الأخضر يغادر إلى أستراليا السبت استعدادا لتصفيات مونديال 2026    القبض على مواطن في جازان لترويجه (11) كجم "حشيش"    نونو سانتو يفوز بجائزة مدرب شهر أكتوبر بالدوري الإنجليزي    أربع ملايين زائر ل «موسم الرياض» في أقل من شهر    ترقية بدر آل سالم إلى المرتبة الثامنة بأمانة جازان    جمعية الدعوة في العالية تنفذ برنامج العمرة    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    مبارة كرة قدم تفجر أزمة بين هولندا وإسرائيل    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    «مهاجمون حُراس»    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    الهلال يهدي النصر نقطة    البنك المركزي السعودي يخفّض معدل اتفاقيات إعادة الشراء وإعادة الشراء المعاكس    حديقة ثلجية    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    جودة خدمات ورفاهية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الأزرق في حضن نيمار    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجحنا بصَمْت «يماني»
نشر في عكاظ يوم 13 - 06 - 2015

الحديث عن موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة التي كانت حلما فأصبحت واقعا بعد مرورها من نفق العقبات يحلو مع البروفيسور عباس طاشكندي العراب الحقيقي لهذه الموسوعة المباركة في الجزء الثاني من حوارنا الذي بدأناه في الأسبوع الماضي. تحدث الرجل بكل الواقعية والشفافية، وقال إنه اشترط صمت داعم المشروع معالي الشيخ أحمد زكي يماني كثمن نجاح لعمله في الموسوعة وأن لا يتدخل في أمور التنفيذ، أو فرض تعيينات، أو تحديد زمن للإصدار وقد التزم بذلك. طاشكندي اقترح تشكيل هيئة من علماء البيئة والجيولوجيا والهندسة والعمارة لتكون رافدا علميا لتساند الجهات المسؤولة في مشاريع التطوير بالرأي والمشورة، واستثمار خبراتهم في هذا المجال، ونوه إلى أهمية الحفاظ على المعالم التاريخية، وأبدى أسفه لاستغلال الرأي العقدي لتحقيق المصالح والذي طبق بشكل كبير على المكتبات الوقفية. حوار التلميح فيه يغلب على التصريح ومنه نبدأ..
• موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة هذا المولود المتعسر في بدايته.. كيف خرجتم بها بعد عملية قيصرية إلى النور؟
• • معالي الشيخ أحمد زكي يماني بحسه الثقافي، وانتمائه الوطني، ووفائه لمواطن طفولته في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهو سليل أسرة علمية في أرجاء الحرمين، تبنى فكرة إعداد موسوعة شاملة للمدينتين المقدستين منذ وقت مبكر، حين كان وزيرا للبترول والمعادن، ثم أنشأ فيما بعد مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن، واختار لمجلس إدارتها عددا من الأعلام ومنهم الأساتذة: حمد الجاسر، وعبد العزيز الرفاعي، وعبد الملك بن دهيش، وعبد الوهاب أبو سليمان من السعودية، وأحمد محمد شاكر من مصر، وناصر الدين الأسد من الأردن، وآن ماري شيمل المستشرقة المعروفة، وعدد آخر من كبار العلماء الأوربيين. في تلك الاجتماعات، يقول الشيخ أحمد زكي يماني، إن الشيخ حمد الجاسر كان يناقش كثيرا فكرته في أهمية إعداد موسوعة لمكة والمدينة. وأذكر أنه في 28 صفر 1398ه/ 6 فبراير 1978م، زارني في الجامعة، وكنت حينها عميدا للمكتبات، وكان في معيته عبدالهادي طاهر، وغازي سلطان، فانفرد بي الشيخ زكي وقال لي: إن من الواجب أن تكون لمكة المكرمة والمدينة المنورة موسوعة.
وهكذا كان، حتى ترك منصب الوزارة، وتفرغ للثقافة الإسلامية. طرق عدة محاولات، وعمل فترة في جمع المعلومات، حتى شاء الله أن يتحقق حلمه، وتظهر الموسوعة بمجلدها الأول عام 1428ه/2007م، وأن يكون لي بتوجيه- معاليه- شرف إنجازها. الطريق لم يكن سهلا، ولكن النيات الحسنة هي الغالبة، ولا مجال لسرد المصاعب.
