الأمن حاجة إنسانية ملحة، ومطلب فطري لا تستقيم الحياة بدونه ولا يستغني عنه فرد او مجتمع. والحياة بلا أمن حياة قاحلة مجدبة، شديدة قاسية، لا يمكن ان تقبل أو تطاق. فالأمن من أهم مقومات السعادة والاستقرار، وأهم أسباب التقدم والتحضر والرقي، وهو مطلب تتفق على أهميته جميع الامم والشعوب، والافراد والمجتمعات، في كل زمان ومكان. وإذا فقد الأمن تعطلت مصالح الناس، وانقبضوا عن السعي والكسب، وانحصرت هممهم بتأمين انفسهم ومن تحت ايديهم، ودفع الظلم والعدوان الواقع أو المتوقع عليهم. وهل يمكن للانسان ان يعبد ربه، ويقوم بواجبات دينه - كما امره الله - والخوف يحاصره، والقلق يساوره، وتوقع المكروه يخنق صوته، ويكتم انفاسه؟ وكيف يتأتى للانسان ان يبدع ويفكر، وهو يتوجس خيفة، ويتوقع البلاء في اية لحظة؟! وعقله في حيرة وذهول، وذهنه مشغول بتأمين نفسه واهله، وحماية ما يستطيع من حقوقه ومصالحه؟! وكيف يمكنه الانطلاق لتنمية ماله واستثماره، واللصوص وقطاع الطريق واقفون له بالمرصاد، يتحينون الفرصة للانقضاض عليه، وسلب ما لديه، والاستيلاء على ما في يديه؟! فلا يمكن للحياة أن تستقر وتزدهر الا بالامن، ولا يمكن أن تستقيم أحوال الناس، وتنتظم أمورهم، وتهدأ نفوسهم الا بتوفره، فهو حاجة انسانية، وضرورة بشرية، وغريزة فطرية ملحة، ولا يكاد الناس يجمعون على طلب شيء والسعي لتحصيله، كما يجمعون على طلب الأمن والحرص عليه. وان ضرورة الناس الى الأمن، لا تقل عن ضرورتهم الى الطعام والشراب، ان لم تزد عليها، وخصوصا عند التعارض، فاذا خاف الانسان على نفسه من الهلاك وكان في نفس الوقت جائعا، فانه يسعى لتأمين نفسه، قبل سعيه لإشباعها، لأن الأمن يتعلق بحياته وأصل وجوده. ولا أدل على ذلك من قول الله - عز وجل - : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } «البقرة: 126»، فقد دعا ابراهيم الخليل - عليه السلام - ربه ان يوفر الأمن في البلد الحرام، قبل ان يدعوه بأن يوفر لأهله الطعام والشراب. ونظير هذه الآية قوله تعالى عن إبراهيم أيضا: { وّإذً قّالّ إبًرّاهٌيمٍ رّبٌَ اجًعّلً هّذّا البّلّدّ آمٌنْا وّاجًنٍبًنٌي وّبّنٌيَّ أّن نَّعًبٍدّ الأّصًنّامّ } إلى أن قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } «ابراهيم : 35 - 37». وقال سبحانه وتعالى ممتنا على قريش، بما يقتضي منهم شكر هذه المنة، والقيام بما تستوجبه من طاعة الله وتوحيده: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} «القصص: 57». فقد ذكرهم أولا بنعمة الأمن، ثم ذكرهم بنعمة الثمرات والرزق. ووصفه له بأنه حرم آمن، قبل وصفه بأنه يجبي اليه ثمرات كل شيء، يدل على ما ذكرت من أهمية الأمن، وشدة حاجة الناس إليه، لتكون حياتهم مستقرة ناعمة. وقال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين بأن وفر لهم الامن، وايدهم بالنصر، ورزقهم من الطيبات: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} «الأنفال: 26». وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بقيمة الأمن وأهميته، وانه من اهم مقومات السعادة، واكبر اسباب الاستقرار والراحة. فعن عبيد الله بن محصن الانصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أصبح آمنا في سربه - أي: في نفسه وقومه - معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» أي: