هذا الحبل الإيماني المضيء الممتد من ذلك الزمن البعيد الى زماننا هذا الحبل الإيماني الممتد من لحظة انطلاق ذلك السؤال المفعم باليقين الله أمرك بذلك؟ ومن لحظة انطلاق ذلك الجواب النبوي الكريم المفعم بالصدق نعم، الله أمرني بذلك ، ومن لحظة الكلمة الواثقة الموصولة بالإيمان العميق إذاً فلن يضيعنا ، هذا الحبل الإيماني الممتد من تلك اللحظات الحاسمة في حياة إسماعيل وأمه بعد ان تركهما أبو الانبياء إبراهيم عليه السلام بوادٍ غير ذي زرع ممتثلا لأمر ربه طائعا منقادا، مقاوما لاحساس الأبوة بكل ما تحمله من الحنان والعطف والشفقة متجها بعد ان غابا عن عينيه الى الحي القيوم القادر على كل شيء والعالم بكل شيء مرددا ذلك الدعاء الصادق الذي امتد به هذا الحبل الإيماني من ذلك الوقت الى اليوم الى ان تقوم الساعة: ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون سورة إبراهيم آية 37 . هذا الحبل الإيماني هو وسيلة الربط الكبرى بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهو وسيلة الاتصال المتجددة التي لا تبلى بين من مضى من البشر ومن تبعهم الى يوم الدين، الحبل الإيماني الذي يربط الأرض بالسماء، والمخلوق بالخالق، والصالحين بالأنبياء والمؤمنين بربهم الذي خلق هذا الوجود وأودعه من الاسرار والكنوز الإيمانية ما يزكي النفوس وتطمئن به القلوب. وها نحن الآن ننظر الى البيت الحرام ومشاعر الحج بعين ترى في كل بقعةٍ مباركة منها صورة تلك الاسرة الكريمة المكونة من ابٍ وأمٍ ورضيع، ينطلقون من الشام بلاد الخصب والنماء والأنهار والاشجار، الى ارض مقفرة جرداء بوادٍ غير ذي زرع ، وبعد وقفة في هذا الوادي المقفر الله اعلم بمداها يودع ذلك الاب الحنون زوجته وابنه الرضيع، تاركا لله الذي امره بذلك كل شيء، مطمئنا الى ان لله حكمة عظيمة في هذا التوجه الكريم، وها نحن نرى من خلال صورة تلك الاسرة الكريمة ذلك الحبل الإيماني يربط بين قلوبنا وقلوبهم بعد مئات السنوات ونرى المعجزة الإلهية في صورتها الكاملة البديعة في هذه البقعة المباركة من بلادنا الغالية حيث نرى الافئدة التي تهوي الى البيت الحرام، ونرى الخير الذي لا ينقطع عن هذه البقاع الطاهرة نرى البيت المحرَّم الذي تقام فيه الصلاة ولا تنقطع وتتجه اليه وجوه المسلمين من كل مكان في هذا العالم الفسيح خمس مرات كل يوم في صفوف منتظمة تمثل الصورة الاكمل في حياة البشر لتآلف القلوب وتقاربها. إن الزمن الذي يمتد بيننا وبين موقف تلك الاسرة الكريمة لزمنٌ طويل، ولكنه بروح الإيمان قصير فكأنما نراها رأي العين لا تحول بيننا وبينها احقاب الزمن المتعاقبة، ولا رحلة الاجيال البشرية الطويلة، وهنا تكمن عظمة الحبل الإيماني الذي يربط بين القلوب, إنه المشهد الوحيد في هذه الارض الذي يتحقق فيه الترابط الروحي بهذه الصورة الرائعة في موسم الحج العظيم. وإن مكةالمكرمة بما تحمله من صور التلاحم والتلاقي لتعد البقعة الوحيدة في العالم التي تعرض للناس هذه الصور المشرقة كل عام, انها المنحة الإلهية، والشرف العظيم الذي