من بين مئات المستشرقين الذين تناولوا بالبحث والاهتمام تراث العرب والمسلمين، يظل المستشرق كارل بروكلمان أكثرهم احتفاءً بهذا التراث وولعاً في الغوص والبحث والتصنيف في ميادينه الواسعة ومجالاته المختلفة. وكانت حصيلة ذلك أن ترك لنا ما لا يقل عن مائة أثر مطبوع في آداب العرب وتراث المسلمين، ولعل في مقدمة مؤلفاته وأكثرها انتشاراً موسوعته عن تاريخ الأدب العربي التي جمع فيها مظاهر الحياة الأدبية والفكرية والثقافية، منذ عصور الجاهلية، وحتى العصور الأدبية المتأخرة في العهود العباسية والأندلسية. وبروكلمان في هذا الكتاب ينطلق من مفهوم الأدب بمعناه الواسع الشمولي، الذي يضم الشعر والفقه، وعلوم الحديث وفنون النثر، وعلوم الفلك والطب، والجغرافية والتاريخ والرياضيات، وذلك بما يعطي القارئ صورة واضحة عن أهمية هذا التراث وتنوّع فنونه وميادينه، وبذلك أسدى لهذا التراث خدمات جلّى إذ عرَّف العالم بما أبدعته الحضارة العربية - الإسلامية، من نتاج فكري وعلمي وأدبي، كان له تأثير واضح المعالم على تراث الأمم الأخرى، لا يمكن نكرانه أو تجاهل أمره. ولا تقتصر جهود بروكلمان عند هذا الأثر القيِّم، فله جهود أخرى تغني ما سبق، وتضيف إليه جوانب أخرى بهدف اكتمال تلك الصورة المشرقة التي أراد أن يوضح جوانبها العلمية والمعرفية، وفي هذا المجال انصبت جهود بروكلمان على إعداد قسم واسع من مادة (دائرة المعارف الإسلامية)، حيث حرر فيها أكثر من مائة وعشرين مقالة متنوِّعة تناول بها بعض القضايا والمصطلحات، والأفكار والموضوعات التي تخص تراث العرب والمسلمين في سياق منهج علمي، اتصف بالنزاهة والموضوعية والإحاطة بجوانب الموضوعات التي تطرق إليها في هذا المجال. ويعد كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) دليلاً آخر يؤكِّد ولعه وشغفه بهذا التراث، حيث تحدث بروكلمان عن مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والعمرانية والسياسية والاقتصادية للشعوب الإسلامية، وفصَّل الحديث حول ظهور الإسلام، وانتشاره وما أعطاه للعالم من نواظم ومبادئ كانت الأساس لنشوء حضارة جديدة اتسمت بهوية إسلامية دانت بها شعوب كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها. وفي هذا الكتاب تناول بروكلمان التاريخ الحديث للدول والشعوب الإسلامية، ولا سيما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فوقف عند تاريخ مصر وتركيا وشبه الجزيرة العربية، وسورية ولبنان والعراق والدول الإسلامية الأخرى في آسيا الوسطى، وغيرها من الأصقاع والأمصار. واهتمامات بروكلمان لم تقتصر على المؤلفات السابقة والموضوعات الآنفة، فله إسهامات لا تحصى في ميادين تحقيق المخطوطات، وتوثيقها وتصنيفها، ووضع الفهارس الدالة عليها، إضافة إلى مؤلفاته الأخرى التي دوَّن بها تراث الشعوب الإسلامية وفلكلورها ومروياتها الشعبية وأمثالها وأساطيرها، وفنون الغناء لديها، وأنماط الشعر والعادات والتقاليد المتوارثة بين أجيالها، وهو بهذا الجهد المتفرِّد حفظ مادة مهمة من الضياع وصانها من الإهمال والنسيان، فكان علمه ينصب في توثيق جوانب الحياة وخاصة في مجالاتها الشعبية وتراثها المعبر عن خصوصيتها المحلية. بقي أن نشير ونحن نتحدث عن هذا المستشرق المنصف أن بروكلمان درس اللغات القديمة، ونهل من علوم العربية وتبحر في فنونها، وغاص في أعماقها على يد مجموعة من كبار العلماء والمستشرقين، ولمكانته العلمية انتخب عضواً في العديد من المجامع العلمية واللغوية في برلين وبودابست وبون ودمشق وسواها. كما كان محاضراً في أشهر الجامعات الأوروبية آنذاك وفي طليعتها: بروسلا وبرلين، وكونسبرج وغيرها من المعاهد والمنتديات والمؤسسات الثقافية والعلمية.