شروط للموسوعة
• ما علمته أنك وضعت شروطا لقبول العمل في الموسوعة التي يعتبرها الكثيرون مغامرة؟
• • حقا كان الأمر كذلك، وكان معالي الشيخ واعيا لصعوبة التنفيذ بدون دعم كامل، وتم الاتفاق شفاهة على عدد من الأمور ومنها:
إن هيئة الخبراء تضع السياسات الرئيسة، وأن المجلس العلمي، والذي يضم خيرة علماء مكة والمدينة يضع اللوائح، وإن أمانة الموسوعة تتولى التنفيذ.
وقد طلبت شخصيا من الشيخ زكي ألا يتم التدخل في أمور التنفيذ، أو فرض تعيينات، أو تحديد زمن للإصدار بهدف استكمال البنى الأساسية للموسوعة. واشهد لمعالي الشيخ زكي أنه لم يتأخر قط في تأمين حاجات الموسوعة. وحين طلبت منه ألا يتناول إعلاميا الموسوعة حتى تصدر، التزم بذلك، ووجهنا للعمل دون ضجيج، ولولا ذلك لما صدرت الموسوعة. ولقد تفرغت للعمل ليل نهار، ولم أكن أحمل أوراقي إليه، فكان من حسن أخلاقه وتوجيهه أن يأتي إلي قبل أن آتي إليه. وهذا سر من أسرار إدارته للأمور مع من يجد فيه الثقة والكفاية. كان وما زال موجها، وأنا مسؤول تنفيذي، لا علاقة لي بالأجواء الاجتماعية الخاصة بمعاليه، أمد الله في عمره، ومتعه بالصحة.
• هل كنت متخوفا من شيء ما لتفرض هذه الشروط؟
• • معروف أن بعض رجال الأعمال عندنا حين يمولون أو يتبنون أمرا ثقافيا، ويبتغون من ورائه هالة إعلامية فقط، أن يباشروا الإملاءات وسرعة الإنجاز، والتقصير في الدعم المادي، كما يملون رؤيتهم في العمل حتى يخرج مسخا. وهذا للأسف يحدث حتى في بعض المؤسسات الحكومية والبحثية. ولكن البعض من الموسرين ممن يمتلكون الفكر المؤسساتي مع معرفة دقيقة بغايات ما يهدفون تحقيقه هم غير أولئك، ونحن في الموسوعة لم نواجه هذا الظرف ولا ذاك. فالموسوعة هي أولا وأخيرا مشروع أحمد زكي يماني نفسه، وهو ليس داعما فحسب، وإنما موجه له، متابع العمل يوما بيوم، حتى في ظل ظروفه الصحية الأخيرة. ولا أخفيك أن تواصله تواصلا يوميا حتى اللحظة.
لقد استغرقنا سنوات أربعا في إعداد البنية الأساسية، وكان يشاركنا ويوجهنا في ذلك. ولم يسألني قط: أين المجلد الأول؟ لأنه كان يعرف صعوبة إنجاز عمل موسوعي كهذا. نعم اتفقنا على أمور كثيرة منذ البداية، فكان نعم الملتزم والموجه.
مرحلة البناء
• أربع سنوات .. أليس وقتا طويلا للتأسيس ومكلف ماليا أيضا؟
• • أصعب مراحل إنجاز الموسوعة كانت مرحلة بناء البنية الأساسية، ورسم خارطة طريق لما نود أن نحققه. بدأنا بتنظيم المكتبة ومركز المعلومات وملفات الصور والوثائق، ثم كان علينا أن نحدد مداخل الموسوعة، فبناء على رأي مجلس الخبراء، والمجلس العلمي تقرر أن تغطي مداخلنا كلا من:
- البيئة الطبيعية كالوديان، والجبال، والشعاب، وغيرها.
- الحرمين الشريفين.
- الحياة الدينية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
- السيرة النبوية.
- العمارة، والتخطيط، والمنشآت.
- المصادر والرحلات.
خذ على سبيل المثال في البيئة الطبيعية موضوع الجبال، فستجد أن جبلا واحدا من جبال مكة أو المدينة قد تغير اسمه عبر التاريخ لمرات عديدة، وعليك أن تجمع مترادفات الاسم، وفي أي زمن وقعت، ثم تختار الاسم المقنن، وتحيل إليه من كافة المترادفات. هذا أمر صعب ودقيق، وإلا رأيت نفسك تكتب عن نفس الجبل بأسماء مختلفة. وقس على ذلك في كافة المداخل. وحين كتبنا عن أبواب الحرم، بابا بابا، كنا نغوص في تعدد أسماء كل باب حتى وجدنا أن بعض الأبواب قد تغيرت أسماؤها لأكثر من خمس وعشرين مرة.
