في كل مرة أنزل الشام.. تأخذني دمشق بسحرها.. وجمالها.. فلا أكاد أفارقها حتى وإن كانت إقامتي فيها طويلة الأجل.. وكانت أمنية عزيزة زيارة بيروت.. ولطالما حدثت نفسي - وأنا مقيم بدمشق - بالذهاب إلى بيروت.. خصوصاً أن المسافة قريبة جداً بين سورياولبنان.. بل هي أقرب من القريب كما يقال.. وتحققت هذه الأمنية في صيف العام الهجري 1425ه وعبرت حدود لبنان غرباً مخلفاً سوريا ورائي حتى وصلت بيروت عن طريق البر عصر يوم مشمس غير مُحرق باردٍ نسبياً غير ممطر.. وقد لاحت لي مدينة بيروت من بُ،عد لاحت في ذهني معلومات بسيطة تستوطن ذاكرتي منذ أيام الدراسة والطلب أي قبل ما يقرب من عقد ونصف من الزمان.. (فبيروت) عاصمة لبنان العربية ترقد على ساحل طويل من سواحل البحر الأبيض المتوسط.. جوها العام معتدل طارت شهرتها الثقافية كعاصمة للكتاب في الوطن العربي من حيث الطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.. كما يُحكى لي ملتقى السياح العرب.. خصوصاً في فصل الصيف.. هذه الصورة العامة عن بيروت ربما يشترك معي في معرفتها الكثيرون غيري.. ممن لا حظ لهم في القراءة والاطلاع ولكن من محفوظاتي القرائية.. أعلم أن بيروت ترجع في تاريخها الحضاري إلى أكثر من 17 قرناً خلت.. حيث قام بإنشائها الفينيقيون سنة 3000 ق.م، وكانت تعرف باسم (بيريتون) بيد أن الملك السوري (فريتون) قام بتدميرها عام 140 ق.م.. ليعيد الرومان بناءها.. فمنذ ذلك الوقت صارت قاعدة للنصرانية في منطقة الشرق الأوسط في العصور الوسطى.. ولبيروت تاريخ عريق.. وعلاقة حميمة مع الحضارات والأمم المتعاقبة.. إذ حكمها الآشوريون والإغريق والرومان والأتراك العثمانيون والفرنسيون.. وقد دخلها المسلمون في القرن الأول الهجري - السابع الميلادي - بل استطاع الإسلام كديانة ناسخة جديدة أن تزاحم النصرانية رغم قِدَم الأخيرة في لبنان.. لذا فالمسلمون والنصارى يعيشون جنباً إلى جنب في بلد واحد.. وفي بيروت.. أو لبنان بشكل عام طوائف متعددة.. ونِحَل مختلفة، فهي ملتقى المذاهب والأديان.. تتميز بهذا من بين دول الشرق الأوسط.. فمن الطوائف الإسلامية الموجودة في لبنان يوجد الشيعة والسنة والدروز ومن الطوائف المسيحية يوجد الأرمن والبروتستانت والسريان.. ويعتبر الموارنة أكبر طوائف النصارى في لبنان ولهم نفوذ سياسي كبير.. ما أعرفه عن بيروت سابقاً.. رأيته بنفسي وشاهدته عياناً.. حتى إن شارع الحمراء الذي طارت شهرته لاقترانه بوجود دور النشر والمكتبات الكبيرة على جانبيه.. وجدتني فيه ذات صباح مفعم بالدفء.. عابق بالجمال.. ومن مكتبة إلى أخرى ومن دار نشر إلى ثانية وتسويقاً.. ولن تزاحمها أي عاصمة أخرى ولسنين طويلة قادمة.. خصوصاً أن التاجر اللبناني المهتم بشأن الكتاب يمتاز بإحساس مرهف وذوق رفيع في ترويج الكتب بتقنية حديثة.. وطباعة مميزة.. ودعاية إعلامية لا يكاد ينافسه فيها غير التاجر المصري الخبير في مثل هذا النوع من التجارة.. لعل الرطوبة العالية التي تتميز بها (بيروت) كونها ملاصقة للبحر.. من أكثر الأشياء التي آذتني وعجلت بي إلى الخروج منها.. حيث تبدو (جونية) الواقعة شمال بيروت بمسافة لا تقل عن خمسين كيلومتراً.. مدينة