لا شك أن للدعوة أهمية بالغة في حياة المسلمين تنبع من أهمية غاياتها ومقاصدها المتمثلة في تعبيد الناس لرب العالمين وتعريف الخلق بحقوق بعضهم لبعض ليلتزموها ويقوموا بها بما يحقق لهم الألفة واجتماع الكلمة ووحدة الصف وينأى بهم عن النزاع والشقاق والتناحر، امتثالاً لقول الحق - جل جلاله -{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}. وتحقيق هذا المقصد السامي يحتاج إلى استحضاره بقوة من قبل الداعي والمدعو الملقي والمتلقي لأن الجميع في سفينة واحدة ومصيرهم في الدنيا واحد، ومسؤولية الكلمة عظيمة وخطيرة. ولئن كان الداعية أو الخطيب أو الكاتب أو المتكلم يمتلك ناصية البيان وزمام الحجة والبرهان فإن أزمة القلوب بيد علام الغيوب، والنفوس لها حظوظ ورغبات والشيطان ينزع وليس كل أحد قادر على طرح حظوظ نفسه ودفع نزعات الشيطان وتوهيمه وللفهم والاستيعاب حظه من التفاوت بين المتلقين ومن هنا يتأكد الاهتمام بما يعين على تحقيق الاستجابة ويبعث في النفوس القبول من خلال العناية بمفاتيح القلوب ومقومات التأثير والإقناع الإيجابي ومن ذلك ما يلي: أولاً: مراعاة أحوال المخاطبين والفروق الفردية في شخصياتهم ومداركهم وبيئاتهم وعاداتهم وطرائق تفكيرهم، فلا يُحَّدثُ أقواما بما لا يفهمونه أو لا يستوعبونه ففي الصحيح (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا صار لبعضهم فتنة)، وقد أثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون تريدون أن يكذب الله ورسوله). ثانياً: الاجتهاد في أن يكون الخطاب في غاية الحسن كما قال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}، وقال سبحانه: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}، والناصح الحصيف يبتعد عما يصد عن قبول الحق من الألفاظ والأفعال والإشارات والانفعالات. ثالثاً: الاهتمام برسم الانطباع الإيجابي الأول في ذهن المتلقي ونفسيته من خلال أمور منها: 1 - الابتسامة الصادقة إذ هي أول وسائل الاتصال بين المتحدث والمستمعين وهي تختصر المسافات بينهم وتزيل كثيراً من الوحشة وتشعر المقابل بالأمان والراحة والاطمئنان كما أنها تعكس ما في باطن المتحدث من الصفاء والنقاء والصدق والاحترام والتقدير ومحبة الخير للمتلقين، وهي صدقة لصاحبها وفيها فوائد نفسية له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلق أخاك بوجه طلق)، والابتسامة فعل جميل يزيد الوجه إشراقاً وينم عن شخصية واثقة متزنة متفائلة طموحة ونفس كريمة. 2- إفشاء السلام، وهو عبارة قليلة في كلماتها كبيرة في دلالاتها وأثرها تذيب العوائق في طريق الوصول إلى القلوب ودفع السامع إلى المنافسة بالتحية بأحسن منها أو مثلها وهذا بحد ذاته مكسب لا يستهان به وهي من أعظم عناصر تحقيق المحبة، قال صلى الله عليه وسلم: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على عمل إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)، وكلما تعددت بواعث المحبة في المتحدث أو الناصح كلما كان أكثر إقناعاً وكان كلامه مسموعاً ودعوته مقبولة وعيوبه مستورة على حد قول القائل: وعين الرضى عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا 3 - الرفق واللين والتؤدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق كله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، وقال صلوات ربي وسلامه عليه: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه)، وهذا الدين مبناه على الرحمة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }، ولاشك أن الرحمة تستلزم الترفق بالمرحوم - المتلقي - وملاينته والتودد إليه لأنك إن لم تفعل ذلك فعله غيرك من ذوي الأهواء وأرباب الشهوات والشبهات. 