تتعاقب الليالي والأيام وتسير بنا الشهور والأعوام وتختلف فينا الأحوال والأشخاص، والسنون تمر علينا مر السحاب وتجري جري الريح، وفي ذلك كله عظة للمتعظين وعبرة للمعتبرين،(يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ) (النور- 44) تمر الليالي والحوادث تنقضي كأضغاث أحلام ونحن رقود وأعجب من ذا أنها كل ساعة تجد بنا سيراً ونحن قعود وهانحن نودع عاماً كاملاً، قد أنصرمت أيامه وتفرقت أوصاله وقوضت خيامه وتقطعت حباله. وقد حوى حكماً وعبراً وأحداثاً وعظات وأفراحاً وأتراحا ،وحق لكل عاقل أن يأسى بفراقه وأن يذرف دموع الحزن على وداعه والتقصير فيه،فمن منا لا تؤلم نفسه لحظات الفراق؟ ومن منا لا تجرح مشاعره ساعات الغياب؟ ونحن ندرك ملياً أن هذا العام الذي مضى هو في الحقيقة محسوب من أعمارنا ولن يعود إلينا أبداً. يا راحلاً وجميل الصبر يتبعه هل من سبيل إلى لقياك يتفق ما أنصفتك دموعي وهي دامية ولا وَفَى لك قلبي وهو يحترق إن الإنسان إذا عرف قيمة الشيء وأهميته حرص عليه وعز عليه ضياعه، وهذا شيء بديهي فإن المسلم إذا أدرك قيمة وقته وأهميته كان أكثر حرصاً على حفظه واغتنامه لما يقربه من ربه جل وعلا. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم وهو يمر مر السحاب، فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره. وغير ذلك ليس محسوباً من حياته). ويختلف شعور الناس واحساسهم عند نهاية كل عام. فمنهم من يكون بين ذلك سبيلاً، ولكن العاقل الفطن من تدارك أوقاته واتعظ بأمسه واجتهد في يومه واستعد لغده. إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل وقد وعظ النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس. شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك) فإن رأس مال المسلم في هذه الحياة وقت قصير. أنفاس محدودة وأيام معدودة ولحظات محسوبة فمن استثمر تلك اللحظات والساعات في الخير طوبى له ومن أضاعها وفرط فيها خسر خسراناً مبيناً وندم ندماً كبيراً. إن الصحة والفراغ والمال هي الأبواب التي تلج منها الشهوات المستحكمة في الإنسان ويتربع في فنائها الهوى الجامح فيأتي على صاحبها ويقضي عليه وإن العاقل اللبيب من أدرك حقيقة ذلك فاغتنم عمره فيما ينفع نفسه ومجتمعه وأمته.. ولهذا حرص الموفقون على الاستفادة من كل ساعة بل من كل دقيقة بالعلم النافع والعمل الصالح فإن الأوقات والأزمان عمر قصير وأجل محدود قال ابن القيم رحمه الله: (إن السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمارها فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته شجرة طيبة ومن كانت أنفاسه في معصية فثمرته حنظل). تزود من التقى فإنك لا تدري إن جن ليل هل تعيش إلى الفجر فكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر وكم من فتى يمسي ويصبح آمناً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري إن مضي الزمان واختلاف الليل والنهار وسرعة انص الشهور والأعوام لعبرة وعظة للمؤمنين فإن في كل يوم يروح وفي كل ساعة تمضي وفي كل لحظة تنقضي مواعظ تتسابق وأحداثاً تتكرر وأخباراً لن تنتهي،ألا وإنها أوقات محسوبة ولحظات مقسومة وأنفاس معدودة تمر مر السحاب فطوبى لمن عمل بها واستزاد من الخير وقدم ليوم المعاد فالعمر قليل والأجل قريب، ومهما طال الأمد فلكل أجل كتاب، والله أعلم.