العيد على الأبواب.. والاستعدادات له على قدم وساق.. والفرحة بقدومه دلالاتها ذات أبعاد، تَقْصُر الكلمات عن لمس أغوارها.. والتعبير يعجز عن سبر معانيها.. والعيد أيضاً مظهر لمخبر.. وشكل لجوهر، لبه حس بالحياة صادق، وشعور بالإنسانية ثر. فمن أقصى الأعماق نهنئ.. ومن أجواء الناس نبارك.. وبكل جارحة ندعو للجميع بالخير.. وينبض أحاسيسنا بالحب.. وفيض مشاعرنا بالود.. وخلجات الكيان نحو بلادي.. تهنئة بالعيد شيبا وشباناً.. نساء وغلمانا.. أغنياء وفقراء.. سعداء وأشقياء.. أقوياء وضعفاء.. مرضى وأصحاء - حتى الجناة - لعلهم يثوبون للرشد.. ويعون عقابيل أفعالهم.. فالعيد بداية عهد يحاسب به المرء نفسه.. ويصفي ما مضى.. وبرحة يتم عليها التصافي..وفرصة للتلاقي.. ودفن الضغائن.. وتجاوز الفائت.. ونسيان الخلاف.. حيث ان الوفاق يزهو بنا.. والعزم للبناء يشتد.. والهمة تنشط.. فتنشد نشيد السمو. العيد طرب يهز.. ورقصة تقتل الهموم.. وجذل ومرح وسرور.. والعيد صورة ومادة.. صورة تبرز الظواهر والشكليات.. ومادة تغوص في عمق الدوافع.. وعودة من رحلة استغرقت أياما أساء خلالها الإنسان فيذكره العيد بأن أزاهير الحياة تكمن بوهج السيرة.. واشعاع الروح.. فيصحح تصرفاته.. ويرجع عن التمادي بأخطائه. العيد عون وتواضع وتعبير وتطبيق وبهجة.. في ابتسامة صغير.. وحبور كبير.. ونفع بائع.. ولذة مشتري.. وتشغيل عاطل.. وراحة عامل.. وزينة دار.. وأنس أحباب.. ومساعدة محتاج.. وإشباع جائع.. ولقاء غائب.. وتخليص متورط.. وفسحة على صعيد الأمل. كل عام وأنتم بخير: نغمة تخفف الحزن.. وتدعو بطول العمر.. وتعزي المصاب.. وتسعد الفرح.. وتنادي بديمومة الرخاء. كل سنة وأنتم طيبون: وقعها في الأذن والنفس كوقع قيثارة.. من العائدين.. سحرها ببساطتها .. وروعتها برفعة هدفها.. ودعاء يفرضه موقف عظيم.. ويظلله خشوع فتصدر من الأفواه من غير زيف أو رياء. العيد رمز للإيمان.. وشعار للاخاء - خاصة - الأضحى لما له من جذور أصلت بالمسلم روح التعاون.. وبعثت فيه سمو القصد.. وعلمته البذل.. وأشعرته بلذة العطاء.. وبصرته إلى ضرورة التمسك بما يكفل مضاعفة الأجر.. فربت نفسه العقيدة.. وقوت شكيمته برفق ورحمة.. ومدته بشهد الوجود.. ودفعته إلى كل عمل حميد. وهذا عيد يقع بذي الحجة شهر من الأشهر التي كان الجاهليون يحرمون بها القتال.. فتروج بضاعة الفكر.. وتزدهر سوق الشعر.. ويعلو مكان الخطابة.. فيتبارى فرسان الكلام.. ويتناظر الأخصام تحت راية السلام .. فتطمئن القلوب بظل الهدنة.. ويهدأ اضطراب النفوس.. ويحلو العيش.. وتصفو الحياة. ولكن أمة تفتقد الإيمان.. وتحتاج إلى القيادة الحكيمة.. ويعوزها العلم.. أمة بلا قاعدة.. تتلاعب بها الأهواء.. وتعبث فيها الشهوات.. ويكسر عزها الجهل.. ويحط منها الداء.. ويضعف كيانها قصر النظر.. فتفتك العصبية بها.. ويحد التزمت من انطلاقها. أمة هذا شأنها لا ترتقي.. لأنها تكابر بالعدم.. وتنطح الصخر.. وتخرج عن إرادة الله.. فلا يهمها أن تنقض عهودا فترتكب الفسق وتمارس الشر.. فتجعل الأشياء وفق رغبتها فتقدم شهرا وتؤخر آخر.. وقد حارب الإسلام هذه البدعة حيث جاء في سورة التوبة: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ}. كانوا يكيفون الأمور حسب ما يريدون.. فالأشهر الحرم منعتهم من (حروب الفجار)..ففجروا فيها.. وقد شهدها الرسول (صلى الله عليه وسلم) وآلمته كثيرا.. وما استطاعوا وضع حد لعبث (البراض) أو اعتبروا بعظات (الأيادي).. وإنما شتتهم شعر (الصناجة).. وأذلهم تفرق شملهم.. وعاشوا نهبا بين أديان عديدة.. واستشرت بدعة (عمرو بن لحي الخزاعي) .. فضاعوا في تيه الضلال.. وقد شاء سبحانه أن يبعث خاتم النبيين منهم.. فغدوا خير أمة أخرجت للناس.. ورفعوا راية العلم.. ووطدوا العقيدة.. ورسخوا الإيمان.. ونشروا الحضارة.. وحسنوا حياة الإنسان حين خلصوه من الجهل.. وفكوا قيد الاستعباد.. وجهروا بالحق.. وحكموا بالعدل.. ففي بدر أزهقوا الباطل.. وفي القادسية حطموا الكبرياء.. وفي اليرموك أقاموا الشريعة.. وفي مصر تنفس أهلها الصعداء.. وفي الوادي الكبير اخضرت الحياة بعد ان طال بها القحط.. وفي خراسان طلع الفجر.. وفي طبرستان عم الخير.. وفي السند تبسم الوجود. إن الحج مؤتمر تتجسد فيه عظمة الإسلام.. وتشرئب إليه الأعناق.. وتهفو نحوه النفوس.. وتخفق بذكره القلوب.. وتضيء العقول.. فهو جامعة كبرى.. يتلقى بها المسلم ما يفيد منه في دينه ودنياه.. وفريضة فيها شفاء من داء.. وتخليص من ادران.. وأداء ركن جعله تعالى مشروطا بالاستطاعة كيلا يكلف النفس فوق طاقتها.