أكثر ما يثير حفيظتي، تصورات البعض البعيدة - كلَّ البعد - عن منظور الواقعية التي نعيش على بساطها، وتتزايد تلك التصورات حتى تنقلب إلى نظريات قد يحاول البعض يوماً من الأيام أن يفرضها على الآخرين بشكل لا يؤول إلى القبول البتة، ويخول الأيام بعد ذلك إلى نشوء صراعات ونزاعات لا ندري كيف نطفئ نيرانها الملتهبة، والتي طاول لظاها كل المحيطين بها، ولسعت بلهيبها كل من يحاول الكنه بشيء من أمورها. البعض يحاول السير على خيط رفيع متنافٍ مع كل الرؤى والوقائع السائدة، يسير بذلك على مبدأ (( خالف تُعرف ))، ولو لحقه ما لحقه من انتقادات وعبارات تناطح بجبروتها صواعق السماء، فلن تحرك له جفناً، وقد التزم السير على ذلك الطريق لا يحوله دونه شيء. المثير للجدال أن هذه التصورات لا تلبث أن تتبخر كأن شيئاً لم يكن، على الرغم من استماتة صاحبها والذب عنها بكل قصارى جهده، والعجب المفرط أن تموت تلك الدعوات ثم ينبت من جديد مَنْ يعمل على نبشها والبحث عنها، وإحياء مواتها مرة أخرى بعد أن انقضت وزالت، وكأنهم قد عصبوا أعينهم عن رؤية ما يستجد من وقائع تستدعي معها الدراسات والبحث والنظر، وكأنهم للتو فاقوا من سبات عميق ! رغدوا فيه بنوم وفير، فتكيفوا أموراً وركبوا أمواجها وخاضوا عنانها، ولم يملكوا مجرد خلفية استيضاحية عما يغمرون أنفسهم فيه.. ولأن تجرد الأقلام لمواصلة تلك الطرق المسدودة مآلها فهو ضرب من الخيال، المفترض أن تتخذ من الواقع منطلقاً، وسبيلاً للمضي قدماً لما تصبو إليه من أفكار تحمل طلعها خيرا للمستقبل، وتحقق تقدماً محرزاً يعم رغده الجميع، بدلاً من الضياع في مهاترات ممجوجة، لا تلقى لها سمعاً إلا مَنْ طمر رأسه في التراب، وأطفأ عن عقله سراج الفطنة، ولذا تراهم في كل مرة يتخبطون، لا يعرف لهم قرار يتشبثون به، فما يواكب أحلامهم يتعلقون به بأرواحهم، ويظلون في دفاع عنه شديد قبل أن يتركوه ويغادروا إلى غيره ويلقوا الحجارة الغادرة على ما سلف.. وبذلك يطمئن للقلب فقدان المرتكز الثقافي والنظرة الصائبة إزاء ما يُطرح من أمور، ولا تزال تعاني من نقصها أينما حطت رحالها، ومعها تملّ العقول المدركة وتدير الرؤوس ولا ترهف الأسماع. ويرجى من خلال ما سلف أن تكون النظرة الواقعية سيد المجال في الطرح، حتى تجد لها عقولاً تهتم بما يقال، وتسعى إلى المشاركة وبث روح المبادرة، وبعدنا عن مواكبة الواقعية لا يزال معضلة نعيش أحداثها، فنحن نخوض في غمار الأمس واليوم، وغيرنا يخوض غمار السنين القادمة، مواكبةً وتميزاً وطموحاً وارتقاءً.. ولو أمعنّا النظر وركزنا الفكرة لكنا واقعيين، ونفوق ذلك بتميز أكثر وأكبر.. ورغم أن ركائزها حاضرة فما زلنا نتصارع على نظريات بعيدة عن واقعنا، لم يشك منها مَنْ قبلنا، بل ولم يلفتوا لها النظر، في حين قد سلطنا همومنا وكل حياتنا تجاهها، ومعها توقفنا عند نقطة صامتة، ورغم تعاقب السنين المتلاحق لم نزل نرتكز عليها جامدين، تعجز قوانا عن الحراك، وقد كبلتنا أمور عن استحثاث نقطة التحرك، وطفقنا نصارع جمودنا الثقيلة، وفوقها تمثل غيابنا الواقعي عن مستجدات الأمور ومنارات السرعة، وقد انطلقوا بسرعة الصواريخ، وانطلقنا نحن بسرعة وقع الخيول، وغبارها يتعالى في الأصعدة، ولجامها يفلت من قبضة اليد، وفارسها يضطرب.. أَبَعْدَ ذلك نحاول أن ندرك غيرنا؟! وقد أزاحوا مشكلات الماضي، وعاشوا مشكلات الحاضر وسعوا لها بالحلول والافتراضات، وافترضوا مشكلات المستقبل ووضعوا لها خططاً وبرامج!! ها نحن بعيدون عن الواقعية في الكرة الأرضية، ونعيش واقعية المريخ في قلب المجرات السماوية، ومشعل النور لا يزال مركوناً ينتظرنا، إلى متى يطول انتظاره ؟!، لا علاج سوى الأمل والصبر.