كنت وما أزال اعتقد ان الشعر العامي أو الشعبي، هو الأقدر على التعبير عن أحاسيس الإنسان السعودي المعاصر من الشعر الفصيح. وقد كتبت منذ سنوات عن ضرورة تدريسه اكاديمياً والاعتناء به كأدب، وليس فقط كمرجع أنثروبولوجي. والشعر العامي، كأي ظاهرة شعرية، فيه الجيد وفي الوقت نفسه فيه الرديء مثلما ان الفصيح هو أيضاً كذلك. غير أنني أكاد أجزم أن هناك شعراء عاميين سعوديين متميزين، لو تمت مقارنتهم بشعراء فصحويين معاصرين ممن سرت بشهرتهم الركبان، من حيث الإبداع الفني، والكثافة الشعرية، لبدوا اقل وبكثير من الناحية الفنية البحتة من الشعراء العاميين. خذ - مثلاً - الدكتور غازي القصيبي، الذي يعتبر الشاعر الفصحوي الأول والأقوى والأشهر في المملكة. من يقرأ الدكتور القصيبي كشاعر قراءة فنية متعمقة بعيداً عن تألقه الإعلامي، وقيمته الثقافية ككاتب صحفي متميز، ودرجته الأكاديمية كدكتور، ومكانته الاجتماعية كوزير وكسفير، سيكتشف انه متأثر إلى درجة (التقمص) بشاعرين: في جدّياته الشعرية يتقمص المتنبي، ويستلهم لغته وأخيلته ونهجه في التناول ومعالجة الفكرة. وفي غزلياته يتقمص نزار قباني في قاموسه اللغوي ورؤيته للمرأة وطغيان الغنائية على القصيدة. ولم يستطع الدكتور القصيبي رغم تجربته الشعرية الطويلة، وغزارة إنتاجه، أن يتخلص من حالة تقمص (المتنبي) تارة و(نزار) تارة أخرى، ليبدو شعره في النهاية إما حالة مزورة من المتنبي أو صورة مشوهة من نزار. وفي المقابل خذ - مثلاً - شعر بدر بن عبدالمحسن، والذي هو في تقديري أهم شاعر عرفه تاريخنا المحلي المعاصر على الإطلاق، حتى الآن بدر في قصائده يطرح شعراً يصل في كثافته الشعرية، وفي مجازياته، وفي أخيلته، وفي تمكنه من لغته، وقدرته على الإبداع وتجاوز النمطي والمألوف، إلى مستويات لم يستطع الوصول إليها كل شعرائنا الفصحويين والعاميين المعاصرين بلا استثناء. هذا فضلاً عن ان بدراً في طرحه الشعري لا يشبهه إلا بدر.. ولو ان ناقداً محايداً، ليس له موقف مسبق من (اللهجة العامية)، أي بمعنى آخر ليس ناقداً (مؤدلجاً)، تناول شعر بدر من ناحية فنية بحتة، وقارنه بكل أقرانه، وبالذات بشعرائنا الفصحويين المعاصرين، فليس لدي أدنى شك في انه سيصل إلى هذه النتيجة. واحتقار الشعر العامي لدى بعض مثقفينا هو موقف لا يمت للأدب والشعر، بل والعلمية والحضارة، بأي صلة. فهم يرفضونه ليس لمحتواه، وإنما رفضاً للغته لأسباب أيديولوجية. رغم أن هذه اللغة التي يرفضونها هي لغتهم المحكية، ولغة تعاملاتهم اليومية، الأمر الذي يجعل مثل هذا الشعر هو الأكثر حميمية والأقدر على التعبير عن أحاسيس إنسان هذا العصر، والالتصاق بواقعه، من الشعر الفصيح. قد أفهم لماذا يقف ضد الشعر العامي القوميون العروبيون المؤدلجون الذين يجدون في تكريس (العامية القُطيرة) كما يسمونها حجر عثرة ضد شعاراتهم الوحدوية، التي ترى في اللغة الفصحى أحد أهم العوامل المشتركة التي توحد العرب فيما بينهم. وبالتالي فإن من شأن الاهتمام بهذا الشعر في رأيهم، أو قل: في أيديولوجيتهم، إعاقة مشروع (الوحدة العربية) التي لها يطمحون. أما الذي لا أفهمه فهو موقف بعض الكتاب الإسلاميين السلبي منه. فهذا الموقف على ما يبدو تسرب إليهم من الطرح الأيديولوجي القومي، ولم يكن موقفاً أصيلاً من مواقفهم، والدليل ان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - رغم تشديده في نبذ كل ما يسيء للإسلام، تجده قد استخدم (اللهجة العامية) في كتاباته الدعوية ولم يجد حرجاً في ذلك، ففي موروثه الدعوي المكتوب هناك رسائل كتبها بنفسه باللهجة العامية المحضة والمعاصرة لحقبته الزمنية، ولو ان الأمر بهذه الخطورة - كما يتوهم البعض - لكان أول من تنبه إليه هو الشيخ نفسه. والذي لا يتنبه إليه كل من يقف ضد الشعر باللغة المحكية هو أن الشعر الجاهلي، شعر عامي بكل ما يحمله مفهوم (العامية) من معنى. ولعل في هذه الخاصية تحديداً تكمن أهميته، إذ لم يكن في عصره لغة محكية وأخرى نخبوية كما هو الأمر بالنسبة لدينا. لذلك فإن الاهتمام بالشعر العامي المعاصر يوازي في أسبابه وبواعثه الاهتمام بالشعر الجاهلي. وعندما نرفض الشعر العامي اليوم فإننا بالمنطق نفسه يجب أن نرفض أيضاً الشعر الجاهلي العامي كي لا نكون متناقضين.