قال الكاتب البريطاني (جورج أورويل) في روايته (مزرعة الحيوان): (إن جميع الحيوانات متساوية، إلا أن المساواة بين بعضها تبقى متفاوتة). وقد دخل الدب الروسي مرحلة السبات السياسي بدءاً من حقبة البرويسترويكا في عهد غورباتشوف، وانتقالاً إلى الحقبة اليلتسنية، ومن ثَمَّ البوتينية. ورغم أن الرئيس يلتسين قد فاجأ الجميع بتعيينه بوتين خليفةً له، وهو من أواخر ثعالب الرعيل الشيوعي وخريج أروقة ودهاليز المخابرات السوفيتية (KGB)؛ فإنه ما زال يواجه تحديات هشاشة البنيان الروسي على الصعيد الخارجي بعلاقاته ومصالحه، وعلى الصعيد الداخلي المشاكل من فساد إداري واقتصادي وعسكري ومشاكل جمة في الجنوب المستعر في الشيشان، والتهديد الموجه من النسر الأمريكي الذي مدَّ أجنحته إلى حدائق روسيا الخلفية في آسيا الوسطى؛ سعياً لامتلاك مفاتيح المنطقة استراتيجياً، وخصوصاً بعد أن اخترقت الولاياتالمتحدةالأمريكية أوزبكستان وأحكمت السيطرة عليها عسكرياً ضمن مثلث الدول الذي يجمعها مع طاجيكستان وقرغيزستان (التي قبلت الوجود الأمريكي على أراضيها مقابل مساعدات ضخمة تساهم في تخفيف حدة نسبة الفقر التي تضرب البلاد والبالغة 80%)، وامتداد زحف القواعد العسكرية الأمريكية إلى جورجيا والتي تعتبر عقدة تشابك المصالح الاستراتيجية في المنطقة. فجورجيا وأبخازيا بينهما صراع تاريخي طويل؛ حيث تسعى أبخازيا للاستقلال، وتصر جورجيا على اعتبارها جزءاً من أراضيها. ونفس الحالة تنطبق على أوسيتيا الجنوبية. وأما روسيا فتؤيد أبخازيا وأوسيتيا في مساعيهما للاستقلال؛ نكايةً بجورجيا المتمردة على البقاء تحت الجناح الروسي. ورداً على ذلك فإن جورجيا بدورها تؤيد المقاتلين الشيشانيين في قتالهم ضد الروس. وكذلك نضيف على ذلك كله أعباء الشرق الأوسط والعراق وتهديد وهدر المصالح الروسية فيها، وكذلك زحف الأطلسي وطرقه أبواب موسكو. لم تعد الذهنية السياسية الروسية تستوعب فكرة عدم وجودها كقوة دولية عظمى فاعلة تستطيع رسم خريطة العالم من جديد. فالولاياتالمتحدةالأمريكية، وفي إطار بسط هيمنتها، وجدت ضالتها المنشودة في النفاذ إلى المنطقة عبر بوابة الصراعات المتأججة والخلافات. لم يستعصِ على فكر الرئيس بوتين قراءة فكر المواطن الروسي؛ لذلك رفع شعار محاربة الفساد وقبل الانتخابات الروسية في ديسمبر الماضي. ولتقليص دور الأثرياء في المحافل السياسية والاجتماعية قام بتصفية في صفوف رجال الأعمال والمال وبحجة هدر المال العام، ونال ذلك استحسان الشعب الروسي. وقد تمَّت انتخابات الدوما (ومدتها أربع سنوات) بنشر 1100 مراقب من 48 دولة، وكان الإقبال على الاقتراع بنسبة 56%، وهي تتجاوز المنصوص عليها في الدستور (25%). ونال حزب (روسيا الموحدة)، الحزب المدعوم بقوة من الرئيس بوتين، نصف مقاعد البرلمان، 223 مقعداً نيابياً، وقد علق بوتين حينها قائلاً: (وهذا انتصار منهج الديمقراطية في روسيا)؛ مما حدا إلى تتويج بوتين، وبرأي بعض النخب الروسية كدكتاتور ديمقراطي. فاقتراحات الرئيس بوتين المستقبلية في ساحة الكرملين باتت مضمونة الموافقة؛ حيث إن أي اقتراح يحتاج لمباركة ثلثي الأعضاء في البرلمان، ولا ننسى أن حلفاء بوتين كتلة رودينا (27 مقعداً) وحزب جرينوفسكي القومي (40مقعداً) ستكون في صفه. والاستقراء السياسي لواقع الرئاسة الروسية يشير إلى أن الرئيس سيتمكن من تعديل الدستور لضمان ولاية رئاسية أخرى وإضافة صلاحيات أوسع. وعلى الصعيد الخارجي، وفي إشارة من بوتين إلى جميع حلفاء روسيا المترديين، قال: (سنعمل على إعادة روسيا للعب دور رئيس على المسرح العالمي)، ولا سيما بعد القلق الذي أحدثته هذه المفاجأة الدستورية؛ مما حدا بالبيت الأبيض إلى التعليق بامتعاض في تصريحه: (نحن نشارك قلق المنظمات الأوربية، وننتقد نتيجة الانتخابات). أما منظمة الأمن والتعاون الأوربي فقالت: (إن الحكومة الروسية استخدمت مواردها وسيطرتها على أجهزة الإعلام لدعم حزب روسيا الموحدة؛ مما أدى إلى تشويه الانتخابات). وقد عبر محللو