قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(الرعد:41) }، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها) وقال مجاهد: هو موت العلماء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لايقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبضه بموت العلماء، فإذا ماتوا اتخذا الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأجابوا فضلوا وأضلوا!)، ولقد تألم قلبي كثيرا عندما بلغني نعي ووفاة شيخنا العلامة المحقق الداعية المحسن الصالح القاضي: ابراهيم بن راشد الحديثي يوم الجمعة 17 ذي القعدة. وقد فجعت به فجع الابن بوالده، والمحب بحبيبه، وهكذا يكون موت العلم وقبضه و{إنالله وإنا إليه راجعون}. شيخنا المعمر القاضي ابراهيم بن راشد الحديثي -رحمه الله تعالى- من الأفذاذ الأفراد في هذا العصر، ولد في أوائل القرن الماضي عام 1321ه تقريباً، وسمعته يقول قبل خمسة أشهر: (انه جاوز المائة)، وسمعته يقول عن نفسه: (إن حجه الأول كان عام 1343)، وقد نشأ شيخنا من بيت شرف ودين من طريق والديه، وجده لأمه رميح بن سليمان الرميح (ت:1344ه) من الأعلام المشاهير، ومن طلاب الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت:1385ه)، وأخبرني شيخنا ان جده ابراهيم كان محبا للشيخ رميح بن سليمان الرميح، مجلاً له، وطلب الشيخ رميح من جده أن يزوجه، فقال له: (والله لو أن الشرع يحلل لك بناتي الثلاث لزوجتهن لك!) فزوجه إحدى بناته -التي هي والدة شيخنا- وقد استفاد شيخنا من جده رميح فائدة عظيمة وكان يحرص على مجالسه العلمية، وقرأ عليه بنفسه الكثير من الكتب، كما أن شيخنا تتلمذ على جماعة من أهل العلم، كما أخبرني بذلك، فدرس على يد: الشيخ عبدالله بن سليمان بن بليهد (ت:1359ه)، وعلى يد أخيه حمد بن سليمان بن بليهد ت: (1360ه)، والشيخ عبدالعزيز بن سبيل، والشيخ محمد بن مقبل (ت: 1368)، قال شيخنا: (كان أفقههم وأغزرهم علماً وورعاً) وذكر بعض أخباره، كما لازم شيخنا: الشيخ الفقيه عثمان بن صالح الشاوي (ت: 1345ه)، صاحب القصائد العذبة التي نصر بها التوحيد، لازمه شيخنا ثلاثة أشهر وخمسة عشر يوماً. وقضى شيخنا ابراهيم - رحمه الله - من عمره السنين الطوال في خدمة الدين والبلاد والعباد، وتولى القضاء في مواطن عدة من هذه البلاد وانتهى به الأمر إلى رئاسة محاكم عسير، وقد من الله تعالى عليّ بزيارة الشيخ قبل خمسة أشهر تقريباً في بيته بأبها، وسعدت به كامل السعادة، وقرأت عليه مجموعة من الكتب منها (كتاب التوحيد) و(ثلاثة الأصول) و(القواعد الأربع) و(كشف الشبهات) و(آداب المشي إلى الصلاة) وكلها للشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله تعالى -، وقد وجدت من الشيخ رحابة الصدر، وسعة البال، ومحبة العلم، والتعليقات الثمينة، مع ما لديه من مكنوز تاريخي جيد ونادر، ومعرفة بالأنساب والبقاع، مع كبر سنه، وقد سجلت لشيخنا بعض فرائده ودرره، منها ما تقدم ذكره من سيرته، ومنها شدة ورع الشيخ وكراهيته بأن يذكر أحد في مجلسه بسوء، ومنها محبة الشيخ للخير وأهله: وكان -على كبر سنه وثقل حركته - يكرر الإلحاح على ابنه- الفاضل القاضي الشيخ محمد - بزيارة صديق له، ويستشهد بالحديث الرباني: «إن الله عزَّ وجلَّ يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده» الحديث. ولمست من الشيخ أن سيرته في القضاء كانت حازمة عادلة، مع الورع والمراقبة مع محبة الناس له من الوجهاء وعامتهم. ومن جميل ما سمعت من الشيخ - رحمه الله تعالى - أنه كتب في إحدى القضايا عبارة متخاصمين وفيها (وجاء فلان تحت الكوبري)، فلما رفعت للتمييز انتقدوا عليه كتابة الكوبري، وقالوا: ان التعبير ب (الجسر) أفصح!، فكتب الشيخ لهم ما معناه: (إن المدعي والمدعى عليه نطقوا بذلك، وأنا أكتب ما قالوا لا أزيد ولا أنقص). ومن نعمة الله تعالى عليّ أن شيخنا أظهر محبته لي، ويثني عليّ عند جلساته، وقال حال وداعي له ملحاً عليّ إطالة المكث: (صار تبي تتركنا يا صبي عتيبة)، وسبحان من بيده مقاليد الأمور من قبل ومن بعد، فوالله إن - الهمة المتوانية - لتثنيني كل يوم عن السفر لزيارته بعدما عقدت العزم خلال شهر واحد أكثر من مرة، فأسأل الله تعالى ان يتغمده برحمة من عنده، وأن يعظم له الأجر، وان يجمعنا به واخواننا المسلمين في جنات النعيم، وان يعظم أجر ذويه، ويلهمهم الصبر والسلوان، وان يرزقهم بره بعد مماته، كما بروه في حياتهم. وهذه القصيدة بعض من مشاعري نحو الفقيد الغالي. دع ذكر أيام الهوى وانس الغزل وابكِ على نجمٍ من الدنيا أفلْ ابكِ على شيخٍ كريمٍ راحلٍ عن دارِ من ضافته أياماً رحلْ هو ذاك (ابراهيم) من ذا مثله شيخ على نهجِ الأسالفة الأولْ هو ذاك (ابراهيم) من ذا مثله يعلو على رأس المكارم ما نزلْ هو ذاك (ابراهيم) من ذا مثله جعل الحديث على المسامع كالعملْ شيخ تغذّى مذ شروق حياتهِ: العلمَ والتوحيدَ مع خير العملْ قرأ العديد من العلوم بهمةٍ مع كل شيخٍ راسخٍ مثل الجبلْ لبس المفاخر والمكارم يافعاً وبها بقي حتى عن الدنيا ارتحلْ ولي القضا بين الخلائق بينما لزم التعبد للإلهِ وما غفلْ ويعلّمُ الطّلابَ في حَلَقَاتِهِ من غير ما كللٍ ولا يخشى المللْ في الفقهِ والتوحيدِ والتفسيرِ وال تقسيم للميراث دوماً لم يزلْ يا حرقة في القلب كيف بفقده يحيا منار العلم إن كان اضمحلْ والدين باقٍ لا نشك وإنما نخشى المنية للكرام على عجلْ والجهل بين الناس أنزل رحله وبواسق التوحيد باتت: تؤتثل؟! يا رب فاغفر ل(الحديثي) شيخنا واعف له التقصير مع فرط الزلل واشمله يا ربي بعفوك بعدما شابت مفارقه بزهدٍ مع وجلْ واجمعه مع أبنائه وبناته والصحب والإخوان في دار الحللْ دار الكرامة في جوار إلهنا هي قصدنا والله ربي والأملْ مع خير خلق الله من خير الورى في دارِ مكرمةٍ بها المختار حلْ صلى عليه الله دوما كلما نجم بدا من بعد ما نجم أفلْ