الشطآن الظامئة تذكرني بهذا البيت البائس من الشعر كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول! الشطآن على حافة المجرى المائي أولى من غيرها بقتل العطش.. وأحق من غيرها بإخماد جذوة الأوار.. ولكن وحياتنا لا تعرف في أبجديات منطقها أي منطق تأتي الصور معكوسة.. والاشياء منكوسة.. لا شيء على حاله حتى ولو أردنا. وشاعرنا الغامدي اعطى لنا هذا المثل المائل المعوج من خلال عنوان ديوانه «شطئان ظامئة».. ربما لأن شيطان شعره أوحى له بما يستقر في أذهاننا من حقائق.. أو ربما اشياء اخرى لم ندرك حقائقها بعد.. سوف يجلّيها لنا.. ويجلو عن عيوننا غبار اللبس العالق بها.. سنرى: «بيروت في زمن الحصار» أولى إجاباته على هذا التساؤل:- (بيروت يا طفلة في الهول تنتحب وترسل الدمع مدرارا.. وتضطرب قميصها قطعة سوداء بالية وعاشقاها هما البارود واللهب) عشق موت ودمار.. لا عشق حياة وعمار.. هكذا وبهذه الرعونة المتوحشة يهدم الإنسان ما بنى لأنه أسير شهوته ونقمته.. (بيروت ينكرك الأصحاب.. ويحهموا على سفوحك كم ماجوا. وكم صخبوا) تجربة متوحشة مرت بلبنان علها تكون الدرس القاسي للقاصي والداني فلا تتكرر.. ومن رائحة الموات الى «تأملات في الحياة» (هي الحياة. فلا تسخط ولاتلم وخل عنك دواعي الهم والندم واستبق مهما تمادت في تقلبها على يقينك ، لا تضعف وتنهزم فالليل يبعث ضوء الفجر ثانية والنور يولد من مستوحش الظلم) لو ان لليل استطاعة ما اعطى للضوء إذناً بالدخول ولكنها طبيعة الكون ودورته المتعاقبة فلا الليل احتجب.. ولا النهار غرب.. وانما دواليك. لندعهما جانبا ونختلس من ايهما «نسمة خيال» نملأ منها رئتنا العطشى هذا أحسن... (انينكِ يا نداء صدى انيني ودمعك اذ بكيت قذى لعيني) حسناً لو كان «قذى عيوني» انسجاماً مع قفلة القصيدة (حملتِ إلى الطبيب، فصار قلبي أسيراً للمخاوف.. والظنون وتهدأ كل عاصفة لعلمي بأن يد العناية تحتويني الايمان يا شاعرنا درع امان نحتاج اليه في سرائنا وضرائنا.. فهل نقدر؟ هذا هو السؤال.. نتجاوز نقطة الرؤية الى ما بعدها الى العنوان المثير «حين اختفت.. «اين دفنتَ دعاء» (اليوم يا دعاء لو تدرين! أتيت حيث ترقدين أتيت أحمل الأسى العميق، والحنين وباقة من الدموع تنبت السراب في الجفون) كثير يا صديقي ذلك الحمل الذي حملت.. حتى السراب الوهم نئت بحمله.. ما اشد بأسك، وأقوى جلادك وأنت تعتذر لدعاء في موقف تراجع.. (معذرة يا حبيبتي فما اشتريت عند عودتي من مكتبي إليك لعبة ولا اشتريت في نهاية الدوام يوسفيا اذ تقشرينه.. وتفرحين) هل انه الانشغال عنها كما ينشغل جل الآباء عن ابنائهم؟ ام انه الفقر؟ ام انه الشح وانت تملك مكتبا يدر عليك ما تيسر من مال؟ لا..! (لأنني نسيت أين ترقدين) ولكنه اتى يمسح دمعة اعتذاره.. اتى مودعا لا زائراً يرقب الوجوه من حوله في وجوم.. ويرقب البيوت المتناثرة. ويلامس تراب الحقيقة ويطرح السؤال عله يلقى الجواب.. ولم يجد عندئذ غير السؤال يخنق الجواب.. لأنها غائبة لا تجيب.. ولا تستجيب لأي سؤال.. ما بين محطة شعرية وأخرى مسافات متقاربة اشبه بمحطات المدن الخانقةالتي تشبه علب السردين لا بد من ان نتجاوز الكثير منها مرغمين لا أبطالاً.. «سرى الشوق» «العيد عاد» «عرائس الجمال» «خواطر مسافرة» مررنا عليها مرور الكرام لنتوقف عند مقطوعته «الفصام»: (قيل كنا عربا نئد البنتَ ونستحيي الولد هاجس العزة يطغينا فننساق إلى ادنى موات) اين هي العزة يا صديقي؟ انها مذلة عصر مضى وانقضى دون عودة لأنه ضد شريعة البقاء وعدالة الأحياء.. هذه واحدة من أكثر من واحدة في زوايا انفصامه: ( لا نرى بأسا بأن يحكمنا الفرس أو الروم أو الصلبية في ديوان بعض الأبرهات فلقد كنا جميعا ننحني للات والعزى.. ونجثو لمداه! ثم جاءتنا رسالة بعثتنا.. انقذتنا من براثين الضلالة) ليتها تنقذنا من احابيل العمالة.. ومن مطامع الطامعين في ارضنا.. وخيراتنا.. وخبراتنا.. انهم على مشارف حدودنا يتربصون.. هذه ثانية.. اما ثالثة الأثافي فتقول: (ثم خضنا في طقوس الفتنة الكبرى. وأوحال الجهالة واحتسينا نشوة الأحلام في ظل البطالة) انها الأوهام لا الاحلام.. الأحلام لا تطبخ الرديء وانما تطيح به.. وينهي خطابه الشعري الجيد قائلا: (قبل كنا عربا.. ثم عدنا عربا اترى يرفعنا شوق إلى مجد الجهاد الحق؟) هذا ما يتمناه كل مخلص لتراثه.. وترابه.. وتاريخه.. ومن الانفصام نجهد الخطى مروراً ب«مناجاة لوطن الامجاد» و«خواطر في ظلال الوحي» لطولهما.. مقتربين من البحر الملوث متسائلين مع شاعرنا الغامدي من افسده؟! (لم أكن اعلم ان البحر كالأطفال سحرا.. وهدوءا.. وجمالا لم اعرف ان البحر كالأنثى صفاء.. ووفاء.. وانتشاء..) وايضا مكيدة وذكاء، لا يجوز نسيانهما لأنهما سلاحها الذي لا يقاوم.. ويسترسل: (وطغى الموج على الموج. ومارت في الحنايا لجج تستمطر السحب هطولا) اين البحر الذي لوثه الفساد ؟ ومن افسده؟ انه يرى في موجه الغاضب وجه فساد لأنه يحصد أرواح من لا يعرفون العوم ومن يعرفون العوم.. فهو بحر لا امان له.. الصورة فيها الكثير من التجني.. ماذا ينتظر منه ان يفعل؟ يحتضن المغامرين..!! والقراصنة!! والذين استهوتهم المقامرة والمغامرة بحياتهم.. هذا لن يكون ابدا... «الشهيد» واحدة من قصائده المتزاحمة. طرحت من خلال سرد لفظي أكثر منه ابداعي.. واطار تقليدي تغلب عليه اجترارات الجُمل الجافة ليته قرأها بحسه واعاد صياغتها بنفس الطرح التأملي الذي لمسناه في الكثير من شعره.. (مجد الاوراق.. لا نعرف للأوراق مجداً... انها مجرد أداة لرصد حركة حياة قد تكون صائبة.. وقد تأتي خائبة.. المجد صنيعة عمل هو الذي يُبيض الأوراق أو يُسوِّدها.! «مات من عاش لنفسه» عنوان مليء بالمعنى.. ثري بالحكمة: (من يعش من عاش في الدنيا لنفسه غارقا في موكب صيغ على اوهام حسه وصنوف من ملذات هواها ليل رجسه هو ميت عافه الموت فأمسى دون رفسه) الطوباوية.. النرجسية.. الأنانية مرض مستفحل ينخز اجسادنا حتى النخاع يرفض الحب. ويأبى المشاركة.. ويتمرد على الايثار.. «انت والبحر» قرأناها في تهمة البحر الفاسد لا مجال لقراءتها مرة ثانية وان اختلفت في تعابيرها.. انها الرصد لواقع اجتماعي قتل طرحا.. و«مريض الايدز» ينذر بعدوى الموت.. نجتزىء منه هذين البيتين: (شاحب الوجه، ذابلا كالفتيلة واهناً، ضامر القوام هزيلة خائرا، غائرا، وحيدا. طريداً لابسا في دجى البلاء نحوله) هذا يكفي فوصف الصورة لا يحتاج إلى اضافة.. «دفء الاماني» و«لوعة الوجد» تطغى عليهما المباشرة التي افقدتهما جمال الصورة وجلال الفكرة.. اما «السر الدفين» فلنا معه وقفة نستجلى او نحاول اكتشاف لغزه.. ومفتاح غموضه: (رب سر في الحنايا مستكين غامض كالغيب. مكنون. دفين كالصدى الخافت في رجع الانين كالمدى الباهت في سمع السنين ألهب الاحساس في القلب الحزين) ماذا بعد الاحساس؟ إلى أين أوصل شاعرنا.؟ وأية مساحة قطع؟! لا شيء الا نبش ثائرة النفس واشعال نار الفتنة فيما بينه وبين ذاته.. وبقي السر غامضا عصيا على الفهم والإدراك.. سريعاً تجاوزنا بعض محطات الديوان وتوقفنا امام «همسة وداع» (الآن.. حان وداعنا. يالهف نفسي حين يقترب من الوداع في الصدر منه تألم، في العين من غشاوة في القلب خوف والتياع.. مدي يدي.. تمتد تبحث عن يديك عن شعرك المبسوط مثل سنابل القمح الجميلة) جميلة هذه الأبيات الموحية برومانسيتها.. لو لا أن سنابل القمح طويلة اجدى منها جميلة وأكثر صوابا ومن «الوداع إلى نافذته التي استمدها من عيني حبيبته.. كي يطل منها عن قرب.. (لو تعرف الازهار ان الرعد ان دوّى ففي كفيه انسام، وعطر لو تعرف الأشواق ان المجد ان اضنى ففي دنياه حسناء، وبدر) ليس الرعد وحده.. ولا المجد وحده.. وانما الانسام.. والاطياف، والحب، والآلام، والليل كلها ادوات وصف وظفها شاعرنا في ايحاءجميل لمحبوبته انه بعينيها ابصر كل الاشياء التي تحبها والتي تخشاها كما لو انه هي.. وكما لو انها هو.. ومن لغة العيون إلى خطاب العجب: (عجبى ان تعجبي من هؤلاء ميتي الاحساس، منزوعي الحياء سارقي الخيرات، مصاصي الدماء لابسي بالزور ثوب الكبرياء) ونحن معك ايضا نتعجب.. ولكن ماذا يفيد العجب.. انه لم يغير من الجسد المريض شيئاً.. «متاعب الطريق» عشناها مع شاعرنا وعايشناها وذقنا طعمها الحلو والمر دون حاجة للتحدث عنها. لابد وان نشد الرحال كما اوحى شاعرنا لحبيبته ان تشد رحالها: كلنا في الترحال سواء: (شدي الرحال فهذي الشمس تنحدر إلى المغيب.. وهذا الليل ينتشر) ريح شاعرنا في وقوفه ساكنة.. وفي مرحلة حب لا مكان فيها للحزن.. انه يستنهضه عند كل فجر.. ومن اجلها يتمنى لو اوقف كل نجم كي تستوقفه وتستنطقه.. ابحار في خيال الحب الضارب في متاهات المفردات التي لا تقدم الكثير ولا القليل من الأماني لأنها مجرد اماني حالمة لا يمكن تصديقها.. ومع هذا يوغل شاعرنا في حلم حب يلامس النجوم.. ويداعب امواج البحر.. ويضمد الجراح.. ويعطي لها من عمره اجمل ما فيه لأنه يخشى عليها هبة نسيم قد تجرح خدها.. ولمسة ضياء قد تشاركه في حبها.! هل هذا حب؟ واين يوجد؟! انه «صفو الفراشات» وقد خلصنا من صفو الحب الذي لا وجود له إلا في اخيلة الشعراء حين يصابون بحمى مجنون ليلى: (تسامت الريح نشوى لانتشاءاتي وغابت الشمس حرى من صباباتي واغضت الغيمة السمراء حالمة على بساط شفيف من خيالاتي) نفس خيال اللامعقول حين يوغل في الوصف إلى درجة الإسراف، فلا الريح ابتسمت ولا الشمس اشتاقت لصباباته.. ولا الغيمة اغمضت جفونها سابحة في بحر حلمه.. اشياء كثيرة من المبالغة وددت لو تخلصنا منها في شعرنا ونثرنا. لأنها لا تصدق... «طعم الرحيل» لعله ينسينا لحظة تفكير كسولة وخجولة.. وان نستطعم مذاقا شهيا يجفف من عرقنا.. ويخفف من أرقنا وقلقنا: (فتشت في جنبات الليل عن احد افضي إليه بما القي فما اجد) تفضل ياعزيزي كلنا لكل انصات.. قل ماشئت. متى شئتَ!، ولا تخف: (لا القفار التي اطعمتها قدمي او الحنين الذي اسكنته كبدي إن الزمان الذي الفيته زمنا أمسي، وزهرة ايام وفجر غدي سافرت حتى كأن الليل ما انطفأت نجومه.. وكأن الصبح لم يلد هذه الأحاسيس اطويها.. وتبعدني مثل المسافات عن اهل.. وعن ولد) احساس بجماليات الصورة يستبين من خلال استقراء حالة شاعرنا.. وهو حائر بين صمته وصوته.. لمن يتحدث؟ ومتى يتحرر من الحديث! «بيان» عنوان ارتعدت له فرائصنا.. انه لغة الانقلابات..وخطاب الاضطرابات هل انه كذلك؟ ( يا ولدي. هذا عصر تتقلب فيه الناس وتتبدل فيه الاشياء دول. انظمة. احزاب. اسماء في الصبح لها شأن، ولها شأن ان جُنَّ مساء هذا عصر العلم. وعصر الحرب وعصر المكر. وعصر سياسات الأهواء) هذا يكفي.. ابيات تغني عن ديوان حالفها التوفيق.. ووافقها الصدق.. لعلها الأكثر نضجا وتوفيقا في الطرح.. «قتيلة وجد» واحدة من محطاتنا الأخيرة على درب الكلمة الشاعرة المموسقة.. بماذا أوحت؟! (عبر. فهل في الناس من يتعبر وبصائر.. فمن الذي لايتبصر..) لي وقفة تأمل مع مفردة من يتعبر، اخالها من العبرات لا من العبر.. لعله يوافقني عليها ان لم اكن اخطأت.. لعل الصحة «من يعتبر» يتحدث عن المواجع والفواجع التي تضيق بها الحياة.. ويئن تحت وطأتها الاحياء.. كما يأتي على ذكر مواكب الموت وهي مباحة متاحة في عالمنا المسكون بصراعاته ونزاعاته ويصل الى فهم لما يريد ان يقوله: (هذي الحياة.. ام الممات. ام الذي نخشاه.. ام نرجوه.. ان نتحسر) كلها واردة في حسابات حياتنا.. الحياة متغيرات.. كما السياسة البلهاء تقتل. وتأسر. وتشرد باسم المتغيرات.. لا فرق..! هذه المحطة ما قبل الاخيرة محطة احصاءات بلغة الارقام في حسابات رصيد البشر عنوان «الوافد رقم ستة بلايين» وليس ستة بليون: (اليوم نحتفي بالوافد الجديد من بني البشر يحل في احتفاءة لم تخلُ من سخرية يشوبها الحذر ومن تململ. ومن تبرم.. ومن ضجر سيكمل الضيف بلايين من القطيع ستة) كبيرة على شاعرنا وصف البشر بالقطيع.. انه قطاعية ضد انسانيته مهما كان موتورا.. او مغدورا.. الإنسان بعقله يتسامى عن غيره من المخلوقات.. لقد كرمه الله.. وعليه ان يكرم نفسه.. هذا حقنا عليه دون ان ننال من انسانيته الا اذا اخطأ وفي حدود ذلك الخطأ.. (سنحتفي.. لكننا لم ندر حقا كما نكون حين يَصدق الحساب أو من نكون حين نسأل السؤال.. فلا نرى الا علامة استفهامنا جواب) نكون.. أو لا نكون بقدر ما نضيفه الى رصيد حياتنا من انجازات ومعطيات تصب في رصيد الخير والحب.. والجمال.. نشارف النهاية.. نصل الى نهاية الرحلة مع شاعرنا سعد الغامدي وقد اختار فصله الاخير.. لعله فصل الخطاب الذي يقطع الشك باليقين.. والألم بالأمل.. والتردد بالثبات حتى وهو يتحدث عن «اصول اللعبة» (الرجل المريض يعشق الكرسي يدك مبنى البرلمان كي ينصبوه قيصرا «ينصّب» المسئول في الصباح ثملا وفي المساء يعزل المسئول يغير الرجال مثلما يغير القميص. والسروال.. والمنديل) هذا عن القيصر المستقيل.. ماذا عن الآخر في قارة اخرى؟ (وفي نيويورك يُحرَّم الصغار في جريمة الغسيل ويترك الكبار. والمُغسل الأصيل لأن سوق المال لا تحيد. او تميل فما لها من قيصر سوى جلالة الدولار هو الذي سلطانه يجري على النفوس. والقلوب. والعقول) لأنه الأقوى.. وعالمنا يحترم الأقوى حتى ولو كان لا يحبه لأنه يخشاه.. تلك حقيقة مرة لا مراء فيها ولا جدل.. «كن قويا يحترمك الآخرون» ولكي يحترمنا غيرنا حتى ولو كرهونا علينا ان نكون اقوياء لا لكي نعتدي. وانما لندافع عن حريتنا وكرامتنا لأن الضعف مستهدف حتى ولو كان على حق.. شكرا لشاعرنا الذي اسعدنا بشعره الرصين. ومشاعره الصادقة.. وإلى اللقاء.. ص.ب: 231185 الرياض: 11321 فاكس: 2053338