يستطيع الناقد السينمائي أن يشاهد الفيلم أكثر من مرة وبالتالي يتاح له الكشف عن جمالياته وعيوبه، كما يمكنه العودة لأرشيف مخرج الفيلم أو كاتبه أو بقية نجومه وتحليل العمل الفني على ضوء مسيرتهم الفنية. يتميز الفيلم بأن أحداثه لا تزيد غالباً على ساعتين أو ثلاث ساعات على أكثر تقدير، وتتاح مشاهدة الفيلم في أي وقت على أشرطة الفيديو، وهذا ما لا يتوفر للمسلسل التلفزيوني المحكوم بظروف العرض. وهذا مما يصعب من مهمة الناقد الدرامي التلفزيوني الذي ينبغي أن يكون مراقباً لمسيرة الدراما وصناعها، ودقيقاً في تسجيل تفاصيل العمل الفني، ومتذوقاً لفن الدراما التلفزيونية وجمالياته، هذا إن كان يريد أن يكتب نقداً وليس كتابة رأي مشاهد عادي. يأتي مقالي هذا تعقيباً على مقال الأستاذ علي العبدالله الذي نشر يوم الأربعاء 1 من ذي الحجة العدد 11794 حول المسلسل السوري (ليالي الصالحية)، وقد كان أول ما جذبني في ذلك المقال هو العناوين الصارخة التي كانت تكفي لنعرف مسبقاً رأي الكاتب في هذا العمل.. فقد عنون الكاتب المقال بالتالي: (أفعال درامية مقنعة بإتقان.. وأداء تمثيلي وإخراجي رائع) وتحتها عنوان آخر: (الدراما السورية تتألق في ليالي الصالحية) ماذا بقي حتى يعتقد كل من فاته مشاهدة هذا المسلسل أنه ضيَّع على نفسه تحفة فنية تكاملت بجميع عناصرها؟ يجدر الإشارة هنا إلى أن الكاتب صنَّف مقالته بأنها (رؤية وتحليل).. أي أنه يتضمن قراءة جديدة للعمل ربما كانت غائبة عن المشاهد العادي، إلا أن متن المقال لم يكن يختلف كثيراً عن عناوينه الصارخة، ولايعدو في نظري عن كونه قراءة انطباعية لمشاهد. يفتتح الكاتب مقالته بما يلي: (المجتمع السوري.. بثقافته الشعبية.. وعاداته.. وتقاليده وموروثاته وأحزانه وأفراحه وكل ما يتعلق بتفاصيله، شاهدناه في عمل أقل ما يقال عنه إنه محبوك درامياً بحرفية عالية.. تبدو هذه المقدمة كافتتاحية لندوة تلفزيونية من تلك الندوات التي تستضيف نجوم المسلسلات وتبدأ في كيل المديح لنجوم العمل واستقبال مكالمات الإطراء من المشاهدين، ويبدو أن الكاتب قد نسي أنه يكتب (رؤية وتحليلاً) كما ذكر في رأس المقال. فقد ذكر الكاتب أن المسلسل يصور المجتمع السوري بكل ما فيه، والحقيقة أن المسلسل لم يكن يصور سوى البيئة الدمشقية خلال حقبة معينة هي بدايات القرن الماضي، أي أن هناك خصوصية زمانية ومكانية لهذا العمل لا يمكن تعميمها على كل المجتمع السوري. والحقيقة أن المسلسل شديد التواضع بالنسبة للدراما السورية والعربية عموماً، وربما يعتبر ذا صيغة متخلفة تجاوزتها الدراما العربية التلفزيونية منذ عشرين عاماً، والمسلسل يمكن تصنيفه بالدراما الفلكلورية، في هذا النوع من المسلسلات يكون إبراز العادات والتقاليد والموروثات الشعبية مقدماً على كل ما عداها، وتأتي القصة في مراتب متأخرة، وفي الدراما السورية هناك واحد من أهم المسلسلات التي يجب الإشارة إليها لأنها تندرج تحت هذا الصنف وهو مسلسل (أيام شامية) الذي أنتج عام 1992م، من تأليف أكرم شريم وإخراج المخرج بسام الملا مخرج مسلسل (ليالي الصالحية) أيضاً، والملاحظ أن المخرج لم يستطع التخلص من شبح مسلسل أيام شامية، حيث قدم سابقاً مسلسل (الخوالي) مع الكاتب أحمد الحامد، ثم عاد مع نفس الكاتب أيضاً ليقدم (ليالي الصالحية)، وقد تناول في هذه الأعمال نفس الفترة الزمنية مطلع القرن الماضي، وجميع هذه الأعمال الثلاثة تندرج تحت تصنيف الدراما الفلكلورية كما أشرنا. ولم يتردد المخرج في (ليالي الصالحية) من خلق شخصيات مكررة من عمله الأول (أيام شامية)، بل قام بإسناد الأدوار فيها لنفس الممثلين، فالفنان سليم كلاس أدى دور الحلاق، والفنان رفيق سبيعي دور المختار، والفنان عباس النوري هو البطل في كلا العملين، والفنانة هالة شوكت قامت بدور أمه، والفنان بسام كوسا هو غريم البطل، وشخصية سعدية التي قامت بها كاريس بشار في (ليالي الصالحية) تكرار لشخصية زهية التي قامت بأدائها الفنانة وفاء موصلي في (أيام شامية). ورغم تواضع مسلسل (أيام شامية) ورغم التطور