لعل عبارة «أبطال صنعتهم الدموع» تكون عنواناً أنسب لهذه المقالة لو كانت الأمثلة التي سنتعرض إليها أمثلة دموع أناس نكرات تطفلوا على التاريخ فاهتدوا إلى الحق، لكنها دموع أناس جاءوا بالحق فاهتدى الناس بهم.. ولم تكن دموعهم من أجل فقدان مال أو جاه أو سلطان.. إذ يغير الفراق- عادة- طبيعة الإنسان وحياته في مثل هذه الأحوال إلى ما هو أسوأ.. لكنها كانت تعبيراً عن سمو النفس وتقواها وقرب أصحابها إلى الله عز وجل. ومعنى أن يذرف الابطال دموعهم فهو تخليد لمعنى البطولة في النفس الإنسانية الذي يجعل لحياة الإنسان امتداداً خالدا بعد مماته، عبر التاريخ، تتذاكر الأجيال سيرته وتستقي منه الحكمة والمعرفة، وتعرف من خلال دراسة شخصيته مقياس البعد الإنساني البطولي للنفس البشرية، الذي يكتب الحكمة بسطور من نور يبدد حلكة ظلام الحياة في جانب أو أكثر من جوانبها.. وهذه الحكمة لا تتأتى إلا من خلال مكاشفة صريحة مع النفس والذات بعيداً عن الخوف من لهيب الافتئات من قبل أصحاب التفسير الخاطئ لهذه الحكمة أو أصحاب المصالح والأطماع الذاتية العاجلة الذين يسعون إلى إطفاء نورالله وطمس سطوره لتغييب الحكمة المضيئة بألق الحق الذي لا يخضع لأهوائهم، قال تعالى {(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) } [الصف: 8]. ومعنى أن يتكاشف الإنسان مع نفسه، هو أن تكون مكاشفة مقدمة حقيقية لانتصاره على نفسه وليس لنفسه، وعندئذ تتحقق البطولة الوجدانية لهذه النفس، وبالتالي التفكير نحو الخروج بها من مأزق الأنانية إلى حب الخير للآخرين كما يحبه لنفسه، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فالإيمان يشع نوره- باديء ذي بدء- في القلب والوجدان ليشمل جنبات النفس فيؤدي بصاحبها إلى التفكير الهادف إلى الخير. كما قال عليه الصلاة والسلام:«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»، ولا يمكن إنكار الهوى نهائياً ولكن تهذيبه هو الذي يصل بالنفس إلى مرتبة الإيمان ثم مرتبة الإحسان، فتعفو عمن ظلم صاحبها- على سبيل المثال- وتعطي من حرمه وتصل من قطعه.. وبذلك يكون هوى صاحبها تبعاً لما جاء به نبي الهدى والرحمة. وهذا التوجيه لا ينكر على وجدان كل أمة من أمم الارض أن يؤدي إلى الخير، لكن الميراث الروحي للأمة الإسلامية لا يزال هو الأرجح كلما نأى به أصحابه عن المادية البحتة ليكون المعبر الحقيقي عن خيرية هذه الأمة، التي يشترط فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، قال تعالى:«{ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110) فمقياس البطولة هنا لا يرتبط بالماديات البحتة ولا يتخذها غاية بل وسيلة لينبذ ميكيافيلية الهدف من وراء تحقيق البطولة، فيستقر وجدان صاحب البطولة راضياً مرضياً ويرتبط هذا الوجدان بالتفكير والعقل، فينشأ التكافل الاجتماعي- مثلاً- ليكون عاملاً أساسياً لصون المجتمع.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالحمى والسهر».. فمعنى البطولة في هذا الحديث يرتبط بالتفكير في ضرورة الترابط الاجتماعي المتسق مع الوجدان الجمعي، لتختفي ندوب هذا الجسد- الوارد ذكره في الحديث- بالتسديد والمقاربة، بعد ان تكون قد اتسعت بالشحناء والبغضاء فأصبحت جراحاً عميقة تنكئها- مع الاسف- عوامل التدابر والتحاسد والتجسس والتنابذ بالألقاب والتفاخر بالأنساب وبالغمز والهمز واللمز.. الخ. وفي هذا الصدد يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية بقوله:«المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا ينبذه ولا يشنؤه» وقوله: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» وقوله:« المسلم من سلم الناس من لسانه ويده». كانت هذه توطئة لابد منها لبيان أهمية الوجدان الجمعي الإسلامي وتكامله مع العقل، وكذلك في كل مجتمع بحسب عقيدته ومقاييسه الوجدانية وأبعاده الفكرية.. وجميع الأمم لا تعدم أمثلة من خلال سيرة عظمائها وأبطالها، ولكن الحديث في هذا المقال يقتصر على أمثلة تاريخ الإسلام. وإذا كان الحديث قد استفاض ليشمل الوجدان الجمعي وعنوانه عن الدموع، فلأن الدموع المقصودة فيه هي من نتائج وجود هذا الوجدان وأسباب صقله وتهيئته ليشمل أو يرى من خلال الإنسان المسلم حقائق بطولية إيمانية كثيرة في تاريخه المجيد. إن أروع مثال للدموع المعبرة عن بطولة النفس