في ظهورهم، وفي العراق كل يوم تقطع أصابعهم أما إذا دخلوا إيران فستكون حياتهم فيها ليلاً ليس له آخر! قام من فراشه قبيل الظهر، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، متناسياً أنه سبعيني مكانه في الصف الأول بين المصلين، ولما تقم شمطاؤه نؤومة الضحى، ولا أولاده الذين تقطعت بهم الأسباب، وتسربوا من الدراسة، بعدما أترفهم بما يغدقه عليهم من مطعم ومشرب لم يطبهما. ولم يكن من حوله في اليقظة، ولا في النوم إلا طائفة من العمالة الذين لا يدُلُّهم على استيقاظه من نومه إلا سعاله وتمخطه وصراخه البذيء وسبه لمن حوله. وما أن أطل عليهم بجسمه المترهل، حتى هبوا خائفين لاستقباله وخدمته وإصلاح ما أفسده الدهر من شعره وتجاعيد وجهه، فهو في كل صباح يحتاج إلى ساعة أو بعض الساعة لمغالبة عوادي الدهر واستكمال متطلبات الخروج إلى الناس بوجه مرمم. لم يطل الوقت، كانت المسافة الزمنية بين زعيقه وشتائمه وارتمائه على أقرب كرسي في الصالة لا يتجاوز عشر دقائق على الأكثر، وكان القائمون على خدمته وترميمه لحظتها يتجمدون خلفه، حتى يرتد إليه طرفه الشاخص، وحتى يلتقط أنفاسه اللاهثة، فعند كل استيقاظ لابد أن يلتف من حوله منظم الشعر وصابغه، ومقلم الأظفار، وكواء الملابس، وحامل الطيب والمدلك، كانوا أربعة من جنسيات مختلفة وديانات مختلفة ولغات مختلفة، وكان التفاهم بينهم بالإشارات، تسهلها عليهم رتابة العمل ونمطية الممارسة، فكل واحد موكل بمهمة يمارسها كل صباح. ولما أخذ الشيخ «مسعود» زخرفه وازين، نهض متحاملاً على عصاه، وقد أمسك بعضده سائقه، ودخل صالة الطعام، ليأكل ما لا قبل له باحتماله، وما ليس بحاجة إليه من السكريات والدهنيات والنشويات والبروتينات، ولم يكن أحد من أفراد العائلة في طريقه ولا في صحبته، وما اعتاد أن يلتقي بأحد منهم، ولا أن يقضي إجازته الأسبوعية أو السنوية مع أحد منهم، لا يلتقون به إلا حيث يتعرض أحدهم لمشكلة أو يحتاج إلى مال، وويل لهم من وابل السب والشتم، خرج يجر جسما أقعدته الشحوم، وأثقلته السنون، وبهظته الطعوم، وهدته الهموم، وبين البيت والحديقة لقيه ابن عمه «سعيد» فسلم عليه، وقبل رأسه، وهم بالحديث، ولكنه أحس بأن الأجواء مكفهرة، وما كان من عادة «مسعود» أن يهش أو يبش بأحد، إلا حيث تكون الدثور، ولكن الحاجة تحمل المحتاج على إراقة ماء الوجه، لقد أحس الحارس بالحرج، فهو الذي سمح ل «سعيد» باختراق أجواء البيت، وماذا يفعل أمام ابن عمه. التف «سعيد» ليمشي خلفه، وتوقع أن يسأله عن حاله وأهله وأقاربه، ولكن السكون القاتل لا تقطعه إلا سعلات حادة أو مكالمات متحشرجة في «الجوال» يتلقاها تباعا من موظفيه الذين يسردون له مجمل العمليات التجارية، وما تلقاه من سائر الفروع من مضاربات مع الشركات، وكان لا يزيد في الرد على كلمة: «ثم ماذا...» و«ماذا بعد» و«كيف تصرفتم؟» ووصل الثلاثة إلى السيارة الفارهة، فتح السائق الباب، وساعد الشيخ على الركوب، برفع رجله اليمنى، ورد الباب برفق، ثم أسرع إلى المقود، وتحركت السيارة، فيما بقي «سعيد» شاخص البصر، متجمدا في مكانه. ولما يفق من ذهول الصدمة إلا بوقع أقدام الحارس الذي طلب منه مغادرة القصر. خرج متثاقلاً، لا يؤرقه إلا ما تعانيه أسرته، وما يترقبه من ضروريات، لام نفسه: لماذا لم أفاتحه بحاجتي؟ سلمت عليه، وتمكنت من المشي خلفه، وهو صامت، كان من واجبي أن أفصح عما أريد، إنني رجل خجول مفرَّط، وهذا جزائي. لا بأس، هناك أكثر من فرصة، بإمكاني أن أعود إليه يوم غد، وسوف أباشره بالمفاتحة. إنه رجل ثري، وأنا أقرب الناس إليه، أليس هو ابن عمي، ويعرف جيداً أنني فقير، وأن أبي كفله يوم أن مات أبوه، وهو صغير، حقاً إنني رجل خجول، ما كان لي أن أتردد في عرض حاجتي عليه، ولكن أليس من واجبه أن يسأل عما أنا عليه، وعما أتعرض له من ضوائق، أبداً هو يعرف أنني قضيت حياتي سائقاً في إحدى الإدارات، وأنني تقاعدت، وأن تقاعدي لا يسد حاجتي فضلاً عن حاجة أسرتي، وبيتي يمتلئ بالأبناء والبنات والأحفاد والأسباط، لا أرد قادما، ولا أمنع سائلاً، إنه يعرف جيدا ما أعانيه من الفقر والفاقة، ويعرف أنني أقل منه مالا وولداً، وأن الله جعل له مالاً ممدوداً، غير أنه لم يعرف أن كل ذلك لا يغني عنه شيئاً إذا تردى، ولكن لماذا لا ألحق به في مكتبه، وأنجز مهمتي، فما عاد وضعي يحتمل التأخير، ولقد علمت ما يدفعه من تبرعات، وما ينفقه في المناسبات، وما يبذره في الرحلات، وما يغدقه على أولاده العاطلين العققة، مع أنه يحب المال حباً جما، ولا يبالي من أي الطرق أخذه، ولا كيف أكله، وسواء عنده أكله، بالإثم أو بالظلم أو بالباطل، كل هذه الهواجس خطرت على بال «سعيد»، كان يفكر فيها بصوت مرتفع، ومما يزيد ألمه أن سيارته قد لا تصل به إلى ابن عمه «مسعود» ثم تعود به إلى بيته، فالوقود على وشك النفاد. حسنا ستصل بي إليه، ولن يخيب أملي. وانطلق صوب المكتب، وترجل من سيارته، التي لم يسمح لها بالدخول في ساحة المبنى، ودخل على مدير المكتب الذي يعرفه جيداً، ويعرف أفضال أبيه على سيده. طلب منه مقابلة ابن عمه، رحب مدير المكتب، وأسرع إلى سيده، ليعلمه بأن ابن عمه «سعيد» يود مقابلته، وكان يشعر بأنه يقدم إليه بشارة، كانت لحظة عصيبة، لقد اكفهر وجه «مسعود»، وقطب جبينه، وتفلت لسانه بكلمات تفيض بالوقاحة، حملت مدير المكتب على التراجع إلى الخلف، ثم النفاذ بجلده، وانتابته الحيرة، ماذا سيقول للقابع في مكتبه بانتظار الإذن له بالدخول؟ توقف برهة في المكان الفاصل بين المكتبين، ليفكر ويقدر، إذ لم يستطع مصارحة ابن العم بما تم، وتحامل على نفسه، وأقبل على صاحبه يجر رداءه، وقال بصوت متقطع: «العم» في حالة نفسية سيئة، فهناك صفقة خاسرة، لما يزل في اتصالات مستمرة، لتخفيف حدتها على نفسه، ولم أشأ مفاتحته بوجودك، لعلك تختار وقتا آخر أكثر مناسبة، أو تجعل زيارتك له في قصره، فهو ملتقى العوائل، أو تعود إليه غدا أو بعد غد. وهنا كانت الطامة، السيارة في الرمق الأخير، فوقودها لن يبلغه