• بمعنى أنكم نحتم في الصخر لتخرج هذه الموسوعة؟
• • خصوصا في بداية التأسيس، فقد كنت أجلس برفقة أحد الموظفين يوميا ولساعات طويلة نقلب صفحات الكتب الكثيرة، البعض منها ليس فيها فهارس ومع كل واحد منا مسجل ندخل فيه المصطلحات التي وصلت إلى حوالي سبعين ألفا، ثم قمنا بتقنين المداخل ثم تصنيفها وإدخالها في قاعدة معلومات اسمها (قاعدة المداخل)، هذا العمل ساعدنا منذ أن بدأت الموسوعة إلى اليوم في معرفة آخر مقالة نكتبها بحرف الياء مثلا، ونقوم بتحديث المعلومات أولا بأول، فهذا جهد مضن يحتاج لفهم رجل واع ومثقف مثل معالي الشيخ أحمد زكي يماني.
أرضية الموسوعة
• أتوقف عند الغلاف الخارجي المحيط بجلدة موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأسأل كيف توصلتم إليه، ومن الذي صممه، ولماذا اخترتم الخط الذي كتب به اسم الموسوعة على ذلك الشكل؟
• • عند الإعداد لإخراج موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، اتصل معالي الشيخ أحمد زكي يماني بعدد من مصممي الأغلفة المعروفين الذين قدموا بعض التصميمات – لم أعجب كثيرا بأعمالهم، وحاولت أن أضع بعض الأفكار، ثم حاولت أن أضع تصميما مقترحا، لعل وعسى. بدأت بأرضية سوداء داكنة، ترمز إلى لون كسوة الكعبة المشرفة. ووجدت أن أقدم المصاحف القرآنية التي عثر عليها في قبة مسجد صنعاء ويعود للقرن الهجري الأول قد كتب على رق غزال بالخط الحجازي المكي الذي نشأ في مكة المكرمة وافترضت أن الرق الذي كتب عليه المصحف من الرقوق التي كان بنو جمح المكيون يدبغونها في مسفلة مكة المكرمة.
أنزلت من المصحف المذكور صورة للحروف التي يتشكل منها اسم الموسوعة، وكونت كامل الاسم وفقا للخط الحجازي المكي، وهو أقدم نماذج الخط العربي، وأسقطت ذلك على صورة الرق الأصلي للحجاز، حتى تكامل الغلاف علما للموسوعة.
ابتهج معالي الشيخ وزملائي بالتصميم وقرروا تشريفي بتبنيه.
ولقد أغضبني أكمل الدين إحسان أوغلو حين أظهر عدم الرضا بالخط طالبا الاستعانة بخطاطين أتراك، فعبرت عن غضبي بحدة تجاوزت المجاملات المعهودة بيننا، ولكنه قبل راضيا في نهاية الأمر.
• ما هو المنجز الذي يمكن أن نلمسه حتى الآن؟
•• انهينا حتى الآن سبعة مجلدات من الموسوعة التي قد تصل إلى ثلاثين مجلدا، والموسوعات عادة ليست مرتبطة بأشخاص، ولها منهجية خصوصا موسوعات المدن، التي تعد من أصعب الموسوعات، حيث لا يوجد سوى موسوعة باريس. قبل أن نبدأ موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة، كان علينا وضع منهجية طويلة المدى، فكنت أمكث في عملي لأكثر من 20 ساعة يوميا وأنسى وقتي معها، لأضع الخطط والأدوات. وهذه الموسوعة تصدر لأول مرة في السعودية، والموسوعات عادة لا تصدر في فترة زمنية سريعة، فالموسوعة الإسلامية التي صدرت من لايدن في ستة مجلدات استغرق إنجازها 40 سنة، أما الموسوعة الإسلامية الإيرانية فبدأوا بها قبل 50 عاما ولم ينتهوا منها حتى الآن، وكذلك الموسوعة الإسلامية التركية التي أنجز منها أكثر من عشرين مجلدا وهم الذين بدأوا قبل 35 سنة تقريبا وسيستمرون، ونحن أمضينا عشر سنوات أنجزنا فيها سبعة مجلدات، ونعمل في الثامن، وعملنا يسير وفقا للحروف الهجائية، إذ انتهينا حتى الآن من الألف والباء والتاء والثاء والجيم ونصف الحاء، وحتى نصل للياء سنأخذ سنوات طويلة.
