ودعنا إلى رحمة الله، ومغفرته، ورضوانه، وفسيح جناته إن شاء الله العم الشيخ، فيحان بن بتّاع الصوينع الدعجاني، عن عمر قارب المائة وخمس سنوات، قضاها وهو ملء السمع والبصر.. محباً ومحبوباً. ولد الفقيد في عالية نجد في الزمن الذي دخل فيه الملك المؤسس عبد العزيز - أكرم الله مثواه - الرياض معيداً ملك آبائه وأجداده، متخذاً من حصن المصمك التاريخي نقطة انطلاقته.. وعاصر فيحان الصوينع تلك الأحداث المباركة التي أدت إلى توحيد البلاد وكان بين من شاركوا مع الملك عبد العزيز في الدبدبة أواخر عام 1347ه، وكان طيلة حياته ملازماً للأسرة الكريمة. لم يكن (فيحان الصوينع) بعيداً عن هموم من انعطفت به الأقدار وتجافى عن المضجع جنبه، وأطرق ليس بعيداً مردداً (اسم فيحان).. وما بين الإطراقة وطرق الباب تستقيم دروب المروءة والشهامة. وعندما يضرب المثل بحاتم الطائي كرماً.. والأحنف حلماً.. فإن فيحان الصوينع يذكر مثلا في الحميّة .. السوية لا الجاهلية.. يعتمل في قلبه الإباء.. والنخوة، والشجاعة. أخلص عمله، وأعمل جهده، وتفانى في خدمة دينه، ومليكه، متعلقاً بالرجال أمثاله حباً وتقديراً ومسايرة للمواقف الرائعة. عندما أخذت له ذات يوم جزءاً من قصيدة ذكرها لي (محيسن العاكور - رحمه الله - ينسبها لفيحان الصوينع..) استدار (أبو مطلق) حتى اكتملت في عيوني رؤية عارضيه، باشاً بوجهه، مطبقاً إحدى شفتيه علىالأخرى، وضرب بيده على المتكأ، قائلاً: (الله يرحم خالد) وأعاد تشكيل القصيدة ملتقطاً صوراً قديمة عمرها قارب الستين عاماً ضبابيتها تحجب منظراً لا يود قراءة تضاريسه. والقصيدة في رثاء سمو الأمير النبيل خالد بن محمد بن عبد الرحمن - رحمه الله -، دالقاً في بيتها الرابع على الملك عبد العزيز (ثقيل الروز) عواطفه الجياشة منها: أمر قضاه الله وجاله تسابيب ما دبر الوالي على العبد أصابه دنيا تشيب شيب يا جاهل الشيب تسقي لنا الحامي حميم شرابه أخذت وسيع العرف عطب المضاريب سده بعيد ولا تغيّر جنابه عقبه (ثقيل الروز) يقنب كما الذيب اجبر عزاهم يا منشي سحابه كم جادل شقّت على (خالد) الجيب تبيّنت للكشف عقب المهابة عيبه إلى قال كثير العذاريب عقل وتمييز وفكر ولبابه إن المساحة بين برّ نايف بن عبد العزيز ووفاء سلمان بن عبد العزيز، وبين فيحان الصوينع هي محرضة الشعر.. وباعثة الخواطر.. وملهمة التاريخ. لقد روى لي رحمه الله.. سيرة ملوك.. في سجابا أمراء فضلاء.. لقد رحل فيحان بن بتّاع الصوينع.. (عشير الغانمين).. الذي لا تفارقه طيلة حياته.. المروءة والشهامة، والفزعة الحقة. ومع سيرته تجيء ذكرى شبة النار، والقهوة والهيل.. و(دق المهباش) في ليل سرمدي.. يشق هدأته أحياناً زفرات صدور الرجال. إن مساعي فيحان الصوينع الحميدة لفك الرقاب.. أسطورة لمن يتتبع أحداثها.. ومواطن التأثير فيها.. يستند فيها على معرفته بنظام القبائل، وخصائص إنسانها. كان رحمه الله شاعراً مفوهاً.. وأديباً يحسن صياغة الحديث.. وانتقاء الأنسب.. سريع البديهة.. قوي الحجة، حاضر الذهن، متقد المشاعر، فياض العواطف، نبيل الإحساس. لا تهمه الدنيا، وزخرفها.. ننيخ مطايانا في حضرة مكارم أخلاقه، وطيب شمائله يوم تلوذ بنا أحلامنا وآلامنا. يقول من قصيدة طويلة فيها حكم وثناء على الأسرة الكريمة: وأنا تراي بموطن العز قعاد من حمد ربي ما عليه قصيرات في ضف منعوت المعامق والأجداد (فهد) عريب الجد راع المروات فهد عسى عمره على الطول يزداد طول الليالي بالبقاء والسلامات ويصوغ فيحان الصوينع قصائده مستشهداً بما رسخ في عقله، وما اختلج في خاطره، واستقر في قلبه، من معرفة تامة بالشريعة السمحاء، وثبوت