صحيفة مسكوفسكي كومساموليتش عن الأزمة بقولهم: (لقد دهس الكرملين بجدارة أحلام تقاسم السلطة بين الأحزاب، وقضى إلى أجل غير مسمى على إمكانية ظهور روسيا ديمقراطية). لقد بات على رأس السلطة الروسية رجل لا يستهان به، منحه الشعب الروسي سلطات؛ ليكون -وعلى حد قول البعض- القيصر الدستوري الذي طرد الشيوعيين، وقذف حلفاء الغرب من الشباك الروسي. إن الغرب قلق على مستقبل الديمقراطية في روسيا، والخوف من عودة النمط التوليتاري متمثلاً في سيطرة الحزب الواحد. ويوم الأحد 14مارس المقبل ستُجرى الانتخابات الرئاسية التي بات من المضمون فيها فوز الرئيس بوتين، وقد علقت صحيفة كومرسانت الروسية: (إن الكرملين يواجه مهمتين متناقضتين في آنٍ واحد، وهما: منع بروز مرشح قوي أمام بوتين، وفي الوقت نفسه جعل الانتخابات الرئاسية تثير الاهتمام؛ لضمان مشاركة 50% من الناخبين). كان الاتحاد السوفيتي أيام الحرب الباردة يلعب دوراً حيوياً في التوازن الاستراتيجي لميزان القوى على الساحة الدولية، ولكن سرعان ما اتضح أن روسيا ليست في الحقيقة قوة عظمى بالمعنى الكامل، وإنما هي دولة نامية ذات قدرات عسكرية متطورة؛ فقد كانت روسيا تفتقر إلى القوة الاقتصادية والثقافية التي يمكن أن تجعل منها قوة عظمى حقيقية، ولكن الدب الروسي كان محافظاً على صورته كقوة عظمى بفضل امتلاكه للقوة النووية. وحسب رأي الخبراء فإن قوة روسيا الاقتصادية اليوم لا تزيد على مستوى قوة سنغافورة. وكانت سياسة غورباتشوف ويلتسين تعتمد على أيديولوجية وجوب الاختلاف؛ لتظهر روسيا مستقلة ومختلفة عن سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولكن الرئيس بوتين لم يتبع فكر سلفه، ولا سيما أنه قادم من عالم الاستخبارات الذي يستشعر الخطر قبل حدوثه، بل حاول أن يكون جزءاً من العالم الغربي؛ لذلك كان الرئيس بوتين أول مَن عرض المساعدة على الولاياتالمتحدةالأمريكية إبَّان أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وبذلك ضمن التقرب من أمريكا، وتبرير حربه على إقليم الشيشان بدمغ مقاومة الانفصاليين بدمغة الإرهاب. ففي فكر بوتين وحسب قوله: (لكي تضمن مكاناً لك تحت الشمس لا بدَّ أن تحتفظ بعلاقة جيدة مع الجميع). وهذه السياسة استلزمت كما رأينا مبادرات مدهشة؛ كالانضمام إلى حلف الناتو، والتعاون عسكرياً وأمنياً مع أمريكا، والسكوت عن زرع القواعد العسكرية الغربية، وطلب الانضمام إلى رابطة العالم الإسلامي. ما زالت الطريق طويلة أمام بوتين لحل المشاكل الداخلية، ولا سيما التدهور الواقع على ثلاثة أصعدة؛ الأول اقتصادياً، فرغم النمو الاقتصادي البالغ 7 % فإن تدنِّي مستوى المعيشة ماثل في المشهد اليومي للأسرة الروسية، وذلك في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة والخدمات، والفساد الإداري الذي ترشح عبر قنواته نحو 9-13 بليون دولار سنوياً إلى خارج روسيا في تعاملات سوداء. والثاني اجتماعياً؛ حيث تعاني الأقاليم الروسية شحَّ الخدمات الاجتماعية، وإصلاح البنى التحتية. وثالث ديموغرافياً؛ حيث تعاني روسيا من تناقص سكَّاني حادٍّ؛ (حيث بلغ النقص 3.5 ملايين في آخر عشر سنوات، وهذا يمثل 2.5% من مجموع السكان، ومعدل التناقص السنوي يبلغ 0.75 مليون نسمة)، والأسباب متعددة؛ منها الهجرة إلى الغرب، والحرب في الشيشان، وتأخر الزيجات، وغيرها. وبيانات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن الأُمَّة الروسية تموت تدريجياً؛ فبسبب الإدمان وحده على الكحول يموت نحو 900 ألف نسمة سنوياً، والسبب أن معدل الإنتاج السنوي للكحول في روسيا يزيد عن 18.5 لتراً لكل فرد، بينما يقف الخط الأحمر لأي أُمَّة عند 8 لترات لكل فرد في السنة. أمام بوتين ما زالت الطريق ضبابية، وهي تشبه إلى حد كبير لوحة (مُحارب على مفترق الطرق) للفنان الروسي فاسنيتسوف، والتي تُجسِّد بألونها الواقع الروسي الحرج على مشارف القرن العشرين بشخص محارب أعيته المعارك، وإن بدا عازماً على إكمال المسير رغم ضبابية الأفق.