إن الرعيل الأول والجيل الذي تلا عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعد أن انبسطت لهم الأرض، وأرغد العيش بين أكفهم، ووارف الظلال تحت جنحهم، وبعد أن تداعت الأمم إليهم، وسكتت طواحين الحرب، بات السكون والدعة يكشف عن أسراره ومكامنه، فصار اللاهي والمغرق في الهوى ولذائذ العيش تارة، انطلق من بينهم كوكبة من العلماء مشعة، منهم الباحث عن صحيح الأحاديث الجامع لها، ومنهم الباحث عن أصول اللغة وأصيل الشعر، ومنهم المترجم عن لغات الأمم الأخرى، فأمستْ لياليهم أقماراً من الدرر العلمي، فبعد مر العصور وصولاً إلى عصرنا هذا، جاء الأعجمي وأطبق أضراسه على اللغة، ونخر سوسه فيها، فمن طبعهم إمالة اللسان، فتأثر العربي بهم وأمال لسانه مقلداً، أو متفاخراً أو مازجاً بين عربيته ولغة العجم كِبراً وتخايلاً، ظاناً أنه قد ارتقى، وما يدري أنه انكفأ على وجهه، وهزئت اللغة منه، حين سلخ من لسانه حروفها وعربيتها وشريانها الذي لن ينقطع من ضخ الدم في عروق المحبين لها، فما كان يستعملها لوجهها وموضعها، فصار هذا النوع من الحديث الممزوج بالعُجمى مع أبيه وجاره ومعلمه، تشدقاً وإسفافاً. *** فالعرب الأوائل كانت لغتهم سليمة من العيب، نقية من الدخيل والمولد، فما اللحن يوجد، ولا الشاذ يستعمل، فلذلك جاءت كتبهم مسبوكة العبارة، لطيفة اللفظة، رائعة البلاغة، مبهرة الفصاحة، فكتبهم وكتاباتهم ورسائلهم تجيء في نسق وتناغم عفوي بعيد عن التكلف، فما تغيرت ولا تبدلت أساليبهم؛ لأنهم مع من يحادثون ومع من يحاورون ويناقشون وحتى مع من يخاصمون، بلغة واحدة ونطق واحد لا يغيرونها. أما إن جئت إلى عصرنا فإننا نلبس وجهين، أقصد لغتين متباينتين، الأولى بعيدة عن الثانية بُعد عصرنا عن عصر النقاء وأهل اللغة؛ لأننا بعاميتنا نخاطب ونفاهم ونجادل، ونأكل ونشرب، هي مسرانا ومعاشنا، وهي بيعنا وشراؤنا، فالأسف الذي يؤسف عليه أن أصول اللغة قد اندثرت عند عامة الناس أو كادت، فصار المتعلم يتلقاها بصعوبة وعناء ومشقة، فمنهم من يتقن فنها وهم قليل، ومنهم من يتلمس أطراف علمها، ويدرج في حياته معتقداً أنه تفنن بجوهرها، وما يدري أنه قرع باباً من أبوابها دون الولوج إلى قاعها ومكنونها.. ومن الأسف كذلك، من الناس من يدعو إلى ترك اللغة وقواعدها ويدعو إلى ما تعارف عليه الناس، وجعل لغة بعض كتاب الصحف الركيكة، مقياساً لذلك، فقال: (دعونا من وعورة قواعد اللغة وصعوبة استيعابها، مَنْ الذي يفهمها؟! أناس قلة، لا يقاس عليهم)! وهذا داء عضال، يحتاج إلى علاج أو إلى استئصال مُعْتَقَدِهِ تجاه اللغة، فما علينا إلاَّ الدعاء له بأن ييمم وجهه شطرها، ويقبلها بنفس رضية، ثم بعد ذلك تنسال عليه إن أراد الله. وليعلم أن كل عمل أصيل هو شاق المأخذ، وعر المسلك، فإذا أقدم عليه وصدق فيه واستشربه، صار هين المدرك، سهل المنهج. واللغة الثانية: هي مقصد مقالتي هذه (بعثرة اللغة بين الفصيح وسواد العامية في عيون أهل اللغة وعامة الناس). فالكاتب يتحدث كل يومه بحدثِ لغةٍ غير اللغة التي يكتب بها، فهذا أنهك لسانه، وأُتْعِب في لغته، فقد يغلط أو يلحن، وكثير من الناس ما يلتبس عليه الفصيح من العامي؛ لأنه بين لغتين معتركتين تناقض الواحدة الأخرى، وإذا علماء اللغة يثرِّبون عليه يؤنبونه على غلطه باللغة لأنه تخطى حدودها وانتهك حرمتها، وإذا التزم بقواعد اللغة وطفق يكتب بلغته فصيحة يملؤها البيان والبديع، ويفتن برياضها، ظهر من عامة الناس من يلومه على تعمقه وغرابة لفظه واستخدام وحشي اللغة على سوء تقديرهم للعمق والغرابة والوحشي، فهو بين قسوتين تتضاربان، فأيهما المنجد؟! ولست أدعو إلى ترك اللغة على سلائق الناس أن يعبثوا بها كيفما شاء المتحدث أن يتحدث بلحن، أو يأتي بألفاظ عامية على قدر ما تساعده لغته أن يقول، لست كما يظن بعض العامة ذلك، فإنني أدعو إلى التزام الكاتب بلغته، وعدم الحيف عنها، ودراسة لغته دراسة وافية، حتى يحسن الكتابة متى أراد، وأن يتكلم متى شاء بفصيح اللفظ، وبلاغة الكلمة، وألاَّ يقسو المجتمع عليه بنوعيه. *** وإن من علماء اللغة من هذا العصر لو أنهم عاشوا في العصور الأولى لكان لهم حظ أوفر من أهلها؛ إذ وهم تحت لغات متلاطمة اللجاج، استطاعوا الحفاظ على لغتهم الأم، دون الخلل بها، بل ان منهم من استدرك على علماء سالفين بأخطاء لغوية ما كان يقع بها أحد من عصرهم، فبينوا الصواب، واظهروا الخافي، ورجحوا الراجح. ورغم هذه البشاعة من عامة الناس بلغتهم، إلا أنهم يجدفون بعلمهم وفصاحتهم، وشروحهم وبسطهم لعويص اللغة. والحق في ذلك أن يدرك العربي أن لغته قد نُقِّحت من قذى الحاسدين، وسلمت بجهود علمائها وبثروات علمهم المقيد في الكتب، ومن قبلهم رب العزة والإكرام الذي تعهد بحفظ كتابه العزيز الذي ساهم ولا يزال بحفظ لغتنا، فصار لنا درعاً مانعاً وحصناً واقياً. فالمنى كل المنى أن يلدوا لنا مَنْ يحمل ألوية ومثاقيل مكنزة، وسرايا من البديع النقي، من المعارف التي تحتاجها اللغة، ومن دحر كل من ينتهك حرمات لغتنا، لا عُدمنا أثرها ولا شقينا بفهمها.