4 - الحلم والأناة: ذلك أنه ربما يصدر من المتلقي من الأقوال أو الافعال ما يستفز مشاعر الغضب أو الحدة لدى المتحدث فإن لم يكن هذا الأخير حليماً واسع الصدر فستصدر منه ردة فعل ربما نفَّرت منه وقطعت الصلة به، وقد قيل (عظمة النفس الإنسانية في قدرتها على الاعتدال لا في قدرتها على التجاوز) (وإن جابهك عدوك بالشر فجابهه بالحكمة). وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض لأشد أنواع التعامل من الأجلاف حتى ربما جذبه أحدهم بردائه حتى يؤثر في عنقه لا يخرجه صلى الله عليه وسلم ذلك عن حلمه وترفقه بهم، ولنا في رسول الله صلى الله أسوة حسنة؛ لأننا لا ندعو الناس لأنفسنا وإنما ندعوهم لأنفسهم لنخرجهم من الظلمات إلى النور ونفتكهم من أسر الشيطان وسيطرة الهوى فلابد من الحلم والإناة والرفق واللين معهم عسى أن يجعل الله ذلك سبباً في تصحيح مفاهيم الخاطئين وتغيير سلوكهم وعاداتهم. 5- الصبر وعدم الاستعجال فإن هداية التوفيق والإلهام بيد الله سبحانه وتعالى لا يعلم متى يفيق الساهي ويتنبه اللاهي ويعود الشارد ويتوب المذنب إلا لله جل جلاله وما علينا إلا أن نجتهد في البيان والبلاغ ونسأل الله التوفيق وكم من إنسان بدا عناده وظهر استكباره وخيل أنه لن يتوب فرجع إلى الله ولزم جادة الحق واستقام على طاعة الله سبحانه والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو أعلم بالمهتدين. 6- الرزانة وحسن السمت وهذه من أعظم مقومات رسم الانطباع الجميل في ذهن المتلقين والله جل وعلا يقول: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، ويقول سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}، مما لا ينبغي معه أن نجاري السفهاء في سفههم والجاهلين في جهلهم بل إذا جهلوا حلمنا وإذا سفهوا عقلنا وإذا أساءوا أحسنا. 7- احترام عقول المتلقين ومراعاة مشاعرهم فلا يقال لهم كلام يشعر بالاستخفاف لهم أو احتقارهم أو ممارسة الأستاذية أو الفوقية عليهم بل يعاملهم بالتواضع ولين الجانب حتى ولو كان أعلم منهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل البشر ومع ذلك كان أشدهم تواضعاً وليناً وتلطفاً. رابعاً: إظهار التوقير للعلماء ومحبتهم وإجلالهم وعدم مخالفتهم أو التوهين من أقوالهم وتوجيهاتهم لأن ذلك مع مخالفته للنصوص الشرعية الموجبة لإرجاع الأمر إلى العلماء الراسخين فإن فيه منافاة للأدب والخلق الإسلامي الرفيع كما أن فيه تفريقاً للجماعة وزعزعة لوحدة الأمة وتزهيداً في العلم الشرعي الأصيل ونزوعاً إلى الطيش والخفة والنزق وهذه أمور لا يتجاهلها مسلم عاقل فضلاً عمن يفترض فيهم وفور الحكمة ورجاحة العقل وبعد النظر ومن أوضح علاماته احترام العلماء وإجلالهم لما في ذلك من تحقيق للمصالح ودرء للمفاسد. خامساً: أن يكون قدوة للناس في أقواله وأفعاله وتعاملاته ومن أعظم ذلك صلته بالله سبحانه وتعالى فإن بعضنا قد ينشغل بالتنظيرات عن العمل الواجب أو المستحب والناظر في سير العلماء والمصلحين على مر العصور يجد أن أعمالهم وعباداتهم تسبق أقوالهم وتصدقها والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، قال أحدهم: اسكتتني كلمة لعبدالله بن مسعود عشرين سنة، قال: (من كان كلامه يخالف فعله فإنما يوبخ نفسه)، وبعضنا ربما يقيم بعض العبادات على غير الوجه الشرعي جهلاً منه بذلك ثم تراه من الذين يشغلون أوقاتهم وأوقات غيرهم بقيل وقال وربما يعيب على الناس ما هو واقع فيه ونحن محل القدوة وتصرفاتنا محسوبة، فهل حفظنا القرآن الكريم؟ هل أحيينا الليل بتلاوته؟ هل ترطبت ألسنتنا بذكر الله بكافة صيغة وكلماته طرفي النهار وزلفاً من الليل؟ هل قلوبنا معلقة بالمساجد نسابق المؤذن بدخولها؟ هل عفت ألسنتنا عن مرذول القول من الغيبة والنميمة والبهتان والكلام البذيء؟ هل اشتغلنا بتربية أبنائنا على حسن التعبد لله تعالى وحسن التخلق بآداب الإسلام ومثله؟ ومن أجمل ما قيل: (من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه)، وهاجت ريح سوداء في أيام المهدي، فرؤي وهو ساجد يقول: اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم واحفظ فينا دعوة نبينا - عليه الصلاة والسلام - وإن كنت أخذت العامة بذنبي فهذه ناصيتي بيدك. سادساً: أن يدرك الداعية والمصلح - أياً كان موقعه ووظيفته - أن الدعوة لا تنمو إلا في ظل دولة تحوطها وتؤازرها وتؤيدها مما يوجب عليه الالتزام بالمنهج الشرعي في علاقة المسلم بولي الأمر التي مبناها على السمع والطاعة بالمعروف في العسر واليسر والمنشط والمكره ولو حصل من ولي الأمر ما يكرهه، والاستهتار بولي الأمر أو إظهار ما يشعر الآخرين بمخالفته له عواقب لا تحمد ونتائج له يفرح بها إلا من كان في قلبه زيغ أو هوى وما نراه اليوم من فتن وما عايشناه من أحداث مفجعة نتيجة طبيعية للتخلي عن المنهج الشرعي في ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم الراعي والرعية فخرج من خرج عن السمع والطاعة فكان ماذا؟ كان القتل والتدمير والترويع ومحاولة إدخال البلاد في نفق مظلم من الفوضى وكأننا لم نستوعب ما سجله التاريخ الإسلامي من أحداث كان رائد مرتكبوها الإصلاح وشعارهم نصرة الدين وكأننا لم نحسن قراءة ما حصل في الصومال وما يحصل في الجزائر وما يدور في العراق. إن منازعة السلطان في سلطانه أو سلوك منهج غير شرعي في مناصحته خدمة عظمى لأعداء الأمة المتربصين بها الدوائر وحين نقر الجرأة على ولي الأمر - من أي إنسان كان - فإننا لا نخدم الدين ولا نخدم الوطن ولا نخدم حتى مصالحنا الخاصة وإنما نخدم القوى العالمية الباغية التي تريد زعزعة أمن بلدان المسلمين وتفريق أهلها وتدمير نظمها حتى تمهد لها الطرق لاحتلالها ونهب خيراتها ولكنها لا تستطيع ذلك إلا بإثارة الشحناء بين أبناء البلد الواحد وإذكاء نار الفتنة بينهم ولو برفع شعار الإصلاح أو الدعوة أو محاربة المنكرات أو التقدم أو رفع الظلم...الخ، فلنكن من ذلك على حذر ولنقطع الطريق على كل معتد أثيم من اي جنس أو لون ولنجتث جذور نبتة الفتنة في بلادنا ولنضع أيدينا في ايدي علمائنا وولاة أمرنا صفاً واحداً ويداً واحدة لا نصدر إلا عن آرائهم ولا ندين بالسمع والطاعة إلا لهم وأن نخضع لولي أمر مسلم مهما كان فيه قصور خير من أن نخضع لكافر بغيض أو منتسب للإسلام زوراً وبهتاناً فكيف إذا كان لهذا الإمام المسلم من صحة الاعتقاد واتباع السلف وله من الأعمال الإسلامية الجليلة والجهود المباركة في الدفاع عن الدين وخدمة المسلمين ونصرة قضاياهم وإغاثة منكوبيهم ما هو محل الفخر والاعتزاز من كل منصف، بل هو وإخوانه سلالة شجرة كريمة وأسرة عريقة لها فضل بعد الله في توحيد هذه البلاد، وإخراجها من ظلمات الشرك والجهل والتمزق، إلى نور التوحيد والعلم والوحدة والأمن. ولنستحضر أنه في الوقت الذي يغرس بعض أبنائنا خنجره في ظهر أمته وخاصرة بلده تزداد الحملات المسعورة ضد هذه البلاد وقيادتها تتهمهم بأنهم متطرفون وأصوليون وأن هذه الدولة دولة دينية متشددة فانظروا ايها العقلاء كيف تتلاقى المصالح وكيف يخدم بعض أبناء الإسلام من أبنائنا بحماقتهم وجهلهم أعداء الإسلام وكيف يخالفون الدين باسم نصرته.. كيف يسعون في الأرض فساداً بدعوى أنهم يريدون الإصلاح ألا ساء ما يحكمون ويقدرون ويقولون: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}. أسال الله أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعباده المسلمين وأن يحفظ هذه البلاد من كل سوء ومكروه وأن يوفق ولاة أمرها إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد وأن يصرف عنها الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يكف عنها بأس الذين كفروا وبأس الذين أجرموا إنه - سبحانه - أشد بأساً وأشد تنكيلا.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.