لا يضاهيه شرف,, وإنها مدرسة الاعجاز الإلهي التي تربي النفوس تربية روحية لا نظير لها,. إن إبراهيم عليه السلام لم ينفذ امراً عاديا وإن كلمة ربنا إني أسكنتُ من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ليست كلمة سهلة، وليس تنفيذها أمرا هينا على اب حنون، إن أحدنا لا يقوى ابدا على ان يترك طفله الرضيع داخل منزله في مكان آمنٍ وحيدا ويذهب لقضاء ما يريد من الحاجات. إنها صورة معقدة في حياة البشر المعتادة، ولكنها صورة إلهية معجزة عند إبراهيم عليه السلام، وكم نمر بهذه الآية الكريمة في قراءة القرآن دون وقوف أمام الصورة والايحاءات التي توحي بها، ودون التأمل الواعي لأبعاد معانيها,. لم يكن الوادي خصبا ولا مأهولا بالسكان، ولم يكن يحمل أية صورة من صور الحياة التي تُطمئن الأب على زوجته وابنه الرضيع، اين الماء واين الغذاء واين الكساء واين الدواء واين الجار والأنيس في هذا الوادي المقفر الذي لا زرع فيه؟ لا شيء في الظاهر من ذلك كله. ولذلك فإن أم إسماعيل وهي تلاحق إبراهيم عليه السلام تسأله أين سيذهب، وكيف يتركهم في هذا المكان المقفر، كانت تفعل ذلك وهي تشعر بصعوبة البقاء في مكان لا انيس فيه، إن هذا الشعور البشري هو الذي دفعها الى الاحساس بصعوبة هذا الامر وجعلها تلاحق ابراهيم في حالة استدارٍ لعطفه وحنانه وشفقته التي تملأ قلبه المؤمن المطمئن الرحيم، ولكنها حينما احست باصرار إبراهيم عليه السلام على تركها مع رضيعها في ذلك المكان، ادركت ان في الامر سرا يتجاوز حدود الطاقات البشرية، ولهذا سألت إبراهيم السؤال الحاسم الذي اشاع في نفسها الرضى الكامل بما يقدر الله آلله أمرك بذلك؟ ، إنه سؤال التوجه الى الله وتسليم الأمور اليه سبحانه وتعالى، ولهذا كان جواب ابراهيم عليه السلام سريعا وحاسما ايضا نعم ، وهنا حدث الُرقي الروحي والتوجه الكلي الى الحي القيوم، ولهذا كان رد أم اسماعيل حاسما ايضا إذاً فلن يضيعنا ، هنا انحلت العقدة وهدأت النفوس من جيشان عاطفتها البشرية، واطمأنت القلوب الى رحمة الله ورعايته، وتلاشت صور ذلك الوادي المقفر، وبرزت مكانها صورة اخصاب ونماءٍ وحياة هانئة سعيدةٍ في اطهر بقعة على وجه الارض. هكذا في وقت قصير جدا اعتدل الميزان، وبدأت قصة المعجزة الكبرى في ذلك المكان,, رجعت أم اسماعيل الى رضيعها ناسية كل ما يوحي به المكان المقفر من العطش والجوع والوحشة، ورحل إبراهيم عائدا الى الشام موقنا بعد دعائه لربه، ان الرعاية الإلهية ستحفظ زوجته وابنه الحبيب. نعم لقد قال إبراهيم ربنا إني اسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع ولكنه قال: عند بيتك المحرم واوضح بعد ذلك السبب بقوله: ليقيموا الصلاة وهنا يخرج الأمر عن حدود الطاقة البشرية ويتصل بارادة الله وقدرته، ومادام متصلا بارادة الله وقدرته فليكن التوجه اليه وحده دون سواه، ومن هنا كان الدعاء وكانت الاجابة فاجعل افئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ، وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام فهوت