وتقواها، هو دموع النبي صلى الله عليه وسلم حينما قرأ عليه عبدالله بن مسعود سورة النساء إلى قوله تعالى:{ )فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) } [النساء: 41]، فقال له حسبك وبكى استشعاراً منه بعظم المسؤولية وثقلها، وكذلك دموعه حينما نزل عليه قوله تعالى :«{(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) } [آل عمران: 190]. وقد أخبرت السيدة عائشة رضى الله عنها بذلك عندما سألها عبيد بن عمير رضى الله عنه عن أعجب شيء رأته في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت وهي تبكي: أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي عز وجل، فقام إلى القربة فتوضأ منها، ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، فقال يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال:«ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة «إن في خلق السموات والأرض.. الآية» ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها»، وللإنسان أن يتفكر في عظيم تقواه صلى الله عليه وسلم. أما دموعه صلى الله عليه وسلم على زيد بن حارثة رضي الله عنه حينما سقط شهيداً إلى جانب عبدالله بن رواحة وجعفر ابن أبي طالب رضى الله عنهما.. فقد صحب تلك الدموع صوت مسموع منه صلى الله عليه وسلم، وحينما سأله سعد بن عبادة رضى الله عنه قائلاً: ما هذا يا رسول الله؟ قال:«هذا بكاء الحبيب على حبيبه»، فعبرت دموعه، صلى الله عليه وسلم عن معنى الترابط الاجتماعي وعظيم محبته لقائد من قادة معركة «مؤتة» التي كان صلى الله عليه وسلم ينقل أبناءها، وهو على المنبر في «بيان عسكري إعلامي»، واصفاً فيه المعركة حتى أخذ الراية خالد بن الوليد رضى الله عنه، فقال عليه الصلاة والسلام :«الان اخذ الراية سيف من سيوف الله.. وهذا البيان من معجزات نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم، حيث كان يصف المعركة وهو في المدينة في حين كانت تدور رحاها في «مؤتة»، ولا يتسع المجال هنا للاستطراد في الجانب الإعلامي لهذا الموقف النبوي العظيم الذي يعطينا درساً عن الإعلام النبوي الذي لم يكن يحتاج إلى وسائل اتصال آنية ومراسلين لنقل أنباء المعركة. إنما يرتكز على المعجزة وحدها، فيثير في النفس كوامن الإعجاب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي امتزجت بإنسانيته ووجدانه فعبر عن حبه لقادته الثلاثة وافضلهم كان زيداً بصوت البكاء المختلط بالدموع، ولعل من دواعي الإعجاب والغبطة التي يشعر بها المسلم ولا يستغربها كون اسم «زيد» ورد في القرآن الكريم فأصبح من كلماته التي يتعبد المسلم بتلاوتها ليلاً ونهاراً. وأيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم في تساؤله عمن يبكي حمزة بن عبدالمطلب رضى الله عنه بعد استشهاده في غزوة أحد، إذ قال:«ولكن حمزة لا بواكي له!» إنما لاستنهاض الوجدان الجمعي حيث تسابق الانصار إلى المدينة فبكت بيوت المدينة على حمزة أسوة على بقية الشهداء. أما المثال الثاني فهو خاص بالدموع المعبرة عن معنى عميق من معاني الفداء ممتزجاً بمعنى الإعجاب بالبطولة الذي يؤدي إلى الصبر والمصابرة على الألم المؤدي- حتماً- إلى الموت، فما أروع تلك الدموع التي كانت أنداء في افق ثاني اثنين«إذ هما في الغار يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا» فحين وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء دخل صاحبه أبو بكر رضي الله عنه- أولاً- فقام بسد الثقوب الموجودة فيه بقطع من القماش لم تكن كافية جميعها فسد الباقي بقدمه أو بقدميه، فبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً على فخذ أبي بكر الصديق رضى الله عنه فإذا بحية تلدغه في قدمه فيصبر ويصابر على الألم لئلا يوقظ حبيبه صلى الله عليه وسلم حرصاً على راحته.. وهذا هو معنى الفداء في القصة، ولكن الله شاء أن تسقط دمعة صاحبه في عينيه فرقى له لدغ الحيات الذي مات من أثره فيما بعد حينما ارتد عليه مرة أخرى. هذا هو أبو بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه تكون دموعه دليلاً على بطولته وصانعة لهذه البطولة التي لم يبلغ أحد من الصحابة مبلغها، فيا لروعة هذا الفداء الذي صهره وصقله الصبر والمصابرة، ويا لهزة الوجدان يهديها تراثنا الروحي الخالد إلى الانسان في هذا الزمان الغافية جفون الوفاء فيه في فتن كقطع الليل المظلم، تفسخت فيها معاني الإنسانية عن منهج الله وحكمته!! وللمرء غير المسلم أن يتساءل: هل كان لأبي بكر مصلحة مادية من وراء تلك الدموع؟ هل كان المحرك لها هو الوصول إلى الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والإجابة على هذين السؤالين وغيرهما: لا.. لم يكن الأمر كذلك، إنما كان متعلقاً بالإعجاب بالبطولة التي لا تقاس بمنطق المناطقة أو فلسفة الفلاسفة أو تحتاج إلى أنبوب اختبار في معمل كيميائي لقياسها عند علماء الطبيعة، كما يقول الأستاذ عباس العقاد، إنما هي بطولة مبعث الاعجاب بها قلبي وروحي- في الدرجة الأولى- ودواعيه كرم النحيزة ونبل المحتد- كما يؤكد العقاد- ولهذا كان الاتباع منهج أبي بكر، ونتيجة هذا الاتباع لم تكف أبا بكر دموعه في الغار، بل كان يبكي من شدة خوفه على قتل خليله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة كلما لحق بهما مشرك من قريش مثل سراقة بن مالك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطمئنه بقوله: «ما بالك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر؟!». ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مكتفياً بهذه الطمأنة لصاحبه بل إنه اتخذ من الأسباب منذ بداية الرحلة ما يفيد الأجيال بالدروس والعبر، وفي هذا الصدد يقول اللواء متقاعد الدكتور أنور بن ماجد عشقي: «خرج عليه الصلاة والسلام مهاجراً إلى المدينة من كوة كانت خلف بيت أبي بكر وسارا معاً في اتجها الجنوب لكي لا تلحق بهم قريش، كانا يسيران في اتجاه جبل ثور، فقال عليه الصلاة والسلام:«يا أبا بكر ضع قدمك على خطاي فإن الرمل لا ينم»، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع قدمه الشريفة فيضع أبو بكر قدمه موضعها، ولعل في هذا إشارة إلى أن أبا بكر سيخلف النبي صلى الله عليه وسلم، ويسير على خطاه، حتى وصلا إلى جبل فارتقياه حتى بلغا غار ثور. كان بنو مدلج من أكثر العرب معرفة في القيافة جاءت قريش بأمهرهم وقيل إنه سراقة بن مالك متتبع الأثر فلم يتمكن من رؤية الأثر في الرمل فوجد الآثار على الصخر فلما نظر إلى آثار أقدام أبي بكر فقال: والله ان هذه الاقدام أقدام بن أبي قحافة أما الاخرى فلا اعرفها هي تشبه الاقدام التي في مقام إبراهيم. فلماذا لم يعلم سراقة بأقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل حقاً ما أورده بعض المؤرخين من أن أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم لا ترى في الوحل أم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينتعل الحذاء على الدوام؟ وإذا كان كذلك فلماذا لم ينتعله في الهجرة؟ إن الحكمة من ظهور آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم على الصخر هو أن الله عز وجل أراد أن يبين لقريش على لسان خبير يثقون به أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبي، وأنه من نسل إبراهيم، كما أراد الله بذلك أن يرينا أن البصمات تتوارثها الأجيال رغم مرور آلاف السنين». ويستفاد من ذلك أن «التمويه الإعلامي» قد ابتكره النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة من خلال «التغطية الإعلامية» التي أراد صلوات الله وسلامه عليه فيها إعلام قريش بنبوته ولكن نتيجة ذلك هي أن ما جاء في قوله تعالى:«وعميت عليهم الأنباء» القصص/ 69، قد انطبق على المشركين يومذاك. كما ان توجهه صلى الله عليه وسلم نحو الجنوب يعتبر تمهويها عسكرياً كما يذهب د. عشقي. هكذا كانت الرحلة، نبي إلى جانبه بطل صديق يذرف الدموع كلما خشي عليه الموت، فيداوي خوفه بكلمات تزيد من إيمانه.. إنه التاريخ حينما يخلد الأبطال بدموعهم وحينما يسم تلك الدموع نفسها بالبطولة، ينقلنا إلى عالم تأملي لاستكناه معنى التصديق والفداء بالنفس والروح والمال والدم، ليكتمل الإيمان تبعاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله ونفسه التي بين جنبيه». ويبلغ التطهير ذروة معانيه وسناء ألقه الجميل حينما تعبر عنه الدموع في مثال ثالث يضرب أروع الأمثال لصحوة الضمير التي سجلت بطولة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه بأحرف من نور، ورققت شجاعته وقسوته فمزجتهما بالرحمة والإشفاق.. فقد كان لا يذرف دمعة واحدة- بعد إسلامه- إلى