عقيدته السليمة، ولرهافة حسّه، ودقة ذكائه نجده يستشهد بما ورد في القرآن الكريم من معان، وتصوير وتمثيل كمثل قوله: يا الله يا منشي حقوق السحاب يا عازل ليل الدجى والنهارا افرج لقلب كن فيه التهابي راعيه من كثر الهواجيس حارا وفيه صدق قول الشاعر العربي: أنفقْ ولا تَخشَ إقلالاً فقد قُسمَتْ بينَ العبادِ مع الآجال أرزاقُ لا ينفعُ البخلُ والدنيا مُولِّية ولا يضرّ مع الإقبالِ إنفاقُ وفيه يصدق قول الخنساء: (إنه كان كريم الجدّين واضح الخدّين، يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد). أقول عنه ما شهدته، وعرفته لا ما تمنيته.. فيه يتمثل قول القائل: الناس بالناس ما دام الحياة بهم والسعد - لا شك تارات وهبّاتُ وأفضلُ الناس ما بين الورى رجلٌ تُقضى على يده للناس حاجاتُ قد ماتَ قوم وما ماتتْ مكارمهم وعاش ناسٌ وهم في الناس أمواتُ فزعته تسبق مصلحته الخاصة التي تذوب في المصلحة العامة.. وقراره للنفع العام يسبق حساباته الخاصة. شجاعٌ، مارس الفروسية على ظهور الصافنات الجياد.. عندما تستدير عمامته من الرأس إلى أسفل (لحيته) ليكون لفيحان الصوينع موعد مع عقارب الزمن وهي تشير لمواطن النخوة.. التي لا تقدر بثمن، ولا تبلغها مراتب الوصف.. بشهد له من ضاقت به واستحكمت حلقاتها.. عندئذ لا يقبل دون المثول بين يدي فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله - أو ولوج باب.. سلطان بن عبد العزيز، أو نايف بن عبد العزيز، أو سلمان بن عبد العزيز.. النبلاء الأوفياء.. الذين يبنون في الرجال.. صروح الولاء.. بفيض السخاء.. ونبل العطاء.. الذين لا يترددون في جبر عثرات الكرام. كانت له مع جدي غازي بن عضيب الدعجاني صولات وجولات في ضرب أكباد الإبل.. (في وسيع الفيافي) تتناغم عواطفهما، وتتحد أهدافهما، وترتقي بهما مراتب الخلق الرفيع.. ترفرف بهم رايات السرور وهما يتجاذبان (هجينية) من صدى ظروفهما.. من نشدني قلت ماني بدعجاني من يمش الوشم عن خد المطية لقد تميز (أبو مطلق) بالثناء على من حوله، وتقدير جهود الآخرين، وإبداء الإعجاب بإنجازاتهم وإن تواضعت، معتزاً بأبنائه، واثقاً من قدراتهم، مشجعاً طموحهم، محفزاً لهم، وقد أقر الله عينه برؤيتهم وقد بلغوا من المجد علواً.. وبعد: فلقد ترك الفقيد الراحل ذكرى عطرة، لكل من عرفه وعرف فيه نقاء العقيدة، وطهر السريرة، وطيب الشمائل، وصدق النوايا، فهو رحمه الله سليل أسرة عزيزة بشمائلها، أصيلة بقيمها, وخلقها، ووفائها، وفضلها، وصلة رحمها، طاب منبتها وسمقت أرومة رجالاتها. كان - رحمه الله - كالطود الشامخ الأشم، قوة وتحملاً وصبراً على المكارم والمكاره، فهو مثل أعلى وقدوة حسنة لمن أراد أن ينهل من الخلق النبيل أرفعه ومن الكرم والجود أبلغه، رحم الله فقيدنا الغالي، وأسكنه فسيح جناته وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وأرجو المولى عز وجل أن يهبه - ووالدي وأموات المسلمين - رحمته وعفوه، ويعوضه عن كدر دنياه النعيم وصفوه. هذا هو فيحان بن بتاع الصوينع.. رجل عاش في العصر الحديث، لا نقرؤه تاريخاً بل نذكره حاضراً بيننا عندما تتناهى في خواطرنا هموم الزمن، أو عاديات الأقدار، نلتمس الباب الجنوب من منزله العامر، ونطرح في (مشب النار) مكدرات الخواطر، وكأننا - وغيرنا - نذيب على نار (فيحان) جبال الجليد. أرفع قلمي مكتفياً بهذه الإلماحة التي يتسع لها المقام، آملاً أن يوجد من يتقفى تاريخ فيحان الصوينع مضيفاً إلى تراجم رجالات الوطن ذكر أحد أبنائه، أو أن ينهض أبناؤه بتدوين ما رسخ في الذاكرة من مذكراته وذكرياته - رحمه الله . E-mail:[email protected]