سعر الموسوعة
• لكن البعض يتحفظ على سعر بيع الموسوعة؟
•• نحن في تحرير الموسوعة لا شأن لنا بالتسويق والتسعير، ولكنني أعلم أن بيع المجلد على أساس رمزي هو 350 ريالا للأفراد، وهذا مبلغ زهيد في مقابل ما يصرف على العمل.
• هل نستطيع أن نقول إنكم حصرتم كل الوثائق والمصادر المكتوبة التي توثق تاريخ مكة المكرمة والمدينة المنورة؟
•• صعب أن تحصر كل الوثائق، ولكن الأهم في الأعمال الكبيرة أن توضع منهجية للاستفادة من المصادر، ويبنى نظام لتحقيقها، وبالتالي لن يرتبط العمل بأشخاص أو اتجاهات تتغير بين وقت وآخر. وهذا ما نحن عليه أما من ناحية المصادر المكتوبة، فأنت تعلم أن معظم المرويات التاريخية في مصادرنا هي إخبارية، وفيها الكثير من الروايات الأسطورية. هذا كان منهجهم، لذلك فقد أحسن الطبري حينما قال في مقدمه تاريخه، بأنه ناقل عن من سبقه، فإن استنكرتم رواية، فلا تردوها إلي، وإنما أنا ناقل لها عمن سبقني.
نحن في الموسوعة نأخذ بالنص التوقيفي كما هو لأن سنده القرآن والسنة الصحيحة، أما الروايات الإخبارية فنتحقق منها قدر الإمكان، راجعين إلى مختلف الآراء. وكما تعلم فإن مقالات الموسوعات لا تفسر، ولا تؤخذ برأي واحد، وإنما تعرض كل الآراء بحيادية، وتستقصي جميع ما كتب خدمة للباحث عن الحقيقة.
• بمعني أن هذا ليس اجتهادك الشخصي فقط؟
• • إطلاقا، فنحن نعمل كفريق عمل، وهذا جهد مضن لا تستطيع القيام به دون منهج، ويحتاج إلى تفهم ووعي ووقت مفتوح، وقد بسطت هذه التفاصيل في مقدمة الجزأين الأول والخامس من الموسوعة.
• وفي حالة ما إذا جدت معلومة بعد صدور الموسوعة هل تصدرون طبعة ثانية؟
• • الموسوعات لا تخرج في طبعات متلاحقة، وإنما تلحق بملاحق تصدر كل سنة أو سنتين ونورد فيها المستجدات الجديدة فقط.
مقر الموسوعة
• وهل كان اختيار المملكة لإصدار الموسوعة جزءا من الخطة؟
• • على قاعدة أن أهل مكة أدرى بشعابها، فقد رؤي أن يكون مقر الموسوعة في جدة، بين مكة والمدينة، فمدينة جدة هي بوابة الحرمين، وقد تم الاتفاق مع معالي الشيخ أن يكون مقر العمل في جدة، وأن تكتب الموسوعة بأقلام علماء مكة والمدينة وأبنائهما، فهم أعرف من غيرهم بالبيئة، ولدينا علماء نفخر بهم في الدنيا. وعليك أن ترى يكتب الباحثون عن أحيائهم التي عاشوا فيها وهم مسلحون بالعلم ومنهجية البحث. ثم إن أبناء البيئة هم العارفون بظروف بيئاتهم الاجتماعية والثقافية.
وأعتقد أن اتباع المنهجية يحكم قيادة المحرر الرئيس للعمل وطاقم الباحثين في إنجاز أعمالهم وفق الأصول الموضوعة.
• بالمناسبة .. ما الذي يُغطى من منطقة الحجاز في موسوعتكم؟
• • نحن بالدرجة الأولى معنيون بالمدينتين المقدستين مكة، والمدينة، نأخذهما جزئيا في التاريخ حينما كانت كل واحدة تدخل في التاريخ الإسلامي ضمن (أعمال مكة) و(أعمال المدينة) ولكن دون التوسع الشامل. فأعمال مكة كانت تصل حتى نجران، لكننا نحصر التغطية ضمن الإطار الحالي لمنطقة مكة ومنطقة المدينة. نشمل في خط الهجرة ما يمتد من مكة إلى المدينة، ونتوسع في السيرة حتى خارج حدود المدينتين المقدستين.