الافئدة الى ذلك المكان، ورزق الله اهله من الثمرات تجبى اليه من بقاع الارض، ويبقى بعد ذلك كله تحقيق رجاء إبراهيم في قوله: لعلهم يشكرون . هنا اكتملت الصورة البديعة، وتحققت المعجزة الإلهية، وبرزت عظمة ومكانة هذه البقاع الطاهرة البلد الحرام . إنه التميز الذي يستحق ان نحافظ عليه وان نكون شاكرين لله الذي حققه لنا واسعدنا بتحمل مسؤوليته، وشرفنا بالقيام بأعبائه. ان وقفةً متأملةً في ساحة الحرم المكي الشريف نرى من خلالها هذه الجموع التي تلتقي فيه على هدف واحد، لتؤكد لنا هذه العظمة وهذا التميز لهذه البلاد، كما تؤكد مسؤوليتنا جميعا في تحقيق شكرنا لله تعالى بالرعاية الدائبة والعناية التي لا تنقطع لهذه البقاع الطاهرة، عنايةً تنطلق من هذا المفهوم الإيماني الراقي للمكانة العظيمة التي تحظى بها بلاد الحرمين الشريفين في نفوس المسلمين، وهذا ما نراه متحققا بفضل الله تعالى من أعلى موقع للمسؤولية في المملكة الى ادناها، ومن بذل الجهد والطاقة فقد أعذر. وقفة: إن مسؤولية القائمين على مؤسسات الطوافة وحملات الحج وجميع المؤسسات التي لها علاقة بهذا الموسم العظيم لمسؤولية كبيرة توجب عليهم تقديم الهدف الإيماني الأسمى عن كل الاهداف الاخرى، والاهداف المادية متحققة بإذن الله مع الهدف الأسمى، والمنافع التي يحققها الحج كثيرة، والله سبحانه وتعالى اشار اليها في عبارة جامعة واذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيامٍ معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير سورة الحج آيتا 27 و28 . ان عبارة منافع لتحمل من الايحاءات والمعاني الروحية والمادية القريبة والبعيدة ما يجعل فيها صورة من صور الاعجاز القرآني، واستخدام الفعل ليشهدوا بكل ما في كلمة الشهادة واشتقاقها من المتابعة الواعية والدقة واللطف وعدم التسرع، دليل من الادلة الكثيرة على ان هذا القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما اجدر اهل هذه البلاد الطاهرة بتحقيق معاني الحج العظيمة دون افراطٍ ولا تفريط، ان موسم الحج لصورة مشرقة من صور إسلامنا العظيم فما احوج حجاج بيت الله الحرام الى مراعاة ذلك والحرص على زيادة اشراق هذه الصورة البديعة. وقفة شعرية: من أين أبتدىءُ الحديث عن الوطن ولمن اصوغ حكاية الذكرى لمن؟ من أين والامجاد تُشرق في دمي نوراً من الذكرى، وتختصر الزمن من أين والإيمان يجري نهره عذبا ويغسل من مشاعرنا الدرن؟ قالوا: ابتدىء من وصف مكة إنها صدرٌ حوى نور الهداية واطمأن ابدأ من البيت العتيق فإنه سكنٌ لمن لم يلق في الدنيا سكن من كعبةٍ رفع الإله مقامها وحمى حماها من طواغيت الفتن أنا سوف ابدأ من مطافِ بنيّها أتلو كتاب الله اتَّبعُ السنن أنا سوف ابدأ من مقام خليلها من حجر إسماعيل من رُكن اليمن أرضٌ لها في المكرمات عراقةٌ مشهودةٌ والمجدُ فيها مُختزن في أرضها المعطاءِ يُحتضن الهدى وكذا المبادئ كالبراعم تُحتضن هي مهبط القرآن تحت لوائه سارت بعون الله تجتازُ المِحن نشأت على هدي الإله فروحُها تسمو بها وبروحها يسمو البدن