رائعة.. تفوق العاصمة في طبيعتها الخلابة ومناظرها الجميلة ومرتفعاتها العالية المغطاة بالخضرة والسحاب.. ويتعذر الوصول إلى هذه الجبال العالية المخضرة إلا عن طريق العربات المعلقة أو ما يعرف باسم (التلفريك).. وقد قضيت يوماً كاملاً في مدينة (جونية) حيث لا يسكنها غير النصارى.. فهي لهم في الأصل.. وإن كان السائحون وأكثرهم غير نصارى يحبون الإقامة المؤقتة في (جونية) لما تمتاز به من موقع ممتاز. عدت إلى بيروت مرة أخرى حيث بقيت يوماً ثالثاً.. وكانت الإقامة التي اختارها لي السائق في فندق جميل يقع في منطقة الروشن.. إذ يبدو الفندق مطلاً على الشاطئ وسعره مناسب.. بل مناسب جداً إذ تتجاوز أجرته في الليلة الواحدة أكثر من 65 دولاراً.. وهو مبلغ زهيد جداً مقارنة بخدمات الفندق ونظافته وموقعه المتميز. ومن الملاحظ أن الأيدي العاملة في لبنان، خصوصاً في المطاعم والمقاهي هي من العمالة السورية.. إذ أن المواطن السوري يفضل العمل في لبنان حيث الأجرة عالية، مقارنة لما في بلده سوريا.. بينما اللبناني لا يفضل سوريا للعمل.. وإنما يفضلها لقضاء إجازته نهاية كل أسبوع، وهذه من المفارقات العجيبة بين الشعبين المتجاورين السوري واللبناني.. وقبل عودتي إلى دمشق بساعات حظيت بمقابلة السفير السعودي في بيروت د. عبدالعزيز خوجة.. وهو شاعر مبدع أعرفه من قبل عبر دواوينه الشعرية.. وما ينشره في الصحف والمجلات العربية.. وقد تفضل بإهدائي بعض الكتب النقدية التي تدور حول شعره.. وقمت بدوري فأهديته ديوانين من دواويني الشعرية المطبوعة.. وكم تمنيت أن تطول إقامتي في ربوع لبنان وبالذات في بيروت لأعرف المزيد عن خفايا وأسرار هذه المدينة الصامدة وأهلها.. وكم تمنيت أن أعرج على بعض المدن اللبنانية ذات الشهرة التاريخية والحضارية مثل: بعلبك وصيدا وصور وزحلة وطرابلس وجبيل.. وغيرها ولكن أنى لرب العائلة أن يتمنى؟ وأن يفعل ما يشاء؟ ومذ هاتفتني الزوجة من الشام تناشدني العودة إليها وإلى ابني الوحيد حتى حزمت أمتعة السفر مغادراً بيروت عائداً إلى دمشق الفيحاء.. عدت هذه المرة إلى الشام محملاً بالحنين والشوق.. لأن ما يربطني بدمشق ليس الحب الذي عرفته فيها صغيراً.. ولا الشعر الذي يلهمني إياه الشام فأنظمه حسناً وجمالاً في أسواقها وأنهارها ومآذنها الشامخة.. ما يربطني بالشام أكبر من ذلك وأعمق.. إنه رابط النسب والأخوة والامتزاج الروحي والنفسي بأرض الشام ومن عليها.. لذلك.. فحين قفلت راجعاً من لبنان الصَّمود.. ولاح لناظري وجه الشام الجميل وجدتني أهذي بأبيات شعرٍ لا يقولها إلا عاشق مدنف.. أو مشتاق أدماه الشوق وأضناه.. ومنها: مَنْ ذاقَ طعمَ الهوى في الشام عادَ لهُ فكلّ شيءٍ بأرضِ الشامِ موجودُ الأرضُ مخضرّةٌ.. والحسنُ مؤتلقُ والماءُ منسكبٌ.. والظلُّ ممدودُ تأتي إليه جموعُ الناسِ واجمةً فيرجعون.. وفي آماقهم عيدُ نالوا الأماني.. وقد زالت مواجعهم وكلُّ بابٍ إلى الأحزانِ مسدودُ إلى أن أقول في ختام هذه الأبيات (القصيدة): ما هنتَ يا شامُ.. بل هانَتْ ركائبنا إن لم تصلْكَ.. فأنت العزُّ.. والجودُ عُدْنَا إلى الشامِ في شوقٍ نعانقُه وكلُّ عَوْدٍ بُعَيْد النأيِ محمودُ!