وردت في الحلقة السابقة إجابة كاتب هذه السطور مختصرة عن الأسئلة التي ذكر الدكتور فواز جرجس - في حديثه عن مستقبل العلاقات العربية الأمريكية - أن المثقفين العرب يطرحونها. ويأتي في هذه الحلقة دور الإجابة باختصار عن الأسئلة التي قال الدكتور جرجس: إن نخبة من المفكرين والإعلاميين الأمريكيين يطرحونها. وأول هذه الأسئلة: لماذا يكرهنا العرب؟ كنت قد كتبت مقالة عنوانها «عادُ هذا الزمان» «الجزيرة 27/12/1422ه. وأشرت في تلك المقالة إلى بعض صفات الشبه بين قوم عاد الأولى وأمريكا، التي هي - في نظري - عادُ زمننا الحاضر. فلقد أمدَّ الله قوم عاد الأولى بأموال وبنين وجنات وعيون حتى وصف قاعدتهم، «إرم»، بأنها لم يخلق مثلها في البلاد. لكنهم لم يرعوا نعمة الله عليهم.{ فّاسًتّكًبّرٍوا فٌي الأّرًضٌ بٌغّيًرٌ الحّقٌَ وّقّالٍوا مّنً أّشّدٍَ مٌنَّا قٍوَّةْ }؟ وأمد الله الأمريكيين بأنواع من النعم الجليلة. ومن هذه النعم الجنات والعيون، والثروات الطائلة، وامتلاك أزمّة التصنيع، وإدارة الاقتصاد إدارة جيدة، كما أمدهم بالبنين؛ وذلك بزيادة هجرة العقول المتعلمة والأيدي المدربة إلى بلادهم من جميع أقطار العالم. لكنهم لم يشكروا تلك النعم. بل جعلوا المال مقدما على أي مبدأ روحي أو إنساني، ووقفوا موقف قوم عاد الأولى المتمثل في تساؤلهم: {مّنً أّشّدٍَ مٌنَّا قٍوَّةْ} فتحدت دولتهم دول العالم كلها بإعطائها خياراً واحداً - هو أقرب إلى أن يكون إنذاراً -: إما الوقوف معها دون نقاش وإلا فإنها ستعد عدواً لها يمكن أن تهاجمه متى شاءت. ولقد قال الله - سبحانه - عن قوم عاد الأولى: إنهم إذا بطشوا بطشوا جبارين. وبطش الأمريكيين بمن صنفوهم أعداء لهم لا يختلف عن بطش أولئك القوم. بل إنه يفوقه أضعافاً مضاعفة نتيجة تطور وسائل البطش، وتفاقم خطورتها. حدث هذا عند بطش الأمريكيين الجدد على القارة الأمريكية بسكانها الأصليين ممن سموا بالهنود الحمر. ثم تكرر حدوث أمثاله بعد ذلك في أزمنة مختلفة إلى أن بلغت بشاعته ما بلغته في الوقت الحالي. وما حدث في فيتنام، وأفغانستان، والعراق، شاهد واضح على ذلك. ونتيجة لما عرفه الكثيرون عن سيرة الدولة الأمريكية المصرة على الاتصاف بالجبروت والاستكبار فإن المرء يرجح أنه لو أجري استفتاء مستقل لشعوب العالم في مختلف القارات لكانت نتيجة هذا الاستفتاء عدم ود أكثرية هذه الشعوب لسياسة تلك الدولة، بل كرهها. وإذا كان هذا مرجحا من شعوب تشترك مع أمريكا؛ حضارة وأسلوب حكم؛ مثل الشعوب الأوروبية، فما بالك بالعرب الذين عانوا من دعمها الواضح للصهاينة قبل اغتصابهم لفلسطين، وإقامة دولتهم على أرضها، ودعمها للدولة المغتصبة بعد قيامها إلى أن وصلت درجة هذا الدعم إلى ما وصلت إليه الآن. هل يتوقع أن يحب العرب الدولة الأمريكية رغم كل ما اتخذته وتتخذه من سياسة منحازة ضدهم؟ ماذا يتوقع أن يكون رد فعل من يمارس العداء ضده؟ هل يقابل عداء واضحا وضوح الشمس بود ومحبة؟ إن من المعلوم لدى كثير من الباحثين أنه لا يوجد كره عربي للشعب الأمريكي، الذي تخفي وسائل إعلام مؤثرة موالية لأعداء العرب عنه كثيرا من حقائق السياسة الجائرة التي تتبعها حكومته تجاه قضايا العرب؛ وبخاصة قضية فلسطين. وما بين الشعبين الأمريكي والعربي على مستوى الأفراد من علاقات طبيعية لا تختلف عن علاقات أفراد الشعب العربي بأفراد الشعب السويدي - مثلاً - شاهد على ذلك. لكن هناك رد فعل لدى الرأي العام العربي لسياسة الحكومات الأمريكية المتعاقبة: وهي السياسة التي أصبحت أشدّ شراسة وفظاظة ضد الحق الفلسطيني بخاصة وضد قضايا العرب بعامة في ظل الحكومة الحالية. أما السؤال الثاني من أسئلة النخبة الأمريكية فهو: ماذا فعلنا لنستحق هذا العداء؟ لو طرح هذا السؤال فرد أمريكي عادي لما كان مستغربا. لكن أن تطرحه نخبة من المجتمع الأمريكي فهذا أمر مستغرب كل الاستغراب. فالمفروض أن تدرك هذه النخبة جور سياسة الحكومة الأمريكية في تعاملها مع قضية فلسطين.. قضية العرب الأولى، وتعلم انحيازها انحيازاً تاما إلى موقف حكومة الكيان الصهيوني، وتبريرها المستمر للجرائم البشعة التي يرتكبها هذا الكيان بحق الفلسطينيين، إنساناً، ومقدسات، وأرضاً، وثقافة. أليست مواقف الحكومات الأمريكية المتعاقبة، ابتداء من حكومة الرئيس ولسون في الربع الأول من القرن العشرين، وانتهاء بحكومة الرئيس بوش الابن الحالية، كافية للإجابة المقنعة عن سؤال النخبة الأمريكية عما فعلته الدولة الأمريكية بحق العرب حتى تكون لدى الرأي العام فيهم عدم ود - إن لم يقل كراهية - للسياسة الأمريكية؟ وأما السؤال الثالث؛ وهو الأخير، من الأسئلة التي ذكر الدكتور جرجس أن النخبة الأمريكية تطرحها فهو: ماذا يريد العرب المسلمون من الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ يذكر كاتب هذه السطور من بين ما يذكره من أبيات شعر البادية الحكيمة بيتاً يقول قائله: ليت من خيره كفانا شره طال شره دلونا ورشانا إن الإجابة عن سؤال النخبة الأمريكية الأخير هي - باختصار - أن العرب لا يريدون من الولاياتالمتحدةالأمريكية إلا أن تكون عادلة في معاملتها لهم، وفي تعاملها مع قضاياهم؛ وفي طليعتها قضية فلسطين. لقد أصبحت أمريكا بما تملكه من امكانات بشرية واقتصاية وعلمية - المؤثرة الأولى في مجريات الشؤون الدولية، إن لم أقل المتصرفة في هذه الشؤون حقيقة. وهي، بهذه القوة الفريدة، قادرة على أن تنتهج العدل في تلك المعاملة وذلك التعامل. ولو تحررت من عقدة التصهين، وتوخت العدل في سياستها مع العرب لوجدتهم؛ قيادات وشعوباً، يتعاملون معها بكل ما تتصف به العلاقات بين الدول والشعوب من مظاهر الود والتصافي. كم يتمنى كل مخلص أن يتحقق ذلك.