صدر هذا الكتاب الشيق عام 1412ه عن دار النخيل، وهو يحاول أن يسلط الضوء على الحضارة في نجد قبل 250 سنة، اي قبل الدولة السعودية الاولى ثم يستمر معها، حيث بدأت الحضارة مع الدولة السعودية منذ بدئها. وقد ركز المؤلف: على الكتب والمكتبات وأوقاف الكتب والمكتبات، الإنجازات العلمية، الحصون والقلاع، بناء المدن وتعمير البلدان، اطلالة على العلم والعلماء، الوصايا، المعادن والصناعة، صناعة الاسلحة، التجارة والصناعة، من الملامح الاقتصادية. ولعل المتتبع للفصول أعلاه سيجد فيها تكرارا مثل الحصون والقلاع وبناء المدن، وهو من حدسي يندمج في فصل البناء والعمارة، ومثل المعادن والصناعة، وهو قد تكرر في صناعة الاسلحة، وفي فصل الاسلحة والصناعة، لكن مهما يكن فالبحث جديد ولم يسبقه حسب اطلاعي المتواضع سوى الدكتور الوشمي رحمه الله في كتابه «ولاية اليمامة» الذي عرضنا عنه فيما مضى». * سلط المؤلف الضوء في النظرة العامة وبتركيز علي دولة الاخيضريين والقرامطة اللتين عهدهما من 253ه الى 470ه، ثم ذكر شيئا عن رحلة ناصر خسرو الذي زار اجزاء من نجد سنة 422ه «من الطائف الى ثم الافلاج وجزع وسربا ومطار واليمامة والاحساء ثم عودته للبصرة، وفي ص 12 بدأ المؤلف في نماذج من الحضارة التي هي صلب الكتاب. وعد من القرى المتحضرة ثرمداء التي كانت قرية صناعة اذ ذاك ومنافسة لصنعاء في هذا الشأن، وقد رأى الشاعر حميد بن ثور بردا ليس بالذي يرضي فقال: ما بال بردك لم تمسس حواشيه من ثرمداء ولا صنعاء تحبير ثم عد ايضا سدوسا التي كانت بالزراعة الجيدة خاصة الرمان المشهور يومها، والنخل الكثير، ولكن المؤلف استشهد بقول جرير: كأن حمول الحي زلن بيانع من الوارد البطحاء من نخل ملهما ولا ادري اين سدوس من هذا البيت، فالبطحاء وملهم معروفتان وهما غير سدوس. وقال المؤلف: ان القرامطة والتتار ضيعوا تاريخ الجزيرة العربية، مثلما فعل الهلاليون بالثروات العلمية في القيروان عام 449ه بعد هدمها وقتلهم سكانها الذين لم يستطيعوا ان ينجوا. وأقف هنا بالنسبة للهلاليين واضع علامة استفهام كبيرة حول هذا الموضوع لانه قد لا يكون الا دعاية تاريخية لا صحة لها، فكان الاحرى ان يتأكد من تلك المعلومة. وعاد المؤلف في ص 16 لينقل لنا ما قاله ابن بشر، من ان علماء نجد لم يكونوا يهتمون بتاريخ اوطانهم الا في افق ضيق هي في غنى عنه. وهو معروف من الآثار، اذ لم نجد من آثارهم الا القليل والضيق الدائرة ايضا، لكنه ملحظ جميل يدلف الى اغواره الدكتور محمد، وحبذا لو استطرد كثيرا في هذه النقطة بالذات. * بناء المدن والتعمير: ذكر الدكتور ان بنجد مدنا وقرى عمرت في الفترة ما بين القرن الثامن ومنتصف القرن الثاني عشر أي حين بدأت دعوة الشيخ ابن عبدالوهاب لكنه لم يذكر لنا مدنا بمعني الكلمة للمدينة الكبيرة الحضارية، وانما ذكر قرى ما زالت كما بدأت الى اليوم، واغلبها مزارع يحفر فيها آبار وتقام فيها زراعة، ثم يأتي من يشتريها من عرب الجزيرة ويستقر فيها مزارعا فقط، والامثلة التي أوردها تفيد ما ذهبت اليه. وقد نستثني مدنا صغيرة آنذاك ومحاطة بأسوار مثل بريدةوعنيزة وحائل والشعراء وشقراء والقويعية والمجمعة والزلفي، مع ان الثلاث الاول لا تضاهي في كبرها وعدد سكانها بغيرها مما سمينا مدنا تجاوزا. * العلم والعلماء: ويقصد به العلم الشرعي وعلماء الدين الذين أثروا الساحة بعدد من المؤلفات والمكتبات، ولعل اهم تلك القرى التي انجبت