فكأنما اعطي الدنيا بأسرها» رواه الترمذي وابن ماجة والبخاري في «الأدب المفرد»، وحسنه الترمذي والألباني. ويلاحظ في هذا الحديث أنه ذكر نعمة الامن قبل نعمتي العافية وتوفر القوت، وفي هذا اشارة كما سبق الى ان ضرورة الناس الى الامن، لا تقل عن ضرورتهم الى الاكل والشرب، ان لم تزد عليها. إذ كيف يهنأ الانسان بطعام او شراب أو نكاح أو غيرها، وهو خائف مذعور، ترتعد فرائصه، وتضطرب اطرافه، ويرتجف قلبه، والخوف يحاصره، والقلق يساوره، والرعب يكتم انفاسه ويخنقه؟؟! بل كيف يستطيع الانسان أن يبدع ويفكر، وعقله في حيرة وذهول، وذهنه مشغول بتأمين نفسه، وحماية مصالحه؟! وكيف يستطيع القيام بواجبات الايمان، ويتأتى له اداء الشعائر الظاهرة من صلاة وحج وجهاد وامر بمعروف ونهي عن منكر، وهو خائف على نفسه او اهله او ماله؟! بل ربما استهدف في ايمانه، وفتن عن دينه، واكره على الكفر بعقيدته، ومنع من اداء شعائر دينه! ولهذا كان من أكره على التلفظ بكلمة الكفر معذوراً معفواً عنه ما دام قلبه مطمئناً بالايمان، كما قال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} «النحل 106». ومما يدل على أهمية الأمن وخطره، وعظيم اثره في الكون والحياة انه منذ اللحظة الاولى ارادت الملائكة ان تطمئن على سلامة الارض من الفساد، وصيانة الامن فيها، وعلى ان وجود الإنسان لن يكون إخلالا بذلك النظام المتناسق الذي ينتظم جميع ذرات الكون، والذي ينبغي للانسان ان يلتزم به ويسير على وفقه، فسألت الملائكة ربها وهي خائفة مشفقة من هذا المخلوق الجديد، فقالت: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} «البقرة: 30»، فقد خشيت الملائكة من ضياع الامن، وانتشار الفساد والظلم على ايدي هؤلاء البشر، بسبب سفك الدماء، والافساد في الارض بكل ما يعنيه من جرائم واعتداءات. فأجابهم رب العزة جل وعلا بقوله: { إنٌَي أّعًلّمٍ مّا لا تّعًلّمٍونّ} ، أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف، على المفاسد التي ذكرتموها مالا تعلمون انتم، فاني سأجعل فيهم الانبياء والمرسلين، والشهداء والصالحين والزهاد والصديقين، والعلماء العاملين، والمتقين الخاشعين، والدعاة والمصلحين، والزهاد والعباد، والأولياء والاصفياء، ومن يبيعون انفسهم لله، ويسخرون حياتهم لتحقيق مرضاته، ونصرة دينه. وحين كان آدم في الجنة يتفيأ ظلالها، ويستمتع بنعيمها وطيباتها، حذره الله من عدو يريد جلب الشقاء له، وحرمانه من مقومات امنه في الجنة، وهي: السعادة والاستقرار، والشبع والكساء، والري والسكنى، فقال تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(طه:117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى) (طه:118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (طه:119) } «طه: 117 - 119». وحين أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام الى الارض، قرر له سنة إلهية لا تحيد ولا تتخلف، وهي ان من اتبع هداه واستجاب لامره، فإن له الامن والسعادة، فلا يضل ولا يشقى، ولا يصيبه خوف ولا حزن: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38)} «البقرة: 38». وهذا دليل ظاهر على اهمية الأمن، وعظم حاجة الانسان اليه، حيث بينه ربنا - عز وجل - لآدم ابي البشر وارشده الى اسبابه منذ اللحظة الاولى