة أخرى على أنه (لا خير فينا جميعا إذا لم نكن دائما خداما لديننا وكياننا السعودي، منافحين عنه، معتزين به) وقد عبر الوزير عن ذلك عمليا عندما كان آخر عهده بوزارة التربية والتعليم وهو يمثلها في واحدة من المناسبات التربوية الخليجية التي تعد امتدادا لمساهماته الفاعلة في كل المحافل الدولية، حيث مثل المملكة في اجتماع مكتب التربية العربي في الكويت، وكان الصوت الوطني الجهور والمؤثر الذي يحظى باحترام الجميع وتقديره، ودعا من هناك أبناء وطنه للمشاركة في الانتخابات البلدية في مقالة صحفية لم تذيل بذكر منصبه السابق، واكتفت بمحمد بن أحمد الرشيد ابن الوطن البار. ويتحول خطاب (آخر وزير للمعارف وأول وزير للتربية) إلى خليفته الوزير الجديد قائلا: (لقد أثلج صدري أن خلفني في حمل عبء التربية والتعليم معالي الأخ الدكتور عبدالله بن صالح العبيد الذي عرفت فيه: الفضل والاستقامة والإخلاص والدأب وحصافة الرأي والخلق الحميد) مؤكدا أن وزارة التربية والتعليم زاخرة بالقادرين المخلصين، وأنهم يعلمون بأن التربية مفتاح التنمية (وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة) .. وهو الشعار الذي أصبح يردده كل من ينتمي للوزارة.. ولا شك أن معالي الدكتور العبيد رجل (حقوق الإنسان الأول) في المملكة يدرك حجم المسؤولية الجديدة وهو أهل لها - بإذن الله - فالطريق الآن سالكة لإكمال ما بدأه (الرشيد) الذي يكفيه شرفا أنه حاول ونجح في أمور ولم يمهله الزمن لإنجاز كل آماله، فالإنسان محدود الطاقة ولا يعرف مقدار الصعوبات ولا حجم المنغصات التي ستقابله! حسنا، ها قد ترجّل الفارس وعهد بالأمانة إلى رجال أوفياء زرع فيهم الحماسة والإخلاص، وأغدق عليهم من فضل علمه وسعة أفقه، ومنحهم الفرصة تلو الأخرى ليعطوا من (ذوب أنفسهم) كما أراد، ولسوف تبقى مآثره ومنجزاته رمزا لما قدمه لوزارته، وسيبقى خالدا شامخا بوطنيته وإخلاصه وحبه الخير لكل الناس. مدير العلاقات الإعلامية بوزارة التربية والتعليم