علماء هي قرية اشيقر التي كانت مهتمة بالعلم وتدريسه وخرج منها اسر عالمة هاجروا الى قرى نجدية اخرى، بل الى غير ذلك من اصقاع العالم الاسلامي، فأشيقر هي بؤرة العلم وبيوتات العائلات التي اشتهر منها علماء خاصة من بني تميم القبيلة العدنانية المتحضرة. واشتهر في العيينة ايام اوج قوتها علماء مثل ابن عطوة وابن بسام وابن مشرف «تميميون اصلهم اشيقر»، ولك ان تتخيل العدد 338 عالما في نجد اغلبهم اما من اشيقر او ممن هاجر اجداده منها، ولعل هناك ملحظ تاريخي مهم، وهو ان اغلب علماء نجد ومنهم ابن عبد الوهاب نفسه هم من بني تميم وهم الكثرة او من بني زيد او بني خالد او من غيرهم من النجديين الذين ورثوا علما نافعا لنا اليوم، فجزاهم الله خيرا. وقد سلط الباحث الضوء على آثار العلماء من مكتبات وكتب واماكن تدريس، مثل ابن ضويان وابن منقور وغيرهما كثيرون ممن اهتم بالعلم او كتب في التاريخ، او ممن تولوا القضاء والتدريس سواء للرجال او النساء «كانوا يحرصون على ان يدرس النساء في حالة عدم وجود امرأة رجل كفيف». وقد أورد جدولا بأعداد القضاة منذ القرن التاسع حتى الثاني عشر، فكانت اشيقر بها قاضيان بينما غيرها لا يوجد بها قاض في القرن التاسع عدا واحد في الرياض، اما العاشر فيها خمسة قضاة حين كان في الرياض اربعة وفي رغبة واحد وفي العيينة اثنان، وفي القرن 11ه كان في اشيقر 14 قاضياً وفي الرياض 3 وفي ثادق قاض واحد وفي روضة سدير اثنان وكذا والمجمعة بينما في العيينة اربعة قضاة، اما القضاة في القرن 12ه ففي اشيقر 5 قضاة ومثلها ثادق، بينما في الرياض ستة قضاة ومثلها عنيزة، وخمسة قضاة في المجمعة وثلاثة في حوطة سدير، واثنان في كل من مرات والقويعية ورغبة والرس والدلم والدرعية وحريملاء وكان عددهم 101 قاض، لكن المؤلف لم يحدد متى من القرن الثاني عشر، هل هو اوله او منتصفه ام آخره حتى نعرف بالضبط الحركة الفكرية وازدهارها. وأحصى العلماء من القرن العاشر الى الثاني عشر ب«104» عالم، واعتقد ان هنا اشكالية في كلمة عالم التي افردها، لأن من يتولى القضاء لابد ان يكون عالما، فهل هذا العدد يدخل فيه من اشار اليهم انهم قضاة ام لا؟، كما انه أحصى العلماء الذين رحلوا لطلب العلم قبل ابن عبد الوهاب بأنهم 17 عالما رحلوا لطلب العلم من خارج نجد. أما المكتبات في نجد قبل 250 سنة فقد اشار الى عدد منها مثل: مكتبة آل اسماعيل في اشيقر ومكتبة آل عوسجي في ثادق ومكتبة آل ذهلان في الرياض ومكتبة آل عضيب في عنيزة ومكتبة آل عتيقي في المجمعة ومكتبة آل عبد الجبار في المجمعة ثم اشار الى عدد من المؤلفات التي أنجزها علماء ذلك العصر، لكن النقطة الجديرة بالبحث الدقيق هي أوقاف العلماء لكتبهم واين ذهبت تلك الاوقاف، وهل فنيت تلك الكتب المخطوطة يومها ام انها خرجت خارج البلاد، هذا الموضوع اشار اليه الدكتور بسرعة، لكنه لمح الى مكتبة واوقاف ابن سيف «من اهل المجمعة وهاجر للمدينة»، لكن المؤلف لم يتحر عن مكتبة ومخطوطات ابن سيف. الاجازات العلمية: وهي شهادات يمنحها العلماء لتلاميذهم بعد ان يتأكد لدى العالم قدرة التلميذ على الاستيعاب والجلوس للتدريس او القضاء او الفتيا، وهي بمثابة الشهادة الجامعية اليوم، وكان الازهر الشريف يسمي البكالوريوس اجازة يومها، وذكر ان الحجاوي اجاز الشويعر من اهل اشيقر سنة 980ه، وكذا الكرمي لابن راجح، وكذا ابن حميدان الذي اجازه الغيطي، وكذا ابن سيف الذي اجازه