على ذكرى موقفين يهزان نفسه من أعماقها فيصنعان بطولة الانتصار عليها.. ولعل هذه الظاهرة تفسر لنا معنى دعائه رضى الله عنه حينما كان يقول :« اللهم إني شديد فليني». وأحد هذين الموقفين تذكره وأد البنات في الجاهلية، فيبكي حتى تخضل لحيته بالدموع.. تهتز نفسه حفاظاً على يقظة ضميره وسمواً بهذا الضمير الكامن في نفس كانت أمارة بالسوء فآتاها الله تقواها وزكاها بالتحلية والتخلية.. والمنظر الذي كان يتذكره أمير المؤمنين وتهتز له ذاته ووجدانه، منظر تلك الموءودة التي نفضت عن لحيته التراب وهو يدفنها فيا للفرق الشاسع بين الفعلين!!. والأمر لم يكن إسرافاً من عمر رضى الله عنه في البكاء، فهو لاشك لم يكن قانطاً من رحمة الله عز وجل وقد بلغ في المكانة أنه أحد المبشرين بالجنة، لكن مقياس الشجاعة تغير لديه، من مفهومه الجاهلي إلى المفهوم الإسلامي، فقد كانت تلك الشجاعة في الجاهلية لا تمنعه من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، أما بعد إسلامه فأصبحت تعترف بحقوق المرأة فتحافظ على حياتها، وتعترف بحقها في الحوار ولهذا قال رضي الله عنه عن امرأة جادلته وكانت محقة، قال:« أخطأ عمر وأصابت امرأة»، بل كان تعامله مع زوجته من مبدأ الكرم، تأسياً بقول النبي صلى الله عليه وسلم:« يغلبهن اللئيم ويغلبن الكريم » ويضيق المجال عن سرد قصة ذلك. إن شجاعة ثاني خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الادبية لم تكن نادرة مثل ندرتها في زمننا هذا، ولا تعرف إلا النور الذي يحيل ظلمة النفس إلى ضياء وصفاء، ولهذا كانت تمثل وقفة مع النفس وحسابها فاستحقت تلك النفس المؤمنة بطولة يزهو بها التاريخ، تلك البطولة التي لا تعرف المداجنة ولا الالتواء في سجايا صاحبها، ولا تنهزم أمام عنعنات النفس بل تنتصر عليها وتسمو بالذات إلى عالم العطاء الإنساني، تنصف نفسها من الآخر وتنصف الآخر منها.. هي بطولة الأمة الوسط الشهيدة على كل الأمم يوم العرض والحساب، أمة الاستخلاف في الأرض تستعمرها «تعمرها» وتنشر فيها القسط، والعدل بين الناس، فهي خير أمة أخرجت للناس بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.. لديها كتاب الله «القرآن» الذي لا تنتهي عجائبه ولا يخلق على مر الأيام وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وإذا كانت الأمثلة الثلاثة السابقة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضى الله عنهما، فإن مثالاً رابعاً يمكن ان نلمسه ونشاهده في عصرنا الحاضر كما كان في الماضي لبطولة الدموع أو لدموع الأبطال، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من بين السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله «عبد ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» فبأبي أنت وأمي يا رسول الله، هكذا تكون جوامع كلمك صالحة لكل زمان ومكان!! تفتح بها الأمل لكل من أخلص نيته وشغله ذكر الله عن حاجته ليعطيه خير ما يعطي السائلين، فيكون أحد الابطال الذين انتصروا على شهوات الدنيا وزهدوا فيها- كل حسب استطاعته- قال تعالى:{(وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) } [الأحزاب: 35]. كما أن البكاء من خشية الله له شأن كبير، فقد قال النبي، صلي الله عليه وسلم: «عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله»، وقد كان عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، أشد الناس خوفاً من الله، ففي الحديث: «أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية». ولا يستغرب بعد ذلك أن نرى صاحبيه يحذوان حذوه فقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول من شدة خوفه من الله مع انه من المبشرين بالجنة: «ليتني كنت شعرة في صدر مؤمن». أما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فَيُروَى عنه أنه حينما قرأ: «إذا الشمس كورت» وانتهى إلى قوله تعالى:«وإذا الصحف نشرت» خر مغشياً عليه، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما هذا الخوف يا أمير المؤمنين وقد فتح الله بك الفتوح ومصّر بك الأمصار، وفعل بك وفعل؟ فقال :« وددت أن أنجو لا عليَّ ولا ليَّ». وكذلك كان بقية الصحابة - رضوان الله عليهم - قال تعالى {(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) }.وما توفيقي إلا بالله