في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) تعترف المستشرقة الألمانية زغريد هونكه بفضل الحضارة الإسلامية على حضارة الغرب، وترى أنه لولا جهود العرب والمسلمين في مجالات العلوم العقلية والنقلية في الطب والمنطق والرياضيات والجبر والفلك والهندسة، والأدب والفلسفة والجغرافيا لظلت أوروبا ترزح تحت دياجير تخلفها زمنا طويلا، ولتأخرت بذلك النهضة الأوروبية المعاصرة قروناً طويلة. ولاريب في ذلك فأبحاث مئات العلماء الأفذاذ الذين سطعوا في سماء الحضارة الإسلامية ومؤلفاتهم والنتائج العلمية التي وصلوا إليها قد حققت قفزات واسعة، ونقلات حقيقية في ميادين العلوم التجريبية والفكرية، وشكلت الأساس لما نهضت عليه حضارة العالم في ميادينها المختلفة. ومن بين هؤلاء العلماء الأفذاذ نذكر البيروني صاحب المؤلفات المشهورة، والأبحاث الواسعة في مجالات العلم وميادينه، فهو من أبرز العلماء الذين اشتغلوا في ميادين الرياضيات والهندسة وعلم الجبر والفلك والكيمياء. ولد البيروني سنة 362ه، في مدينة كاث بخوارزم، وكانت وفاته سنة 440ه، واسمه محمد بن أحمد، وكنيته أبو الريحان، ونسبته الخوارزمي، أما لقبه البيروني، فذكر في معناه ان بيرون تعني بالفارسية خارج المدينة، أو السور، ويراد به من هو وافد إلى المدينة، وليس من أهلها، وقد يطلق على من يعيش جل حياته بعيداً عن مدينته فيصبح بحكم الابتعاد وكأنه غريب عنها. وقد أفاضت مصادر الأدب، وكتب التراجم في الحديث عن البيروني وصفاته وسماته، وأخلاقه ومؤلفاته وتصنيفاته في حقول الأدب والتاريخ والفلك والرياضيات، فقيل عنه: كان حسن المحاضرة، طيب المعشر، لم يأت الزمان بمثله علماً، ومنهجاً، منفحتاً على ثقافات عصره، وأهل زمانه، ملتزماً بحقائق العلم، متجرداً عن التعصب والهوى، جريئاً في نقده معتزاً بذاته. كما تشير المصادر إلى شيوخه الذين أخذ عنهم العلم ورحلاته العلمية، وصلاته بعظماء عصره، وعلى رأسهم السلطان محمود الغزنوي الذي اصطحبه معه ورافقه في غزواته، وأقام في بلاطه متفرغاً للبحث والتأليف والتصنيف. والمصادر التي تتحدث عن البيروني تذكر انه له من المؤلفات والمقالات والرسائل ما يربو على 60 أثراً، تنوعت بين علوم الهيئة والنجوم والجغرافيا والفلك، والطب والصيدلة، والهندسة والجبر والأدب والتاريخ واللغات، وخصائص النباتات والمعادن وغيرها من الميادين الأخرى، ولكن المحقق من ذلك النتاج المهم والمنشور منه لا يزيد على عشرة مؤلفات، من أهمها مؤلفاته الآتية: - تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة. - الآثار الباقية عن القرون الخالية. - التفهيم لاوائل صناعة التنجيم - تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن. - الجماهر في معرفة الجواهر. - استخراج الأوتار في الدائرة لخواص الخط المنحني الواقع منها. - رسالة في الأبعاد والأجرام، وبعض الرسائل الأخرى له. ويعد كتاب البيروني (تحقيق ما للهند من مقولة) من أهم مؤلفاته وأكثرها شهرة وانتشارا، وهو كتاب جامع أرّخ به للهند في لغتها، وعاداتها وأخبارها وعلومها، وما نسب إليها من معارف وأفكار، إضافة إلى أعيادها وطقوسها وأشكال العبادات فيها. وأهمية هذا الكتاب ان البيروني كان واسطة الاتصال بين أهل موطنه، وبين أهل الهند فنقل علوم الهند إلى أهل وطنه، وعرّف أهل الهند بتراث وطنه، وكان منهجه في هذا الكتاب يقوم على جمع المعلومات وتوثيقها، والتأكد من صحة نسبتها، منتقدا في الوقت ذاته منهج الهنود العلمي، لأنهم من وجهة نظره خلطوا حقائق العلم بانحرافات وأوهام، ومزجوا بطريقة ما بين مبادئ الفلسفات الفيثاغورية والافلاطونية، وعلوم اليونان بحكمة الهند وعلومها، مشبها ما في كتبهم من الحساب والتعاليم، بدر ممزوج ببعر، وذلك بالرغم من اشادته بعلومهم، والاعتراف بفضلهم وعدم التقليل من شأن إبداعهم، وتقدير أهمية ما أعطوه وأضافوه إلى مسيرة العلم والفلسفة، وهذه بعض صفاته التي تميز بها في نقده وموضوعيته ونزاهته الفكرية والعلمية.