• ولكن تاريخنا وتراثنا فيه خلط كبير بين الحقيقة والأسطورة؟
• • نعم هناك أمور تحتاج إلى وقفات للتحقق. أعطيك مثالا لشخصيتين هما: باقوم الرومي الذي تقول الروايات بأنه النجار الرومي الذي ساهم في أعمال النجارة لسقف الكعبة في بناء قريش للكعبة المشرفة. والرواية ذكرها الأزرقي والفاكهي ونقلت عنهم في المصادر اللاحقة، ولكن الفاسي الذي عرف بدقته لم يشر إلى باقوم عند تناوله لبناء قريش للكعبة المشرفة. استتبع ذلك بحثا عن حقيقة هذه الشخصية. ثم لوحظ تكرار نفس الاسم مع المنبر الذي عمل للرسول في المسجد النبوي، الأمر الذي أدى إلى الوصول إلى احتمالية أن يكون الاسم أسطورة تكرر استخدامها في المصادر الإخبارية. ان نفس الأمر وقع مع شخصية أبي رغال وقبره. تكرر اسمه في أحداث أبرهة وغزوه مكة، وفي ثمود وغيرها.
مصادر التاريخ
• أسألك بصراحة، ما هي مصادر كتابة تاريخنا الوطني، وبخاصة مكة والمدينة؟ ما أهميتها؟
• • تتمثل المصادر في الأدب المكتوب والوثائق والآثار الباقية. فالأدب المكتوب في مصادر التاريخ يحفل بالروايات الإخبارية، إلا علم الحديث الذي استند في منهجه إلى معرفة طبقات الرجال وأسانيدهم. لذلك فقد قيل هذا حديثنا، فقلنا لهم: هاتوا رجالكم. وإذا قرأتم تاريخ يحيى بن معين، عرفتم كيف استفاد علم التاريخ في بدايته من علم تدوين الحديث وعنايته بنقد الرجال وتحديد طبقاتهم.
القرآن الكريم ومصادر الحديث هي أهم المصادر، ثم تأتي الوثائق كمصادر أساسية للتاريخ. وكثيرا ما يستخدم الزيف في الوثائق والآثار بغرض خلفيات مغرضة، ولكن للمؤرخين أدواتهم في كشف الزيف. نحن في منطقة صدام حضاري منذ القدم بين مجموعات بشرية وأديان ومعتقدات مختلفة. وكل يسعى إلى تحقيق مآربه ومشاربه، أو قراءة النص حسب انتمائه.
والصراع العرقي يمتد أحيانا للنيل من الهوية الوطنية كالدين، واللغة، والعادات، والتقاليد، والقيم الإنسانية والاجتماعية والفكرية. فالروس مثلا في فترة الاتحاد السوفيتي أجهزوا على لغات الشعوب الإسلامية التي حكموها وديانتها وتراثها، وعزلوهم عن تراثهم المكتوب حتى تمكنوا منهم.
الهوية التاريخية
• بصراحة هل تؤثر مشاريع التطوير الكبرى لمنطقة الحرم المركزية على الهوية التاريخية لمكة المكرمة؟
• • أبدا أبدا لا تؤثر، لأن الأساس في مكة المكرمة هو الكعبة المشرفة، أما باقي الإحداثيات حول الكعبة منذ عصر الجاهلية حتى الآن استحداث متغير تحكم تغيره ظروف المصلحة العامة، وبعد الإسلام، مصلحة المسلمين. فسيدنا عمر بن الخطاب أزال بيوت سادة قريش، شراءَ أو نزعا لصالح الطائفين والركع السجود. وإصلاحات المنصور، ثم توسعة المهدي أزالت معالم كثيرة لصالح المسلمين والمسجد الحرام. وسرت القاعدة بعد ذلك طيلة التاريخ. مصلحة المسلمين والتيسير عليهم فوق باقي المصالح.
وأرى أن القائمين على مشاريع التطوير لو أشركوا الفقهاء من أهل الحرم والمؤرخين المكيين لكانت النتيجة أفضل، لأن فقهاء الحرم يعرفون أكثر من غيرهم في فقه الحرم، ويعرفون التواتر في كافة الإحداثيات حول منطقة الحرم، وآراؤهم الفقهية تثري ولا تضعف. أما المؤرخون المكيون فهم الأدرى بكل معلومة تاريخية عما يحيط بالحرم من سوار الأرض.
