جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. سلمان انتشار الشائعات بين الناس أمر خطير، وداء عظيم.. لا يقل خطورة عن انتشار النار في الهشيم، واتفق العلماء والدعاة على أن مروج الشائعات يشبه الثعلب في روغانه، والأفعى في نفث سمومها، وهو كشيطان الإنس، بحسبان الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، التي تنتقل عدواها من أناس لئيمي الطبع دنيئي الهمة، منحرفي التفكير، عديمي المروءة، إلى كل أفراد المجتمع. فالشائعة ترتبط بالفتنة، وتمزيق المجتمع، وتفتيت وحدته، وتهديد سلامته.. بداية يوضح معالي الشيخ محمد بن عبدالله السبيل إمام وخطيب المسجد الحرام أن ترويج الشائعات بين المسلمين أمر خطير، يؤدي بالأمة الإسلامية إلى الهلاك والدمار، وقد حرم الله عز وجل الفساد وإشاعة الفتن بين الناس، فحذر سبحانه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجعل إشاعة السوء ونقل الكلام من قوم إلى قوم، ومن فرد إلى فرد، جعل ذلك آية البلاء، ونذير الفناء، فالذي يجلس بين الناس ليشيع بينهم كلمة قد يهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً، لأنه يتصنع الصلاح والديانة، ليغرر بالناس فينشر العداء ويشيع الضلال، ويحدث الفتن بين العباد، وهذا هبطت نفسه، وتجرد من الأخلاق الفاضلة، وعثا في الأرض فساداً، وكان مصدراً للأذى والشر، وداعية للتفرق والتنازع، فهو حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، فما أتعسه في الدنيا، وما أشقاه في الآخرة: {والَّذٌينّ يٍؤًذٍونّ المٍؤًمٌنٌينّ والًمٍؤًمٌنّاتٌ بٌغّيًرٌ مّا اكًتّسّبٍوا فّقّدٌ احًتّمّلٍوا بٍهًتّانْا وإثًمْا مٍَبٌينْا}. ويخاطب الشيخ السبيل النمام، ومروج الشائعات، قائلاً: أي حظ لك في أن تكون كالثعلب في روغانه، أو كالأفعى في نفث سمومها ماذا تجني من الإيذاء لخلق الله!!؟ وما حظك في أن تكون شيطاناً من شياطين الإنس، وقد خلقك ربك إنساناً كريماً، يا من اغتر بالدنيا وزينتها، واعتمد على مكره وحيله، اتق الله واجعل حظك من الدنيا نيل مرضاة الله وقدم لنفسك خيراً تجده عند الله، فإنك إن عشت عشت عزيزاً حميداً، وإن مت لم يمت ذكرك، وكنت عند الله مرحوماً، وعند الناس محموداً، ولقيت خير الجزاء بما قدمت من صالح الأعمال {إنَّهٍ مّن يّأًتٌ رّبَّهٍ مٍجًرٌمْا فّإنَّ لّهٍ جّهّنَّمّ لا يّمٍوتٍ فٌيهّا ولا يّحًيّى"، ومّن يّأًتٌهٌ مٍؤًمٌنْا قّدً عّمٌلّ الصَّالٌحّاتٌ فّأٍوًلّئٌكّ لّهٍمٍ الدَّرّجّاتٍ العٍلّى"}. أخطر الحروب من جانبه يقول فضيلة الدكتور عبدالرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام ان الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل من أشد الأسلحة تدميراً، وأعظمها وقعاً وتأثيراً، وليس من المبالغة في شيء إذا عدت ظاهرة اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية، وإنها جديرة بالتشخيص والعلاج، وحرية بالتصدي والاهتمام لاستئصالها والتحذير منها، والتكاتف للقضاء على أسبابها وبواعثها، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة، التي هي عماد نجاح الأفراد، وأساس أمن واستقرار المجتمعات، وركيزة بناء أمجاد الشعوب والحضارات. ويضيف الشيخ السديس: إن المستقرئ للتأريخ الإنساني يجد أن الشائعات وجدت حيث وجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التاريخ والشائعات تمثل مصدر قلق في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات، ولما جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية، على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه، وسلامة لحمته، والحفاظ على بيضته، بل لقد عد الإسلام ذلك سلوكاً مرذولاً، منا فياً للأخلاق النبيلة، والسجايا الكريمة، والمثل العليا، التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء، وهل الشائعة إلا نسف لتلك القيم؟! ومعول هدم لهذه المثل؟! وفي هذا السياق أيضاً حذر الإسلام من الغيبة والوقيعة في الأعراض، والكذب والبهتان والنميمة بين الناس، وهل الشائعة إلا كذلك؟! وأمر بحفظ اللسان، وأبان خطورة الكلمة، وحرم القذف والإفك، وتوعد محبي رواج الشائعات بالعذاب الأليم: {إنَّ الذٌينّ يٍحٌبٍَونّ أّن تّشٌيعّ الفّاحٌشّةٍ فٌي الذٌينّ آمّنٍوا لّهٍمً عّذّابِ أّلٌيمِ فٌي الدٍَنًيّا والآخٌرّةٌ}، وحث على التثبت والتبين في نقل الأخبار، يقول سبحانه: {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا إن جّاءّكٍمً فّاسٌقِ بٌنّبّأُ فّّتّبّيَّنٍوا أّن تٍصٌيبٍوا قّوًمْا بٌجّهّالّةُ فّتٍصًبٌحٍوا عّلّى" مّا فّعّلًتٍمً نّادٌمٌينّ}. سوء الظن ويوضح الشيخ السديس بأن الشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين، والله عز وجل يقول: {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا اجًتّنٌبٍوا كّثٌيرْا مٌَنّ الظَّنٌَ إنَّ بّعًضّ الظَّنٌَ إثًمِ}، وقد أخرج الشيخان في صحيحهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث»، كما نهى الإسلام أتباعه ان يطلقوا الكلام على عواهنه، ويلغوا عقولهم عند كل شائعة، وتفكيرهم عند كل ذائعة، أو ينساقوا وراء كل ناعق، ويصدقوا قول كل دعي مارق أخرج الإمام مسلم في صحيحه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالمرء كذباً ان يحدث بكل ما سمع»، وفي رواية: «كفى بالمرء إثماً»، وسدّاً للباب أمام الوشاة المغرضين، ونقلة الشائعات المتربصين، ومنعاً لرواج الشائعة والبلاغات المجهولة الكيدية المغرضة، والأخبار الملفقة المكذوبة على البرآء الغافلين، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في الأدب المفرد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: «ألا أخبركم بشراركم؟» قالوا: بلى يارسول الله، قال: «المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت». ولأن الشائعات قديمة مع الإنسان كما يقول السديس، فلم يسلم منها حتى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فقد تعرضوا لحملة من الافتراءات، والأراجيف ضد رسالتهم، تظهر حيناً، وتحت جنح الظلام أحياناً {فّفّرٌيقْا كّذَّبًتٍمً وفّرٌيقْا تّقًتٍلٍونّ} ، فهذا المسيح عليه السلام تشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمه الصديقة: {يّا أٍخًتّ هّارٍونّ مّا كّانّ أّبٍوكٌ امًرّأّ سّوًءُ ومّا كّانّتً أٍمٍَكٌ بّغٌيَْا}، والكريم بن الكريم بن الكريم يوسف عليه السلام نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف: {كّذّلٌكّ لٌنّصًرٌفّ عّنًهٍ السٍَوءّ والًفّحًشّاءّ إنَّهٍ مٌنً عٌبّادٌنّا المٍخًلّصٌينّ}. والسيرة العطرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنموذج يحمل في طياته نماذج حية لتاريخ الشائعة، والموقف السليم منها، فقد رميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها، فرمي بالسحر والجنون والكذب