قذف المحصنين من المسلمين والمسلمات من أخطر ما يمس حياة الأمة، وقد نهى الإسلام عنه نهياً مطلقاً، لما فيه من إيقاع بأعراض الناس، وهتك لحرماتهم، وتجاوز لخصوصياتهم، واتهام بالباطل لهم، وجعل عقوبته شديدة في الدنيا والآخرة، دفعاً للوقيعة في أعراض الناس، وذلك لما لها من خطورة على حياة الفرد والمجتمع، وعلى بنيان الأمة بأسرها. لكن كيف تحدث الوقيعة بأعراض الناس وأسبابها، وما العلاج لهذا السلوك في منهج الإسلام الفطري الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟؟ **** جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. ***** في البداية يقول فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد رئيس محاكم منطقة تبوك: الوقيعة في أعراض الناس من الأمور التي حاربها الإسلام، وشدد في معاقبة مرتكبيها، وجاء الوعيد الشديد فيمن سعى الى ذلك، او ارتكب هذا السلوك المشين، وذلك لان الإسلام جاء لحماية أعراض الناس، والمحافظة على سمعتهم، وصيانة كرامتهم، وفي هذا حفظ لأمن المجتمع، لأن المجتمع الذي ينشده ديننا هو مجتمع الطهر والعفاف، ولهذا جاء الوعيد الشديد لمن أراد أن يخالف هذا المنهج، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابي هريرة رضي الله عنه: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات) رواه البخاري. وفي سورة النور بيّن سبحانه وتعالى عظم هذه الجريمة التي هي في الحقيقة من أخطر الجرائم، فبين الله في سورة النور عقوبة القاذف، وجزاء من يلج في أعراض الناس، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، كما أبان الله جل وعلا في هذه السورة، وفي مقدمتها، الغاية منها، فقال: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }، وهذا البدء الفريد لهذه السورة لَدليل على مدى اهتمام القرآن الكريم بالعنصر الأخلاقي في الحياة، ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية، والمجتمع المسلم كلما كان مرتبطاً بهذا الفهم لهذه الأخلاق فإنه يترفع عن القذف والخوض في أعراض الناس، وبالعكس كلما ابتعد المسلمون عن كتاب ربهم تلاوة وتدبراً وفهماً كلما ضعف الوازع الديني، وسهل عليهم الخوض في أعراض الناس باي أسلوب، سواء عن طريق الغيبة والنميمة، او عن طريق الكتابة والمقال، او عن طريق مواقع الإنترنت او غير ذلك من الأساليب الشيطانية التي، مع الأسف الشديد، انتشرت في الآونة الأخيرة. ويضيف الشيخ الحميد: وهناك أمر مهم يجب التوقف عنده، وهو أن المرء الذي لا يتورع عن سلوك هذا الطريق المشين قد يسلم من عقوبة الدنيا لكن عقاب الله في الآخرة شديد، وقد يبتلى في الدنيا بمن يقذفه او يقذف أحداً من أقاربه أو مولياته، فالجزاء من جنس العمل، ولا شك ان في مقدمة الأسباب التي تحمي المجتمع من خطورة ما انتشر وكثر من التعدي على الناس وقذفهم والتشهير بهم، هو تفعيل الدور الرقابي للجهات الأمنية، وتحديد العقوبات لمن يثبت عليه ذلك، ومن ذلك التشهيرية، وخاصة تلك المواقع في الإنترنت التي يلج إليها من يتسمى بأسماء وهمية، ويسرف في الخوض، ونشر الكذب عن أخيه وإخوانه، ولو كان هناك عقاب صارم ومتابعة لأخذ أولئك بجرمهم، وكما قيل: ( مَن أمن العقاب أساء الأدب) ، مع أهمية تذكير أولئك وغيرهم بعظم هذا الجرم، وأنها لمصيبة أن يشهر بإنسان ويقذف، ويلاك عرضه، وليس له ناصر يحميه من هؤلاء الظلمة. تبرير الغيبة ويصف الدكتور عبدالله بن إبراهيم اللحيدان الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض الوقيعة في أعراض الناس بأنها من أخطر الذنوب على المرء، حيث تورده موارد العطب وهو لا يشعر، وكثير من الناس لا يتعاظم ذلك ويكثر منه، وهنا مكمن الخطر، فهذا الذنب لا يصدر إلا عن مرض في القلب، فيعبر اللسان عن ذلك، وفي هذا الصدد قال أحد العلماء: اعلم ان مخرج الغيبة من تزكية النفس، ومن شدة رضا صاحبها عن نفسه، وإنما يقبلها منك من هو مثلك، ولو علمت أن فيك من النقصان أكثر مما فيه؛ لحجزك ذلك عن غيبته، ولاستحييت ان تغتاب غيرك بما فيك من العيوب، فجرمك أعظم من جرم غيرك، وإنما يساعدك على القبول منك من هو أعمى قلباً منك بمعرفة عيوب نفسه، ولولا ذلك لما اجترأت على ذكر عيب غيرك عنده، فاحذر الغيبة كما تحذر عظيم البلاد، فإن الغيبة إذا ثبتت في القلب وأذن صاحبها في احتمالها وسعت لأخواتها في سكنى القلب، وأخواتها: النميمة، والبغي، وسوء الظن، والبهتان، والكذب، فمن صحت فيه الغيبة صح فيه الكذب والبهتان. ويوضح د. اللحيدان ان مداخل الشيطان على الإنسان في تبرير الغيبة والطعن في الناس كثيرة، فلا ينبغي للمرء ان تخدعه نفسه أو يخدعه شيطانه، أو رفقاء السوء الذين يزينون له ذلك، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اصنافا من الذين يقعون في أعراض الناس، فقال: من