ولعل التوثيق لكافة المواقع الأثرية التاريخية، وتحديد مواضعها، وكتابة وصفها وتصويرها، ورفع خرائطها. هو ما كان الأولون يعملون به وفق مناهج زمانهم، فكتبوا عن كل ما أزيل حول الحرم من معالم. وحفظوا لنا كل التفاصيل عنها.
فحينما أعاد السلطان مراد الثاني بناء الكعبة المشرفة، كلف ابن علان لتوثيق البناء يوما بيوم. وجمع الفقهاء للبت في الأمور الشرعية التي تتزامن مع إعادة البناء يوميا، كإجازة وضع ساتر يحجب رؤية الكعبة المشرفة أثناء البناء.
ثم أن المعالم التاريخية يمكن أن تبقى ضمن الساحات وتوظف ضمن غايات المسجد الحرام. فموضع ولادته، وافق الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله، على أن يكون موقعا لمكتبة مكة المكرمة. فما المانع أن يعاد في الموضع بناء مكتبة حديثة فوق الموقع، وتؤدي هدفين: الأول: المحافظة على الموضع الشريف تحديدا، والثاني تحقيق رسالة العلم، ورسالة المسجد الحرام في نشر العلم. وقد عرفنا منذ العصور الأولى أن المكتبات كانت داخل الحرم رمزا لرسالة المسجد الحرام جامعا وجامعة.
هيئة شرعية
• هل تؤيد الرأي الذي يطرح فكرة أن تكون هناك هيئة شرعية للحرمين الشريفين؟
• • بداية، هناك الهيئة الشرعية العليا في البلاد ممثلة في هيئة كبار العلماء التي تضم تحت رئاسة مفتي عام المملكة العربية السعودية، ثلة من خيرة علماء البلاد، ولهم اتخاذ القرارات النهائية ورفعها لولي الأمر، هذه الهيئة العليا تستند في المسائل الكبرى إلى دراسات هيئات نوعية ولجان متخصصة تستنير بآرائها الشرعية. والقضايا التي تمس الحرمين الشريفين قضايا شرعية حساسة. حدث هذا كثيرا، ففي تحديد حرم المدينة المنورة، شكل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله لجنة شرعية وتاريخية برئاسة الشيخ محمد الحافظ وعضوية عدد من العلماء والمؤرخين، ثم اتخذ قراره كمفت عام للبلاد بناء على توصية اللجنة. وكذلك صار الأمر في مسائل كثيرة آخرها توسعة المسعى.
والهيئة التي جاءت في سؤالكم لا تكون شرعية فحسب بل تضم المؤرخين وأهل الخبرة والدراية مثل ما فعل الملك سعود يرحمه الله، حين جعل الرئاسة في إصلاح الكعبة المشرفة للشيخ صالح القزاز وعضوية المؤرخ محمد طاهر كردي وآخرين. أكثر من ذلك ربما تضم الهيئة علماء بيئة وجيولوجيين ومتخصصين في علوم أخرى تطبيقية كالهندسة والعمارة، هذا التكامل يثري القرار في مراحل اتخاذه وتنفيذه، ويؤدي إلى التكامل، بل يصد أي محاولات خارجية تنال من القرارات التي تتخذها الهيئات الشرعية في البلاد في شأن الحرمين الشريفين.
• إلى أي مدى تحمل مكة المكرمة والمدينة المنورة خصوصية في تاريخ الأمة دون غيرهما من المدن؟
• • مكة المكرمة، والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة تحمل خصوصية ليس للأمة فحسب بل لجميع الأمم في الأرض. يؤدى فيها ركن من أركان الإسلام، ومكة قبلة للمسلمين كافة. تلك خصوصية اختص الله بها مكة وهذه البلاد دون غيرها من المدن أو البلاد. وحماية الحرمين خصوصية لولاة أمرنا اختصهم الله بها دون غيرهم. مكانة لا تعدلها مكانة، وشرف عظيم لا يعدله شرف.
