كتاب (طوق الحمامة في الألفة والألاف) لصاحبه الفقيه الجليل ابن حزم الأندلسي، وهو كتاب يحوي فلسفة الحب كما يراه صاحبه، وهو من أقدم الكتب العربية التي تناولت هذا الموضوع، فقد سبقته بعض الكتب منها (الزهرة) لأبي داود الأصبهاني، وقد عارضه كتاب (الحدائق) لأبن فرج الأندلسي، وطوق الحمامة يضرب مثلاً لما يلزم ولا يبرح ويقيم ويستديم (ثمار القلوب للثعلبي: 460). وقد يعلو الشك لدن بعض الذين يعرفون ابن حزم في صحة نسبة الكتاب إليه، ذلك أنه فقيه لا يفتأ عن الدعوة لمذهبه الظاهري الذي يأخذ بظواهر النصوص كما هي بلا تأويل أو ما شابه ذلك، فقد خال معظم أئمة عصره للذود عما يؤمن به ويعتقده، فهو يكاد يكون أبعد شيء عن الخوض في الحب، بل ذهب بعضهم إلى تكذيبه في أنه ألّف كتابه هذا تلبية لصديق له سأله أن يكتب له رسالة في الحب، يقول ابن حزم: (وكلّفتني - أعزك الله - أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه..) ص: 12 . من هؤلاء الذين زعموا أنه لم يسأله أحد، بل هو من تلقاء ابن حزم، الدكتور أحمد هيكل في كتابه (الأدب الأندلسي) فقد قال: (وقد يكون ابن حزم قدم بذكر هذا الطالب كتسويغ لتسطيره هذا الكتاب، وهو ما أرجحه). والسبب في ذلك (فإن ابن حزم كان معروفاً بين الأندلسيين كفقيه لا كباحث في الحب). ووجه الغرابة في ذلك (أن يسأله سائل أن يحدثه حديثاً مفصلاً عن الحب ومعانيه وأسبابه وأغراضه، لا عن الفقه الظاهري والأصول والتوحيد وما إلى ذلك مما من شأنه أن يسأل عنه) ص: 396 . هكذا جنى الدكتور علي ابن حزم الذي شهد له كثير من العلماء بالعلم والفقه وخدمة الدين والذود عنه، وغاب عن الدكتور أنه وقع فيما لم يفطن إليه، وهو أنه افترى فرية كبيرة على من شهد له هو بالعلم والفقه، فكيف يكون لابن حزم خلق كهذا الخلق الذي يجعله يكذب هذه الكذبة التي لا تليق بمثله، وبلا أدنى ريب فقد انتقص الدكتور المحترم ابن حزم شر انتقاص، فإذا كان ابن حزم كاذباً في دعواه تلك فكذبه في مضمون الكتاب وما جاء فيه من باب أولى، ونعم، نقف على كثير من الذين يقولون إنهم ألفوا كثيراً من الكتب بطلب من فلان وغيره، أما ابن حزم فلا أراه كاذباً في ذلك البتة، ثم ما الذي يجعل الدكتور يميل إلى هذا؟ هل في حديث الحب وبيان ماهيته وأسبابه ومعانيه وأغراضه ما ينقص النفس المؤمنة؟ إنني لا أجد في الكتاب ما يشين من ذكر فاحش أو بذاءة أو سفه، بل يغلب عليه التحذير من مغبته، وأنه سم زعاف لمن أطلق العنان لنفسه ولم يعف ويكتم، بل أطلعنا على أنموذج للمؤمن العفيف الذي لا يرتع في هذه الطرق الملتوية التي تورده موارد التهلكة من جراء الحب السلبي، يقول ابن حزم: (وإني أقسم بالله أجلّ الأقسام أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنى مذ عقلت إلى يومي هذا، والله المحمود على ذلك والمشكور فيما مضى والمستعصم فيما بقي) ص:170 . إن الدكتور ليعلم عن نشأة ابن حزم، وكيف أنه قد نشأ بين نساء حتى ناهز الحلم، فهو قد يكون أعلم من غيره بأمور الحب وأطرافه، كما أنه يلمح ذلك في بعض أصحابه الذين عشقوا فعفوا، وشيء آخر هو أن الدكتور استغرب أن السائل لم يسأله عن أمر من أمور الفقه، بل اقتصر على أمر الحب، وكأني بالدكتور لم يفطن إلى أن هذا السائل هو من المقربين لابن حزم وليس مثل غيره، بل إن مثله يسأل هذا السؤال بلا تكلف أو مداراة، فقد ذكر ابن حزم صفات هذا السائل التي تدل على أنه كذلك، وبالقابل فإن السائل ذكر في رسالته لابن حزم أضعاف ما ذكره ابن حزم، فليت الدكتور توخى الرفق والتمحيص قبل أن يذهب إلى هذا المذهب الذي لا أرضاه لابن حزم. [email protected]