الناس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون، لكنه يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا منه، ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة يخادعون الله بذلك، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة والكذب، وإنما أخبركم بأحواله، فتجده يقول: مسكين، وربما قال: دعونا منه الله يغفر لنا وله، وإنما قصد انتقاصه، أو يقول: فلان قليل الفهم ليس فقيهاً، وقصده مدح نفسه وأنه أفضل منه، أو يخرج الغيبة في قالب تسمخر ولعب واستهزاء، أو يخرج الغيبة في قالب تعجب، فلان كيف يفعل كذا وكذا! وقصده إخراج اسمه في معرض تعجبه، أو مخرج الاغتمام فيقول: مسكين فلان، فيظن من يسمعه أنه يغم لأجله، وقلبه منطوٍ على التشفي به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه، فكم من إنسان وقع في أحد هذه الصور وهو لا يشعر ويظن صواب فعله. ويحذر اللحيدان من إيذاء المسلمين بلسان بعضهم ، لأن هذا من لوازم إسلام المرء، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ، قال العلماء: وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء، وهذا كله يبين لنا أن حرمة المسلم في الإسلام عظيمة جداً، وحقوقه كثيرة من أعظمها حفظه في غيبته. مرضٌ تفشّى ويضيف الشيخ محمد مكي هداية الله ان الوقوع في أعراض الناس مرض تفشى في كثير من المجتمعات، لعدة أسباب، منها: الجهل بالحكم الشرعي للوقوع في أعراض الناس، أو السعي لمجاملة الناس والرفاق والأقران ومشاركتهم فيما يخوضون فيه، كذلك إساءة الظن بالغير، وتزكية النفس بتنقيص الغير، والحسد، أو بدافع الاستهزاء والسخرية، او لمجرد الحديث في التجمعات التي ليس لها هدف نبيل وإنما السمر وشغل الفراغ، وربما قال بعضهم: (دعونا نقتل الوقت). أما العلاج فيجمله الشيخ هداية في العلم والعمل، ويكون ذلك بالرجوع الى نصوص الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً}، وقوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً}، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق)، ومن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم النحر: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)، كذلك في حديث المعراج حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم). ومن أضرار الوقوع في أعراض الناس التعرض لعذاب الله، وجلب الخصام والنفور بين الناس، وأنه مرض اجتماعي يقطع أواصر المحبة بين المسلمين، ودليل على خسة ودناءة نفس من يقع في أعراض الناس. هذه أسبابها ويذكر الدكتور إبراهيم بن سليمان الهويمل الأستاذ بكلية أصول الدين بالرياض أسباب هذا السلوك المرضي، فيرى أنها تتلخص في عدم الخوف من الله عز وجل الذي نهانا عن الوقوع في أعراض الناس في قوله عز وجل: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}، والمتأمل لهذا النهي ولهذا الوصف ولهذا النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لا يسعه إلا الامتثال التام والوقوف عند حدود الله، فيحمله هذا النداء وهذا النهي وهذا الوصف على الخوف من الله عز وجل. ومن الأسباب أيضاً عدم تصور الموقف يوم القيامة والحساب فيه عندما يأتي الإنسان بأعمال كأمثال الجبال من صلاة وغيرها من الأعمال الصالحة، ولكنه يأتي وقد أكل أعراض الناس، فتُؤخَذ حسناته وتعطى إياهم، فإن فنيتْ حسناته أخذ من سيئاتهم ثم طرحت عليه، ثم طرح في النار، والعياذ بالله ، وهذا هو المفلس الحق كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، يضاف لذلك تزيين الشيطان لهذه الموبقات، وحب التشفي من الآخرين بذكر معايبهم وما فيهم. ويقول د. الهويمل: وقد يظن ظانٌّ أن الوقيعة في أعراض الناس إنما تكون في الغيبة أو النميمة فقط، بل هناك نوع أعظم من ذلك، وهو القذف أي: القذف بالزنى أو باللواط، وقد تساهل بعض الأفراد بذلك، وما اسهل من اطلاق الكلمات وان لم تكن صريحة بهذا، فيقال: فلان صاحب سهرات، وقد يصرح بالقذف، وإن المتأمل في النصوص الشرعية وما جعلت من الشروط في حفظ الأعراض ليصل الى وجوب صيانتها وحرص الإسلامي على ذلك، وتأمل ما ورد في سورة النور، بل ان الشارع لم يشترط في غير القذف ما اشترطه فيه من التحري والدقة فيما رمي به. وفي ذلك صيانة للأعراض، بل رتب على من لم يحقق هذه الشروط العقوبة العظيمة من الجلد وعدم قبول الشهادة والحكم بالفسق، أما آثارها كما يقول د. الهويمل: إثارة الحقد والضغينة بين أفراد المجتمع، لذا فالأوْلى للمسلم حفظ اللسان وشغله بما فيه النفع العظيم لصاحبه، وهو ما يتمثل في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه.. أضمن له الجنة) وقوله صلى الله عليه وسلم في وصيته لذلك الرجل: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله فليقل خيراً أو ليصمت).