هذه الخصوصية هي صمام الأمان لبلادنا التي أطعمها الله من جوع وآمنها من خوف. أما الثروات الطبيعية من بترول وذهب وفضة وكنوز أخرى فهي من نعم الله على هذه البلاد، ولكنها مصادر ناضبة. أما خصوصية الحرمين الشريفين ومكة والمدينة والمشاعر فهي باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد درجت الخلافات الإسلامية التي آل إليها حكم مكة والمدينة، أن تحرص إلى استمالة منابر الحرمين وخطباء الحرمين إلى التأييد بالدعاء، مما يدل على مكانة تلك المنابر وخطباء الحرمين الشريفين.
وكانت لأهل الحرم مكانة عند الخلفاء والسلاطين، تفوق مكانة مواطنيهم وأعيانهم، وتلك أيضا خصوصية اختص الله بها أهل الحرمين، يقول جار الله الزمخشري رحمه الله:
قامت لتمنعني المسير تماضر * أنى لها وغرار عزمي باتر
سيري تماضر حيث شئت وحدثي * إني إلى بطحاء مكة سائر
حتى أنيخ وبين أطماري فتى * للكعبة البيت الحرام مجاور
سأقيم ثم وثم تدفن أعظمي * ولسوف يبعثني هناك الحاشر
كل تلك الخصوصيات التي اختص الله بها هذه البلاد، وجعل لها حرما آمنا هي التي تحمي حرمتها وأمنها في كل العصور كما رأينا في التاريخ.
طرق الحج
• تصف كتب الرحلات القديمة في أن طرق الحج لم تكن آمنة كما هي اليوم، وأن الحجاج كثيرا ما عانوا من معاملة أهل الحرم لهم؟
• • لقد استغلت بعض القيادات الاستعمارية موضوع تأمين طرق الحج لمصالح سياسية: آمل أن تقرأ رسالة نابليون إلى شريف مكة مذيلة بخادمكم ومحسوبكم، مؤكدا أنه حام لقوافل الحجيج. كان هدفه ليس حماية الحجاج من قطاع الطرق، بل ضرب الدولة العثمانية المسلمة. وقطاع الطرق لم يكونوا شريرين لدرجة كبيرة، بل جوعى يبحثون عن لقمة، ولكن بأساليب غير إنسانية.
أما أهل الحرم فاقتاتوا بشرف، وكانت تأتيهم الصرر من الخارج، فضلا عما يدخرونه من خدمات الحج والحجاج. كانوا يبحثون عن مصادر دخل شريفة، فهل سمعت عن حرفة اتخذها بعض علماء مكة، وهي إطلاق أسماء عربية لمن يرغب من الحجاج الأعاجم في تغيير اسمه. يقدمون تلك الخدمة في مقابل ضئيل، ويسلمونه شهادة بذلك.
المكتبات الوقفية
• هل استفاد تاريخنا الوطني من المكتبات الوقفية خصوصا أن البعض منها مرتبط بأوقاف ضخمة بعضها معلوم وأكثرها مجهول؟
• • للأسف أن استغلال الرأي العقدي لتحقيق المصالح ينطبق على المكتبات الوقفية أيضا، وقد كان تداول العلم والهوية الثقافية وأوعية المعرفة ليس مهمة الحكومات بل الأشخاص الواعين في المجتمع، والأمثلة كثيرة عبر التاريخ الإسلامي من الذين كانت لهم مكتبات وقفية منذ العهد الإسلامي الأول، وترسيخا للهوية الوطنية، علينا أن نحافظ على هذا التراث وأن ننميه، خصوصا أن هناك مبالغ ضخمة موقوفة لصالح هذه المكتبات في تركيا ومصر والسعودية، ومبالغ لنزع ملكيتها في وزارة المالية، وهذه مسؤولية ينبغي أن يتصدى لها بكل الشفافية ويعلنها للناس من يتحمل مسؤولية هذه الأوقاف حاليا.
لا أحب الجدال
• لماذا لا نسمع لك صوتا في الرد وتوضيح الكثير من القضايا الجدلية المعاصرة فيما يخص مكة المكرمة والمدينة المنورة؟
• • لا أحب الدخول في جدل مع الآخرين، فقط يكفيني معرفة مواقفهم وإعلان موقفي دون تصادم، وأنا أعتقد أن فن الصمت أصعب من علم الكلام، فأحيانا الإنسان تخونه العبارة فيتحدث حين يكون الصمت أفضل بكثير وهذا طبعي. ثم إن الرد على سؤالك تحسمه الأبحاث والدراسات العلمية، وهذا ما تأمل موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة في تحقيقه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.