مأمنه، وليس بمقدوره أن يكاشف مدير المكتب بشيء، ولأن الأمر لا يحتمل إلا حلاً واحداً، فقد أسر له بأن الوقود قد ينفد، ولم يكن معه مال ولا بطاقة صرف، وما كان يتوقع نفاد الوقود، ولم يتردد مدير المكتب، بل ناوله مبلغاً من المال على شكل قرض، وانفضَّ سامر القوم. وبعد يوم أو يومين سأل «مسعود» مدير مكتبه عما فعل مع ابن عمه، فأخبره بما تم، فاستحسن ذلك، وأوصاه بأن يصرفه كلما جاء بمبلغ مماثل. جاء الخبر كالصاعقة على مدير المكتب الذي لم يكن يعرف ما آلت إليه ظروف «سعيد» الممتلئ حياء وبشاشة وكرما، لقد تبين لمدير المكتب أن «سعيداً» يمر بحالة حرجة، وأنه جاء يستمد العون من ابن عمه، أزعجه الموقف غير الإنساني من رجل ثري تربى تحت كفالة عمه والد «سعيد»، ولم يف ببعض حقه لولده الذي اضطر الى استرفاده. ومرت الأيام سراعاً، وعاد ابن العم إلى ابن عمه، فنهض مدير المكتب لاستقباله، وأخذه بالأحضان، وأجلسه حيث يريد، وأقبل عليه متهللاً، فما كان من «سعيد» إلا أن أعاد القرض شاكراً، ولما أن طال الانتظار فاتح المدير: أليس ابن عمي في مكتبه؟ بلى. بودي لو أقابله على انفراد. كان بودي. ولكن ما الذي يردك. رغبة ابن عمك في أن أصرفك كلما جئت بمبلغ من المال تسد به رمقك. أو فعلها وأخبرك عما أريد. ما كنت أود معرفة ما بينكما، ولكنه الشح ونكران المعروف. وهل أخبرك بأفضال والدي عليه. كان يحدثنا عن كفاحه، وتبذير والدك، ولما أن تلطفت له بالقول، وألنت له الحديث، وحاولت ترقيق قلبه صاح بي قائلاً. لقد كنت إلى جانب عمي، وهو يحتضر، بعد ما أغرقته الديون، فلمته على تبذيره وترك أولاده فقراء يكتففون الناس، أتدري ماذا قال لي عمي وهو يحتضر. لقد تركت في رقبة كل إنسان معروفا، وسوف لا يحتاج أبنائي. والمقيدون بإحساني يملؤون الأسواق، وها أنت أيها المدير الغبي تراه يتردد علي، ويستلف منك، إنها خرافة: «كل النداء إذا ناديت يخذلني... إلا نداء إذا ناديت يا مالي» نعم كفلني وأنفق عليّ، وفتح أمامي آفاقاً واسعة، ولكنني لن أكون مثله مبذرا يتهافت عليه المستغلون، فيسلبون ماله، أيريد مني أن أذعن لخرافة الكرم، لتفعل في مالي ما تشاء، لقد مات فقيرا، وكان بإمكانه أن يكون مثلي يخدمه المال، وهو مكدس في خزائنه، إن للمال طاقة حرارية تنبعث من أعماق الكنوز، فتحرك الجميع لخدمة صاحبه، ألا تراني في اوساط العامة، وكأنني علم في رأسه نار، كلما رأتني الجموع تصدعت كما تصدع البحر لموسى، وما أحد منهم نال منها ولن ينال، إن للمال جاذبية، وإن له لسحراً، فلا تبذره بل تمترس خلفه. ودع «سعيداً» يبحث عن أفضال والده، فالفقر لا يصنعه إلا الفقراء. ومر عام أو بعض عام و«سعيد» يعيش الصدمة، كيف لا يسأل عنه ابن عمه؟ ولا يقيل عثرته التي أقالها الأباعد حين علموا ما يعانيه، ولم تكن اقالتهم في الاعطيات، بل كانت بالمشاركات والتسهيلات، حتى لقد استقام أمره، وأقبلت عليه الدنيا، وهي صاغرة، وبعد عام آخر علم «سعيد» أن السمنة والشيخوخة حالت دون مباشرة «مسعود» لتجارته وسائر أعماله، وأن تصريف الامور تولاها أبناؤه الجهلة المترفون، لقد كان يغدق عليهم الأموال، ولا يمكنهم من معرفة ما هو عليه، ولم يحسن تربيتهم وهم كما هو لحم نبت على السحت، لقد حرمهم من أيسر الحقوق، وما أن بلغوا مبلغ الرجال استاؤوا مما يمارسه والدهم من التكتم على أحواله، والاعتماد على الأباعد، مع الحرص والشح والجشع، فكان أن أقبلوا على المتع والتبذير، ولأنهم يجهلون السوق وفن التجارة وحذق المضاربات فقد تعرضوا للخسائر المتلاحقة، وما كان الأب يعرف شيئاً عما حل بمؤسسته وفروعها وأعمالها والخلاف المستشري بين أبنائه وكبار موظفيه وجاء «سعيد» ليزور ابن عمه، وهو على فراش المرض، فرآه في حالة سيئة، ومنظر بشع، شعر أشعث ووجه أغبر، وتجاعيد تحكي مرارة الألم، قبَّل رأسه ودعا له بالشفاء والأجر، ولم يشأ إشعاره بما لقيه منه، ولما هم بالانصراف حاول «مسعود» استبقاءه، فالوحشة والوحدة وآلام الشيخوخة تقتله، وما من صديق ولا رفيق وما من زوجة ولا ولد، يزحف لحاجته، وقد تمده الخادمة بما يحتاج إليه، وما أن استجاب «سعيد» وجلس، حتى انطلق في سب أولاده وأصدقائه وأقاربه الذين لا يمرون به، ولا يسألون عنه، ولم يجد «سعيد» بداً من القول، ولكنه لم يشأ إنكاء الجراح، ولم يزد على قوله: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه في ساعة العسرة، لقد كانت تلك الكلمة رصاصة ضربت سويداء القلب، وسبقت الدموع اللسان، واكفهر الجو، فانسل «سعيد» على نشيج ابن عمه، هذا الموقف الضاغط أعقبه شلل نصفي أصاب «مسعود» فعطل الجسم عن الحركة، ولم يكن بد من إلقائه في المستشفى بين عشرات الفقراء والغرباء، وكان ان انقطع عنه الزوار، وقست عليه الظروف، ولم يكن بحاجة إلا إلى مزيد من الرعاية، ولما لم يكن أولاده على شيء من المال أو البر، فقد ترك حيث هو، حتى تقرح جسمه وساءت حالته، وقررت إدارة المستشفى نقله إلى دار رعاية المسنين الخيرية، ودخلها ليحمل رقما في رقبته، وعاد «سعيد» يسأل عنه فلم يحر جوابا، وراح الى قصره الذي لقي فيه أحرج المواقف، ليستجلي الأخبار السيئة، فلقيه ساكن جديد، وسأل عن مصير أولاده، فعرف أنهم تفرقوا أيدي سبأ، يبحثون عن عمل يوفر لهم أدنى حد من الكفاف، فأخذته الحمية وانتابه الدوار، ليسقط على الأرض مغشياً عليه، ولم يصح إلا بين الأيدي الناعمة في المستشفى، ومن حوله أبناؤه وبناته وأحفاده وأسباطه وزملاؤه وأصدقاؤه، يحفون به، ويؤنسون وحشته، فحمد الله، وتمنى لو أن ابن عمه «مسعود» شهد هذه التظاهرة العائلية التي فقدها حين لم يحسن تصريف المال، وأحسب أن «مسعوداً» لن يسمع بعد هذه إلا قوله تعالى: {خٍذٍوهٍ فّغٍلٍَوهٍ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ، إنَّهٍ كّانّ لا يٍؤًمٌنٍ بٌاللَّهٌ پًعّظٌيمٌ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فلّيًسّ لّهٍ پًيّوًمّ هّاهٍنّا حّمٌيمِ، وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)} .