ابو المواهب، واجاز القصير من اهل شقراء لفوزان بن نصر الله، وكذا لابن بسام الحصيني، واجاز الصائغ لسليمان الفداغي، واجاز ابن تركي لابن اسماعيل، وغيرهم كثر من علماء نجد كانوا يجيزون طلابهم. هذا بالاضافة لرحيل الكثيرين لطلب العلم والاجازة فيه من علماء لهم وزنهم وعمقهم المعرفي، ومن الذين رحلوا، احمد بن عطوة، وأحمد بن مشرف، وزامل بن سلطان، وعبد الرحمن بن ذهلان، وعبد الله وابنه عبد الوهاب وابن قايد، وفوزان بن مشعاب «سبيعي» وابن عزاز وغيرهم. اما مسألة الوصايا التي يتركها الاغنياء او العلماء او عامة الناس، فتلك تعطي مؤشرا على البعد الديني والاجتماعي والفكري للناس انفسهم والمجتمع الذي يعيشون فيه، ومن اشهر واقدم الوصايا النجدية وصية صبيح سنة 747ه وكان صبيح مملوكا لعقبة بن ريس من اهل اشيقر فأعتقه وصار من اغنى اهل زمانه، وكانت وصيته في مجملها في اعمال الخير، وهناك وصية صقر بن قطام المتوفى سنة 942ه وهو من اهل اشيقر، ووصية رميثة بن قضيب «كتبت رمثية» من اهل اشيقر توفي سنة 896ه ووصية ابراهيم بن سيف الشمري، وهو المتقدم ذكره وانتقل من المجمعة الى المدينة ومات فيها. وتكلم المؤلف عن الحصون والقلاع في نجد قبل 250 سنة، وافاض في ذكرها ومواقعها المختلفة، وبين فوائدها آنذاك واشكالها وتحديد اين تكون من القرية او المدينة التي تحميها. اما المعادن والصناعة فقد عرف المؤلف انواع الصناعات التي تعتبر في وقتها متطورة مثل النجارة والحدادة وصياغة الذهب وصياغة الفضة وكذا الأدوات المستعملة في التعامل كالموازين للذهب او المكاييل او غيره مما يحسب به يومها ليكون فيصلا بين البائع والمشتري. ثم عرج المؤلف على صناعة الاسلحة بالذات، فذكر انها مهمة لانها تعتبر جزءاً مهما في حياة الناس وقد اورد المؤلف ما قاله صاحب لمع الشهاب عن البارود النجدي الذي يعتبره اطيب بارود يصنع يومها، فصارت الناس تشتريه وتصدره الى ما حول نجد وذكر صناعة البنادق والتفق «يسمونه الفشق» وفعلا هذا الفصل جميل ومغر بمتابعته. وتكلم عن الزراعة يومها وهي معروفة عند النجديين، وهي عماد حياتهم، لذا تجد المؤرخين النجديين بالذات يذكرون الوقائع المميتة للزروع مثل الجراد والبرد وغور المياه.. الخ، وكذا ايضا يهتم المؤرخون بغرس النخيل بالذات لانها مصدر رئيس من مصادر الغذاء لديهم. شراء المدن: هكذا وضع المؤلف العنوان، وانا أصر على ألا مدن هناك يومها سوى الثلاث التي ذكرت، المهم، ذكر نقلا عن ابن عيسى ان العيينة قد اشتراها جد آل معمر سنة 850ه، وكذا حريملاء عمرها ابو ريشة في القرن التاسع وتركها سنة 893ه، وان آل رباع نزلوها سنة 1045ه كما قال ابن بشر، اما الحصون بسدير فقد غرسها آل تميم سنة1011ه، وليت المؤلف تتبع مثل تلك الاحداث الشيقة التي تعطي بعدا ثقافيا واقتصاديا لتلك الفترات من التاريخ. والكتاب في مجمله ككتاب يتحدث عن الفكر والحياة والناس، ويعطي بعدا ثقافيا مهما لبلدة اشيقر بالذات، ولا اقول ذلك جزافا، بل من واقع التاريخ الذي ذكره المؤلف او نعرفه نحن المهتمين به، لان اشيقر اعتبرها منارة علم بارزة في نجد قديما، وهي حضن القبيلة العربية المشهورة بني تميم بالذات، حيث اشتهر منهم العلماء والقضاة والمفكرون والشعراء على مر العصور، وفي الغالب لن تجد تميميا الا وقال لك: ان اجداده هاجروا من اشيقر.. واخيرا شكري للدكتور محمد الشويعر على هذا الجهد المرتب والجميل، ووفق الله الجميع.