هذه الغراس تزهو جذلاً مع أنداء الصباح.. تمتد بها الأماني.. تختزل في ذاكرتها وداً ورضًا من معلمة توثقها في ورقات تظل خالدة في فؤادها. هكذا تبدو الحياة المدرسية.. قراءة في أعماق الذات.. مراعاة لفروق وهبها الله تعالى لهؤلاء البشر.. تباين في الطبائع.. اختلاف في التوجهات يرصدها المربي.. ويخضعها للتأمل، ويستفيد منها في علاج المواقف اليومية. إنه الأسلوب التربوي الذي يتمتع به صاحب الرسالة التعليمية بمعانيها النبيلة ومنطلقاتها السامية، وتكاد تكون هذه صفة ملازمة للموقف في الميدان التعليمي.. وحينما قرأتُ بتأمل تداعيات قصة الطالبة (ريهام) مع مديرة المتوسطة في عنيزة حسبما نشر في العدد 11690 أثار حفيظتي أمر، أن الميدان التعليمي لا يزال يحتضن ببالغ الأسف نماذج تظلُّ عاجزة عن احتواء بعض السلوكيات؛ مما يجعلها في مواقف حرجة، وهي تعبِّر عن إخفاقات نفسية واجتماعية لا ترى من خلالها سوى التغيير بالقوة.. واستعجال النتائج، وهذه سلبية فيمن يرغب في تربية النشء. نحن في قضية شائكة مع مدارس البنات؛ لأن هنالك إصراراً على وضع الحياة المدرسية في ظل إطار تقليدي بسيط.. فالحذاء ذو اللون الأسود.. والثوب المدرسي المقنَّن بحدَّة أول التعليمات في وجه الطالبة مع بداية العام الدراسي. ثم تأتي مقصات تقليم الأظافر.. ويعقبها آخر حديدي.. هذا فضلاً عن نظرات وعقوبات تفتقد إلى الأسلوب التربوي الحديث، وكأن الأمر لا يعدو أن يكون داخل أسوار (الباستيل). وهذا أمر مزعج بحد ذاته، ويحتاج إلى تصحيح وبث الوعي لدى الإدارة المدرسية، وأعتقد أنه امتهان لإنسانية المتعلم، وسلب لحريته الشخصية. وليس مسوغاً أن نجعل من المدرسة مكاناً ننفِّر منه النشء، وينظر إليه شزراً.. ولا يحق لأصحاب القرار أن يكون للتقليديين مجالهم في الميدان التربوي. إنني أعتقد أن بناء وإعداد المواطن الصالح لأمته لا يأتي من خلال التغيير بالقوة، أو الإصرار بعنف على اتباع نمط سلوكي معين، بل بالتوجيه الجاد.. اللطيف الذي يقدر للمتعلم إنسانيته وشخصه، وأنه له كيانه وقيمته في هذه الحياة. كفانا بؤساً ورعباً من تلك المدرسة ذات البناء الطيني وقتئذ.. أو ذاك (المعلم بالضرورة) الذي لا يجيد سوى مطرقة العصا الغليظة.. وكفانا كرهاً لتلك الإدارة المدرسية حينما لا تستطيع التعبير عما يجول في خاطرك، لمجرد أن (الفلكة) معلَّقة على الجدار المتهالك!!... فكم من طالب هرب من مدرسته.. وأبغض مادته، وكره معلمه (؟!) فلم يجد سوى البحث عن البدائل التي ربما أضحت عبئاً على ذاته.. وعائلته.. بل وحتى مجتمعه!! وأكاد أصدقكم في هذا المجال أنني أتردد كثيراً لإبداء التحية والتقدير لمعلمي السابق لشيء فقده.. أتدرون ما هو؟ إنه الشمول الأبوي التربوي الصادق.. فكفانا هذا كله.. ولا نريد أن نتخلف عن الركب الحضاري لبناء الإنسان!! لعل الأيام الحبلى بمفاجآتها تبدي لنا تساقط ما تبقَّى من هؤلاء المعلمين القدامى، وليس الأوائل، من الحياة المدرسية بعد أعمال تراكم فشلها طيلة حياتهم في العمل التعليمي. أخيراً.. آمل ألا تكون (ريهام) حملت في ذاكرتها الغضة بؤساً يزداد جرحه مع كل خطوة نحو مدرستها.