كنتُ أزمعتُ آثرَ ذي أثيرٍ ألا أسيّرَ قلمي في رثاء شيخنا (محمد السعوي) - رحمه الله وأمّنه - وما بي من رغبةٍ عنه ولا انفتالٍ, ولكني رأيتُ الرّزءَ جللاً لا يكاد يقوم به قولي, ولا تقضي حقّه جوارحي! إلا أن نفسي لم تسكنْ إثْرَه وكادت تذهبُ عليه حسراتٍ, فلم تكن تنفك عني خيالاتُه ولم تفارق خاطري وقعُ كلماته, ولا أشتاتُ صُوره وهو يتحدث أو يجول!! وهكذا هم الأولياء الصادقون فإن موتهم موتٌ للناس كافة, والحزنُ عليهم مشترَك: والناسُ مأتُمهم عليه واحدٌ في كلَ دارٍ رنّةٌ وزفيرُ وقد عرفتُ الشيخَ محمداً السعوي في المعهد العلمي ببريدة, حيث درسنا في السنة الماضية القرآنَ الكريمَ,واجتهدَ في ذلك الاجتهادَ كلَّه, وكنا إذا فرغنا من القراءة عليه وبقي في الدرس بقيّةٌ جعل يلقي علينا النصائح المتعلقة بشؤون الشباب وقضاياهم بأسلوبٍ محبّبٍ, وطرحٍ حسن! كان -رحمه الله - بَرّاً رفيقاً, نبيلَ النفسِ, كريمَ الخلق, عفَّ اللسان, حسنَ المعشر,هادئاً, يجمع إلى الوقار والمهابة الظرفَ والاستئناس! وكان طويلَ السّكْت, لا يتكلمُ إلا لحاجةٍ, راجحَ اللبّ ذا حكمةٍ وبيان, ولم أعهدْ عنه أنه سطا بأحدٍ أو آذاه بقولٍ أو فعلٍ! إذا ما تراءاه الرجالُ تحفّظوا فلم ينطقوا العوراءَ وهو قريبُ وكان لا يفارقُ شفتيه ابتسامةٌ لا تكاد تتبينها بعينك, ولكنكَ تحسّها بقلبك, ومهما يكن فقد جمع ضروباً من الأخلاق الشريفة, والخصال الحميدة: ردّتْ صنائعُه إليه حياتَه فكأنه من نشرها منشورُ يثني عليكَ لسانُ من لم تُولِه خيراً لأنك بالثناء جديرُ ولم يكن فقده علينا هيّناً, ومن ذا الذي استطاع أن يغالبَ أحزانَه ومواجعَه, ولكنّ العزاءَ أنه رحلَ غيرَ مذكور بسوء ولا معروفٍ بشر, بل لم يُعهد عنه إلا الخيرُ والإحسانُ, ومحاولة تقفي الخُطا النبوية في كل شأن من شؤونه, مع زهدٍ وورع وتصوّن عن كل ما يشين! لعمرُك ما وارى الترابُ فعالَه ولكنه وارى ثياباً وأعظما!! وقد كان آخر عهدي به يومَ أنْ كان لدينا درسٌ غابَ مدرّسُه فحضر مكانَه وهذا قبل عدة أسابيع, وفي يده كتابٌ إخالُ عنوانه (عشاقُ الكتب) فقرأ علينا ذَرواً من أخبار عشاق الكتبِ وأحوالهم معها, ومبلغِ كلفهم بها, وأذكرُ أنه قالَ لنا أولَ ما دخلَ الفصلَ: (ها نحن هؤلاء قد عدنا مثلكم طلاباً, وهذا هو العلم, فالناس عنده سواءٌ, وليس لطلبه حدٌّ ولامنتهى...) يشير إلى جلوسه في مقعد الدراسة للتحضير للدكتوراه, وفي آخر الدرس سألتُه عن عنوان رسالة الماجستير التي ألفها, فأخبرني, ومن يومئذ لم أرَه - رحمه الله وعفا عنا وعنه- : ولو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتُه عليه ولكنْ ساحةُ الصبر أوسعُ وحسبُك - يا شيخنا - مآثُر شاهداتٌ على فضلك, مقرّاتٌ بتقواكَ - إن شاءَ الله - وتقدّم إعدادكَ الحسن لمثل ما قدمتَ عليه, والله يجازي بالقليل كثيراً ويعفو عن السيئات وهو الغفور الرحيم : رحمَ الله مصرَعكْ برَّدَ اللهُ مضجَعَكْ! [email protected]