لإهباطه الى هذه الارض. ومما يدل على أهمية الامن: ان الله سبحانه وتعالى قد امتن به على قريش، وذكرهم في اكثر من آية بعظيم نعمته عليهم بالامن ورغد العيش، حيث جعلهم اهل بيته، وجوار حرمه الآمن، فكانوا محل تقدير الناس واحترامهم، حيثما حلوا وارتحلوا فعاشوا في امن وسعة رزق، والناس من حولهم يتخطفون ويتناحرون، ويعانون انواع المخاوف، واصناف الجوع والمساغب، افلا يدعوهم ذلك الى ذكر هذه النعمة وشكر المنعم بها، بطاعته واخلاص التوحيد والعبادة له؟! يقول الله عز وجل في شأنهم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت:67)} «ويقول - سبحانه وتعالى: { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} «القصص : 57». كما ذكرهم - سبحانه وتعالى - بهذه النعمة في سورة كاملة هي سورة قريش، قال الله - تعالى: {لإيلافٌ قٍرّيًشُ فٌهٌمً رٌحًلّةّ الشٌَتّاءٌ وّالصَّيًفٌ فّلًيّعًبٍدٍوا رّبَّ هّذّا البّيًتٌ الذٌي أّطًعّمّهٍم مٌَن جٍوعُ وّآمّنّهٍم مٌَنً خّوًفُ } يقول صاحب الظلال: «هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها.. منه ايلافهم رحلتي الشتاء والصيف، ومنه الرزق الذي افاضه عليهم بهاتين الرحلتين، وبلادهم قفرة جفرة، وهم طاعمون هانئون من فضل الله. ومنة امنهم الخوف، سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله، ام في اسفارهم وترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء. يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه، وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين، ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين. يقول لهم: من اجل ايلاف قريش: رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الامن فجعل نفوسهم تألف الرحلة، وتنال من ورائها ما تنال« فليعبدوا رب هذا البيت الذي اطعمهم من جوع» وكان الاصل - بحسب حالة ارضهم - ان يجوعوا، فأطعمهم الله واشبعهم من هذا الجوع، وآمنهم من خوف وكان الاصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - ان يكونوا في خوف، فآمنهم من هذا الخوف. ولما كان الامن بهذه المثابة من الاهمية وشدة الاحتياج اليه، كان تحقيقه من اهم واجبات الدول والحكومات على مر العصور، بل لم تقم الدول والحكومات اصلا الا لاقامة صالح الناس، وتحقيق الامن والاستقرار لهم، وتسيير شؤونهم، ونشر العدل في صفوفهم، ومنع التعادي والتظالم فيما بينهم، وصد كيد اعدائهم عنهم. كما ان الاسهام في تحقيق هذه المصلحة الضرورية والمحافظة عليها واجب محتم على كل فرد من افراد المجتمع، كل بحسب موقعه ومسؤوليته، وعلى قدر طاقته ومكنته، ومواهبه وقدراته، فالامن مصلحة لهم جميعا، وهو منهم واليهم، وخيره عائد اليهم، وضرر فقده راجع عليهم، وكل فرد منهم على ثغر من ثغور الامن، وحارس من حراسه، فالله الله ان يخرم رواق الامن من قبله، او يهتز حبله بسبب تفريطه وغفلته، او جهله وسذاجته، او بدافع من جشعه وطمعه، او حقده وحسده. نسأل الله تعالى ان يمن علينا بالامن والايمان، والسلامة والاسلام، وان يحفظ بلادنا من كل مكروه وسائر بلاد المسلمين، وان يرد عنها غوائل الاعداء والمتربصين ويدفع عنها كيد الكائدين وظلم الظالمين، وحسد الحاسدين، اللهم آمين. وللحديث بقية حول اثر الامن في النهضة الحضارية والنمو الاقتصادي.