والكهانة، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة، والاتهامات الباطلة ضد دعوته صلى الله عليه وسلم. المجتمع والشائعات وقد ظل المجتمع الإسلامي يصطلي بنار تلك الفرية، ويتعذب ضميره، وتعصره الشائعة الهوجاء عصراً، ولولا عناية الله لعصفت بالأخضر واليابس، حتى تدخل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، ويرسم المنهج للمسلمين عبر العصور للواجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة: {لّوًلا إذً سّمٌعًتٍمٍوهٍ ظّنَّ المٍؤًمٌنٍونّ والًمٍؤًمٌنّاتٍ بٌأّنفٍسٌهٌمً خّيًرْا وقّالٍوا هّذّا إفًكِ مٍَبٌينِ}، إلى قوله سبحانه: {ولّوًلا إذً سّمٌعًتٍمٍوهٍ قٍلًتٍم مَّا يّكٍونٍ لّنّا أّن نَّتّكّلَّمّ بٌهّذّا سٍبًحّانّكّ هّذّا بٍهًتّانِ عّظٌيمِ، يّعٌظٍكٍمٍ اللَّهٍ أّن تّعٍودٍوا لٌمٌثًلٌهٌ أّبّدْا إن كٍنتٍم مٍَؤًمٌنٌينّ}، تقول عائشة رضي الله عنها: «فمكثت شهراً لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم»، حتى برأها الله من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وأرضاها. ويتحدث السديس عن تطور الشائعات بتطور العصور، مؤكداً أن عصرنا الحاضر عصر ذهبي لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطور التقنيات التي تتولى نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية المحمومة في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي والتحطيم المعنوي الذي، له دوافعه المشينة، وأغراضه المشبوهة، ضد عقيدة الأمة ومثلها، وثوابتها وقيمها. حتى باتت هذه التقنية أشبه بألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في غرضها ما لا يفعله العدو بمخابراته وطابوره الخامس، بالتركيز على نقل وترويج شائعات الخوف والمرض، وإثارة القلق والرعب والحروب، وزرع بذور الفتنة، وإثارة البلبلة بين الناس، ولاسيما في أوقات الأزمات، يوافق ذلك فراغ عند المتلقي وفضول، وبطالة وخمول، فتسري الشائعة في الناس مسرى الهواء، وتهيج فيهم هيجان المتلاطم، وتكمن خطورتها أنها سلاح جنوده مغفلون أغرار، سحرتهم الشائعات ببريقها الخادع، فأصبحوا يرددونها كالببغاوات دون ان يدركوا أنهم أدوات يستخدمون لمصالح أعدائهم، وهم لا يشعرون، وللشائعات آثارها السلبية على الرأي العام، وصناع القرار في العالم، وكم كانت سبباً في أن يصرف الأعداء جبهة الأمة الداخلية عن مشكلاتها الحقيقية لإغراقها في مشكلات مفتعلة، علاوة على تمزيق الوحدة الإسلامية، والعمل على تفتيت الجبهة الداخلية. حقائق مسلمة وللأسف فإن كثيراً من المسلمين يتلقى الشائعات المغرضة، وكأنها حقائق مسلمة، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام أجهزة الشبكات المعلوماتية بوجهها الكالح، وما يعرف بالانترنت، عبر مواقعه المشبوهة فيلطخ سمعه وبصره من الشائعات الباطلة، وتلفيق التهم الصفيقة مما تجفل القلوب من مجرد سماعه، وتنحرج النفوس المؤمنة من مطالعته، فضلاً عن البوح به، وما درى من هم هؤلاء الجبناء، خفافيش الظلام، إنهم أدوات في أيدي من يعرف باللوبي الصهيوني العالمي، الذي يعمل ضد أمن الأمة ومجتمعاتها الإسلامية.. لذا على الذين أدمنوا الشائعات الحذر من أن يخسروا دينهم ودنياهم وآخرتهم، وأن يلتبس عليهم الحق بالباطل فينحرفوا عن جادة الصواب والعياذ بالله، وهل يجوز لنا ويليق بنا -نحن أهل الإسلام- ان نتخلى عن شيء من ثوابتنا؟! أو ان تهتز بعض قناعاتنا؟! أو ان نظن غير الحق بأحد من علمائنا وفضلائنا بمجرد وشاية كاذبة أو شائعة مغرضة؟ والمجتمع المسلم كل في مجاله مطالب بالعمل للقضاء على هذه الظاهرة التي لها آثارها المدمرة ضد أمن الأمة واستقرار المجتمع، كما ان على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في المحافظة على سلامة المجتمع من شرورها وأخطارها، بدءاً بالوعي وتقوية الوازع الإيماني، وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء، ولاسيما في أوقات الأزمات، وعدم التهويل والإشارة في التعليقات، والمبالغة في التحليلات المشبوهة، وايجاد صيغة علمية وآلية عملية للحوار الحضاري، والموقف السليم في الأحداث والمتغيرات، واختلاف الظروف والمستجدات، بإخلاص وصدق وشفافية. الدراسات المجردة من جانبه يطرح د.عبدالرحمن بن سليمان المطرودي وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشوون الأوقاف رؤيته لمقاومة آفة الشائعات، باعتبارها من الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي تفتك بالمجتمعات، وتهلكها، وتفكك عراها، وتقوض قواها، فيقول: بالنظر إلى الدراسات الاجتماعية والنفسية التي أجريت لمواجهة الشائعات، والوقاية منها، نتأكد أنه لا يوجد ماهو أفضل ولا أعظم من منظومة القيم والتعاليم التي وردت في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص، ومثل هذا الاستنتاج رغم أنه اعتقاد ايماني بالدرجة الأولى، إلا أنه يحقق ويتفوق على كل ما توصلت إليه أحدث الدراسات العلمية المجردة في هذا الشأن، حيث لم ترق كل تلك الدراسات، وما جاءت به من حلول قديماً وحديثاً إلى بعض مما جاء به الشرع الحكيم بدقائقه وتفصيلاته، وحلوله الجذرية الوقائية والعلاجية لهذا الداء. ويضيف د.المطرودي: وعلى ضوء القرآن الكريم والسبة، فإن علاج هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة لابد أن يسير في خطين متوازين في آن واحد، الأول يتعلق بالوقاية، والثاني: يطرح العلاج الشافي، والوقاية تتمثل في إطارها العام في التمسك بكل القيم الأخلاقية النبيلة التي أمرنا بها الله ورسوله في الكتاب والسنة، والبعد عن كل ما نهى عنه وبخاصة الموبقات الاجتماعية والأخلاقية والسلوكيات السيئة، ومن هذه السلوكيات في مجال الوقاية من الشائعات بيان حرمة إشاعة الأخبار، فمن المعلوم أن أغلب الشائعات هي محض اختلاق، وقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بذلك «من ذكر أمرء بشيء ليس فيه ليعيبه به، حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه» رواه الطبراني، وإذا كانت تلك الشائعات تنطوي على إيذاء الناس، فإن نقلها يكون أشد إثماً، حيث يقول جل وعلا: {والَّذٌينّ يٍؤًذٍونّ المٍؤًمٌنٌينّ والًمٍؤًمٌنّاتٌ بٌغّيًرٌ مّا اكًتّسّبٍوا فّقّدٌ احًتّمّلٍوا بٍهًتّانْا وإثًمْا مٍَبٌينْا}، وإذا تعلقت تلك الشائعات بالأغراض، فإنها تكون أكثر سوءاً وأعظم ذنباً، وتصل بصاحبها إلى عقوبة قذف المحصنات الغافلات، وهي اللعن في الدنيا والآخرة. ومن الحلول الوقائية أيضاً التي جاء بها الإسلام.. التحلي بالصمت إلا في خير، وذلك ما ورد في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، يضاف لذلك تحريم الغيبة والنميمة، وتحريم الكذب، وهو الأصل في غالبية الشائعات، والحث على ستر المسلم، والستر هو نقيض الشائعات تماماً، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة». حسن الظن ويشير د.