الذي شهدته الساحة الدرامية السورية منذ 1992م تاريخ إنتاج (أيام شامية) إلا أن جميع المحاولات اللاحقة لتقليده بدت مكررة وباهتة. في (ليالي الصالحية) كان الهدف الأول هو تقديم عمل فلكلوري شعبي يرصد العادات والتقاليد الشعبية السائدة في الحارات الدمشقية القديمة، وذلك عبر شخصيات أداها مجموعة من الفنانين المحبوبين من قبل الجمهور، أما القصة فلا يطلب منها أن تقول شيئاً جديداً، صراع تقليدي بين الخير والشر عبر شخصيات غير متطورة درامياً، وأحادية الأبعاد. ويثني كاتب المقالة على أداء الممثلين بقوله: (شارك في هذا المسلسل نخبة من نجوم الدراما السورية ومنهم الفنانة القديرة (منى واصف)، التي قامت بدور (أم مخرز). رغم أن النص قد خذل الفنانة منى واصف كثيراً في هذا الدور، حيث لعبت دور الشخصية الشريرة التي لا يستيقظ ضميرها سوى في آخر ربع ساعة من الحلقة الأخيرة، لذلك جاء أغلب أدائها مفتعلاً ومليئاً بالصراخ. إلا أنه يرى أنها (أعطت هذه الممثلة الرائعة بعداً آخر للشخصية التي رسمت لها، حيث استطاعت أن تقنع المشاهد بدورها (الشرير). والمعروف أنه من السهل جداً أن تقنع المشاهد بالدور الشرير، ولكن الأصعب هو أن تقدم شخصية واقعية متعددة الأبعاد، وتعدد أبعاد الشخصيات لا وجود له في الليالي الصالحية. ويواصل المقال ثناءه على أداء الفنانة منى واصف بقوله: (وذلك بفضل أدائها المتقن وتعابير وجهها التي تناسبت مع الحوار في كل مشهد). رغم أنه من البديهي والطبيعي أن يناسب تعابير وجه أي ممثل مع الحوار في كل مشهد فهذا هو المطلوب منه. إلا أن الكاتب يستمر في كشف جماليات المسلسل على هذه الطريقة، ويختتم مقالته بقوله: (لذلك نجد أن العمل المميز الذي يسير في تسلسل منطقي بعيداً عن السقطات اللا منطقية واللا معقولة يجذب المتابعين)، ولكن هذا حدث في (ليالي الصالحية). والحقيقة أن المسلسل جمع المتابعين على الرغم من السقطات اللا منطقية واللا معقولة، والتي لاحظها متابعو العمل وتقبلوها، ولم يلاحظها مع الأسف كاتب المقال علي العبدالله، فزوجة المعلم عمر سعدية تتذكر بعد سنوات أن أم المخرز رمت مفتاح بيتها تحت سريرها، والمعلم عمر القدع الذي صبر على أذى ابن عمه لأنه (خي البي) صدق بسهولة كذبة زوجته سعدية حول أخيه خالد دون أن يتبين وضرب أخاه وطرده من البيت!! ثم تأتي اللا منطقية بالتحول الذي أصاب المخرز وأمه في آخر ربع ساعة، حيث يستيقظ ضميرهما فيعيدان جميع الأموال التي سلباها من المعلم عمر، فيعود المعلم عمر ليبشر زوجته العقيم بأن ابن عمه أعاد الأموال لتقول له بأنها حامل!! فيطرق الباب ويذهب المعلم ليفتحه فيجد أخاه خالد الذي قتل في الحرب!! ثم ينتهي المسلسل دون أن يعطي سبباً لعودة خالد وكيف قيل إنه قتل، أو حتى عرض مشهد يصور لقاء خالد بزوجته التي تفنن المخرج في تصوير مشهد فراقه لها وما ألم بها من حزن وهو ذاهب للحرب. ورغم أن هذه النهاية أثارت سخط المشاهدين، ناهيك عن لا منطقية بعض الأحداث، إلا أن المسلسل بسبب بيئته الشعبية ولهجة ممثليه متع المتابعين طوال ثلاثين يوماً، ولم يكن المتابعون لينتظروا منه أكثر من ذلك، ولم يكن مطلوباً منه أكثر من ذلك أيضاً، وبالتالي لم يكن يستحق قراءة فنية تضفي عليه معاني غائبة عن الجمهور العادي لعدم وجودها أصلاً، فلم يكن العمل يحمل قيمة فنية أو فكرية عالية، ولم يسجل علامة تضاف في مسيرة الدراما السورية. فما الداعي إذن لمقال بعناوين صارخة توهم القارئ بأن هناك مسلسلاً عظيماً قد قدم، ولماذا الادعاء بتقديم رؤية وتحليل للعمل الفني، لنكتشف تحليلاً تجاوزه الجمهور العادي أصلاً.. فالجمهور في غنى عن نقد يقول لهم إن المسلسل متميز لأن الموسيقى كانت تتصاعد في الوقت الذي ينبغي أن تتصاعد فيه، وأن الممثل متميز لأن ملامح وجهه كانت تناسب الحوار الذي يقوله، لأن الناقد المتميز يجب أن يكون عالماً بالموضوع الذي يخوض فيه. ولو قُدم المقال على أنه تعليق أو قراءة لكان أجدر وأقرب إلى الصواب. سعود بن فهيد السهلي دراسات عليا في الإعلام - تخصص إذاعة وتلفزيون