ومن أبرز ممثلي المحضرة الموريتانية المتأخرين في الشرق وبالتحديد في المملكة العربية السعودية، العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المعروف (بآب ولداخطور). ويعتبر آب ولداخطور هذا، نموذجا صرفا للعالم الشنقيطي الموسوعي الذي يجمع بين كافة مكونات المدونة الثقافية، غير أنه كان متبحراً في علوم القرآن بل ومن أبرز المتمكنين في هذا المجال، ويشهد على ذلك كتابه المرجع في التفسير (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن). هذا الكتاب الذي يعتبر في نظر المختصين في علوم القرآن وتفسيره من بين أبلغ تفاسير القرآن بالقرآن. وبذلك أشاد الدكتور أحمد نصيف الجنابي. لقد كان لمحمد الأمين الشنقيطي دور بارز في المحفل العلمي السعودي والإسلامي عامة لعقود طويلة وذلك نظراً لعلمه الغزير ولعلاقاته المتميزة بالمغفور له -بإذن الله- الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وبأبرز علماء المملكة العربية السعودية كالشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبد العزيز بن صالح رحمهما الله. ولقد طار صيته وصيت شنقيط من بعده على يد من تخرجوا على يديه من الطلبة العرب والمسلمين الذين كانوا يدرسون في كليات ومعاهد المملكة وخاصة خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. والحال ذاته ينطبق على العلامة أحمد بن المنجي الشنقيطي الذي كان الإمام الدائم للصلاة لدى الملك عبدالعزيز لمدة سبع سنوات. كما نذكر من ممثلي المحضرة الموريتانية المتأخرين في الشرق كذلك، محمد محمود التندغي ومحمد الأمين فال الخير الشنقيطي، اللذين أقاما في العراق والأردن. وكان لهذا الأخير مكانة كبيرة في العراق وخاصة في مدينة البصرة التي لعب فيها دوراً تعليمياً وجهادياً كبيرا لدرجة أن العراق قد خلد ذكر هذا العالم الكبير عندما خصص له أول كتاب مطبوع في سلسلة (أعلام البصرة). ولنا أن نذكر العلامة محمد يحيى الولاتي الذي اشتهر هو كذلك برحلته الحجازية الشهيرة وخاصة بمحطتها الشهيرة في الزيتونة. وغير هؤلاء كثر من أعلام علماء الشناقطة الذين قادتهم الرحلة الحجازية إلى الشرق فطافوا في البلاد العربية من المغرب إلى تونس فليبيا ومصر والسودان فالجزيرة العربية والعراق والأردن وحتى تركيا، ولم يتركوا مكانا مروا به أو استقروا فيه من هذه البلدان إلا وتركوا فيه أثراً بارزاً وسمعة متميزة لهم ولوطنهم. وقد بدأنا هنا بالأعلام المتأخرين، غير أن من سبقوهم من الأعلام الكبار ومن أساتذتهم الذين طبق صيتهم الآفاق كثيرون. فحسبنا هنا، أن ذكر العلامة النحرير الذي جمع العلوم وحاز سبق الفهوم، العلامة سيدي عبدالله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي الذي يعتبر في نظر الدارسين للثقافة العربية والإسلامية في جوانبها المتعلقة بعلوم الفقه والأصول من آخر المتمكنين في هذا الفن دون منازع، بل وينظر إليه كمجدد في علم الأصول ومتفرد فيه، وذلك بتأليفه لكتابه الكبير والشهير في علم الأصول (مراقي السعود) والذي يعتبر في الحقيقة إضافة كبيرة لعلم الأصول. هذا العلم الذي يعتبر في نظر الكثيرين شديد الصعوبة والوعورة لذا يندر التأليف والإضافة فيه. ولقد كان للعلامة سيدي عبدالله علاقة متميزة بحاكم مصر الأمير محمد علي الذي قربه وحاور العلماء في حوزته، وقد أعطاه الكثير من الهدايا من بينها فرس من سلالة نادرة ظل نسلها معروفا في موريتانيا بعد ذلك بجياد (الكحيلات) ومن المعروف أنها من الجياد النادرة. كما كانت لسيدي عبدالله هذا علاقة خاصة ومتميزة بسلطان المغرب سيدي محمد، وهو في هذه العلاقة مع سلطان المغرب إنما يسير على نهج سميه وابن عمه سيدي عبدالله بن محّم المعروف (بابن رازقة) (ت 1144ه) الذي ارتبط بعلاقة متميزة بسلطان المغرب المولى إسماعيل وابنه محمد العالم. والعلامة سيدي عبدالله بن رزاقة هذا، قد جمع العلوم كلها فقها ولغة وأدبا ومنطقا، وقد طغت شهرته الأدبية على تبحره في العلوم كلها، وسنترك الحديث عنه هنا لأننا سنخصص له مقالة خاصة باعتباره شاعر شنقيط الأول الذي اصطلح النقاد في هذا البلد على وصفه بامرئ قيس الشعر الشنقيطي. أما غيره فهم كثر ممن سافروا وحازوا شرف العلم والسمعة ويكفينا أن نذكر العلامة أبي الكساء العلوي (ت 11ه)، والقاضي عبدالله بن حبيب العلوي والمتوفى هو الآخر في القرن (11ه)، والحاج الحسن بن أغبد الزيدي الذي لقي الخرشي شارح مختصر خليل واستدرك أربعين مسألة في شرحه، وكذلك عبدالرشيد الشنقيطي الذي ذكر العلامة اللغوي الربيدي شارح القاموس المحيط الفيروز ابادي أنه من شيوخه. وغير هؤلاء كثر لا يسمح المقام لذكرهم كلهم غير أن من بقوا في شنقيط من العلماء والأدباء من شيوخ هؤلاء القوم وأترابهم كثر لايمكن أن يذكروا كلهم في مقالة قصيرة مثل هذه، بل لعل معجما بأسماء هؤلاء يكون أنسب لذلك وأوفى بحقهم، ويكفينا أن نذكر العلامة الكبير المختار بن بون الجكني والذي ذكرناه في فاتحة هذه المقالات عندما أوردنا بيتين من شعر الفخر عنده والحال ذاته ينطبق على العلامة حُرمة بن عبدالجليل وأبناء بلعمش في شنقيط، ومحمد اليدالي الديماني، والشيخ محمد المامي وغير هؤلاء كثيرون. وقبل أن ننهي هذا المقال لابد أن نشير إلى أن الدور الذي لعبه العلماء الشناقطة في المشرق والمغرب من إشعاع علمي لايقل عنه ما قاموا به من نشر للغة العربية والدين الإسلامي في إفريقيا السوداء، حيث يمكن القول إن إفريقيا الغربية يكاد يكون إسلامها قد تم على أيديهم، إضافة إلى أنهم هم من نشر اللغة العربية والعلوم الإسلامية بها. فقد لعب العلماء والصلحاء والتجار البيضان الموريتانيون دورا لامثيل له في نشر الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا الغربية. وقد تفطن المبشرون الأوروبيون لذلك وعبروا عنه بالقول: (إن الدور الذي تلعبه سبحة الشيخ الشنقيطي ومحله التجاري الصغير في نشر الإسلام والعربية لم تستطع أن تقوم جيوش المستعمر وموجات المبشرين والمعمرين الأوروبيين بمثله في نشر الديانة المسيحية والثقافة الغربية). ونشير في الأخير إلى أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تقوم بإعداد موسوعة مرجع في التعريف بأعلام العلماء العرب والمسلمين، سينال العلماء الشناقطة حقهم الوافي فيها من خلال تثبيت أكبر عدد ممكن منهم في هذه الموسوعة.