المطرودي إلى أنه من الحلول الوقائية أيضاً التي أمر بها الإسلام لتجنب آثار الشائعات عدم الخوض أو الحديث فيما ليس لنا به علم، وحسن الظن بالآخرين، حيث إن الشائعات تعتمد إضافة للكذب على الظن السيئ والتخمين، فلو كان ناشر الإشاعة يتحرى الدقة، ويحسن الظن بالآخرين لما نشر عنهم ما قد يسيء إليهم، ومن هنا فإن عدم الخوض، وحسن الظن يغلق باباً واسعاً من الأبواب التي تؤدي إلى الشائعات. أما فيما يتعلق بالعلاج الذي جاء به الإسلام، لهذه الفرية.. يقول د.المطرودي: ينطلق علاج هذه الآفة أيضاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال بعض الخطوط الاجرائية التي تشكل في مجملها آلية علمية دقيقة لاستئصال الشائعات، وأول هذه الاجراءات التثبت والتأكد من كل مايقال، وارجاع الأمور في كل مايقال إلى أهل الاختصاص فيها، أو المسؤولين عنها لأنهم أخبر وأعلم بها {فّاسًأّّلٍوا أّّهًلّ الذٌَكًرٌ إن كٍنتٍمً لا تّعًلّمٍونّ} . يلي ذلك عدم ترديد ما يقال من شائعات، لأن ذلك يسهم في نشرها، وتحقيق أهداف مروجيها.. ومن المفيد أيضاً التأني والتروي وعدم التسرع في الرد على تلك الشائعة أو تلك، قبل دراستها وتمحيصها من قبل أهلها، يضاف لذلك تحكيم العقل، وعدم الانسياق وراء العواطف والأهواء والانفعالات والمصالح الشخصية في التعامل مع الشائعات، وضرورة مواجهتها بالحقائق التي ترتبط بها، وإشاعتها بطريقة عفوية في خطوة مضادة، وفي سياق حقائق أخرى، فذلك أدعى للقبول والتصديق، على أن تكون الحكمة والموعظة الحسنة هي الأساس في تعامل المختصين مع ما يقال من شائعات عند تفنيدها وتصحيحها دون مبالغة قد تأتي بنتائج عكسية. الإشاعة والفتنة أما الدكتور توفيق بن عبدالعزيز السديري وكيل الوزارة للشؤون الإسلامية فيرى أن الإشاعة ترتبط بالفتنة ارتباطاً وثيقاً، ففي أيام الفتن والأزمات يتعاظم دور الإشاعة ويزداد خطره، كما أن الإشاعة يمكن أن تكون نوعاً من أنواع الفتنة، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. وإذا كان الأمر بهذه الخطورة يتساءل د.السديري ما موقف المسلم من الفتنة وما موقفه تحديداً من الإشاعة؟، ويقول: لكي يحدد المسلم موقفه من الإشاعة يجب أن يعلم موقف الإسلام منها، فالإسلام يعتبر الإشاعة كذباً وافتراء وخداعاً وتضليلاً ووسيلة للانتهازيين الذين في قلوبهم مرض، ومن هذا المنطلق شدد الإسلام على وجوب التثبت عند سماع الأخبار: {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا إن جّاءّكٍمً فّاسٌقِ بٌنّبّأُ فّّتّبّيَّنٍوا أّن تٍصٌيبٍوا قّوًمْا بٌجّهّالّةُ فّتٍصًبٌحٍوا عّلّى" مّا فّعّلًتٍمً نّادٌمٌينّ}. والإسلام أكد على عدم الخوض في الإشاعات التي يتعذر التحقق من مصدرها أو المشكوك في صحتها: {ولا تّقًفٍ مّا لّيًسّ لّكّ بٌهٌ عٌلًمِ إنَّ السَّمًعّ والًبّصّرّ والًفٍؤّادّ كٍلٍَ أٍوًلّئٌكّ كّانّ عّنًهٍ مّسًئٍولاْ}، {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ}، كما يعتبر الإشاعة مصدراً من مصادر الوقيعة والشر والنصوص والشواهد على ذلك كثيرة منها: قول الله تعالى: {واجًتّنٌبٍوا قّوًلّ الزٍَورٌ}، والزور هو الكذب والشائعة نوع من الكذب، والله تعالى يقول: {يّا أّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا اتَّقٍوا اللَّهّ وكٍونٍوا مّعّ الصَّادٌقٌينّ}، كما عد الرسول صلى الله عليه وسلم الكذب من آيات النفاق، كما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيزني المؤمن؟ قال: نعم، أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، أيكذب المؤمن؟ قال: لا»، فانظر إلى عظم أمر الكذب مقارنة بكبائر الذنوب كالزنى والسرقة، وفي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت رجلين أتياني، قالا: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به على يوم القيامة» رواه البخاري، والإشاعة بالإضافة لكونها كذباً فهي غيبة ونميمة وبهتان والكل يعرف إثم كل واحدة من هذه الجرائم، فما بالك بها مجتمعة. الرؤية الشرعية ويطالب د.السديري بضرورة ان يعرف المسلم موقف دينه من الإشاعة والعقاب الذي ينتظر مصدرها وناقلها، كما أن المسلم يجب أن يدرك أبعاد وخطورة الإشاعة في تمزيق المجتمع وتفتيت وحدته وتماسكه والتفريق وايغار الصدور بين الراعي والرعية وبين العلماء والأمة وبين فئات المجتمع الأخرى مما يجعل المجتمع فريسة سهلة للعدو المتربص، وكذلك أبعادها الاقتصادية بما تؤدي إليه من زعزعة اقتصاد الأمة وتحطيم مكتسباتها، ثم ما تؤدي إليه من إخلال بالأمن وترويع للآمنين وجلب الشر لهم. ويحدد د.السديري عدداً من الدوافع والأسباب التي تؤدي إلى انتشار الشائعات منها: التنشئة غير السليمة، فالطفل الذي ينشأ في بيت وبيئة تردد «سمعت أن.. ويقولون.. وأظن» لابد ان يشب ويكبر على هذا المنهج والطريقة، ثم قلة العلم والتقوى والورع ومخافة الله، والفضول وحرص الإنسان على تفسير وتحليل الأحداث تفسيراً يقبله هو وفقاً لقدراته العقلية والثقافية والمنطقية، حتى ولو لم يكن لديه القدرة على التفسير فيلجأ للخيال والافتراض ومن ثم إصدار الأحكام دون وعي وإدراك لخطرها عليه في الدنيا والآخرة، ثم خطرها على مجتمعه وأمنه، يلي ذلك الحقد والحسد على الآخرين والمنافسين وكل أنواع الأنانية {أّمً يّحًسٍدٍونّ النَّاسّ عّلّى" مّا آتّاهٍمٍ اللَّهٍ مٌن فّضًلٌهٌ}.. ومن الأسباب أيضاً الإسقاط والبحث عن كبش فداء أو شماعة للأخطاء فتكون الإشاعة نوعاً من استرضاء النفس وعدم القدرة على مواجهتها بالفشل أو مواجهة الحقيقة. المقاومة.. كيف؟ ويرى د.السديري ان مقاومة الإشاعة تنطلق من ثوابتنا ومن عقيدتنا وفق مايلي: - الأصل إحسان الظن بالمسلمين ما لم يثبت بدليل قطعي ما يخالف ذلك {لّوًلا إذً سّمٌعًتٍمٍوهٍ ظّنَّ المٍؤًمٌنٍونّ والًمٍؤًمٌنّاتٍ بٌأّنفٍسٌهٌمً خّيًرْا وقّالٍوا هّذّا إفًكِ مٍَبٌينِ}. - عدم تداول الخبر مهما كان مصدره، واستحضار خشية الله، وعدم الانسياق خلف العاطفة وخلف سواد الناس والركون عند النوازل إلى أولي العلم والحكمة والتخصص وذوي الرأي والخبرة وليس أنصاف العلماء وطلاب الشهرة وكثرة الأتباع وذوي المآرب الدنيوية سياسية كانت أو مادية أو اجتماعية، حتى ولو ألبست لباس الدين {ولّوًلا إذً سّمٌعًتٍمٍوهٍ قٍلًتٍم مَّا يّكٍونٍ لّنّا أّن نَّتّكّلَّمّ بٌهّذّا سٍبًحّانّكّ هّذّا بٍهًتّانِ عّظٌيمِ}، {ولّوً رّدٍَوهٍ إلّى الرَّسٍولٌ وإلّى" أٍوًلٌي الأّمًرٌ مٌنًهٍمً لّعّلٌمّهٍ الذٌينّ يّسًتّنبٌطٍونّهٍ مٌنًهٍمً}.. فالعلاج القرآني يتلخص في التماسك الاجتماعي وثقة المؤمنين ببعضهم، وعدم إشاعة الفاحشة وزعزعة الثقة داخل مجتمعهم بعدم تناقل الأخبار، فالإسلام اعتبر ناقل الأخبار قاذفاً. - دلالة الناس على المصادر الموثوقة وتبصيرهم بخطورة الشائعات وتفقيههم بحكمها. - المسارعة إلى نبش الحقائق وإفشائها بين الناس كل في موقعه وأن يكون الصدق رائدنا والشفافية منهجنا.