كتبت قبل حين من الزمن بحثاً قصيراً تناولت فيه المواجهة الصعبة بين خريج الثانوية العامة وخيارات المستقبل المطروحة أمامه، بدءاً بالجامعة، مروراً بفرص التعليم الفني والمهني، وانتهاء بالوظيفة، متى كان السبيل اليها يسيراً، وأشرت الى تباين أولويات الاختيار بين شاب وآخر. * فهناك من يعتبر «الوظيفة» أقصر الطرق الى الاستقرار النفسي والحياتي. * وهناك من يرى في الشهادة الجامعية ضالة النفس ومناها، وبعد ذلك، يكتب الله ما يشاء! * وهناك من يختار التعليم الفني، إما لرغبة فيه، أو لتعذر تحقيق أي من الخيارات الأخرى. * ولا ريب أن المرحلة الثانوية حلقة مهمة في سلم طموح الشاب، وهي محور القرار الصعب، إما بالمضي قدماً في التحصيل بأشكاله وإشكالياته ومستوياته، أو بالدخول في لجة الحياة بحثاً عن فرص العيش.. وفي ظني أن هذه أخطر المراحل وأدقها في حياة الشاب «أو الشابة» يفتقر فيه كلاهما الى النصيحة الجادة والرأي السوي ل«صناعة» قرار الغد.. والشاب في هذه المرحلة الحرجة قد يلتمس لنصح، وقد يحيد عنه، فإن التمس النصح، فممن؟ هنا تتعدد مصادر النصح والمشورة، بدءاً بالوالدين، والأب خاصة، مروراً بالإخوة والأخوات والأصدقاء، وانتهاء بزملاء الدراسة، ويحتمل أن يكون لهؤلاء التأثير الأكبر في صياغة «الخيار» الذي ينتهي اليه الشاب، فهم في حالات كثيرة قدوته ومثاله! هنا نأتي الى سؤال مهم هو: ماذا تفعل بلادنا إزاء الألوف المتراكمة من خريجي الثانوية العامة، ذكوراً وإناثاً؟ هل يمكن إلحاقهم بالجامعات المحلية؟ وبمعنى أكثر دقة، هل يجوز الربط بين مصير خريج الثانوية العامة والجامعة بما قد يوحي وهماً أنه لا مستقبل لهذا الخريج إذا لم يجد مقعداً في أي جامعة!؟.. هنا يختلف الناس أشتاتاً في التعامل مع هذا السؤال: (أ) فهناك من يظن أن التعليم الجامعي حق مشاع، كالماء والهواء، وأن حجب، هذا الحق لعلة أو أخرى، تعطيل لا مبرر له، ولا تسامح معه. (ب) وهناك من يحرص على إلحاق ابنه أو ابنته بالجامعة، لا طمعاً في التعليم نفسه، ولكن التماساً ل«الوجاهة الاجتماعية»، وتحسيناً لفرص الشاب أو الشابة في التلاحم اجتماعياً مع شرائح المجتمع الأخرى.. وقد يقول أحدهم دفاعاً عن مثل هذا الموقف: «ماذا تريد الناس أن يقولوا عن ابني أو ابنتي إذا لم يكونوا من خريجي الجامعة؟ وكيف أبرر «قصور» أي منهما عن الفوز بالشهادة الجامعية»؟ وغير ذلك من المقولات التي لا تغيب عن الذاكرة. (ج) وهناك من يتمنى الربط بين قدرة الطالب على التحصيل ومفردات التعليم الجامعي، تلقياً واستيعاباً وبحثاً، ومثل هذا التفسير يقصر التعليم الجامعي على شريحة منتخبة من خريجي الثانوية العامة وما في حكمها. (د) وهناك من يرغب في تقنين أداء الجامعة مدخلات ومخرجات، وربطها باحتياجات التنمية في مدلولها الواسع من تخصصات تعتقها من أسر الاعتماد على استقدام الخبرات المتخصصة من الخارج، وهذا هو الرأي الراجح والأقرب الى الصواب من وجهة نظر هذا الكاتب. * إذن، فخريج الثانوية العامة يواجه معضلة شاقة ذات أطراف عدة: 1- معضلة التعرف على قدراته ومواهبه التي يمكن أن يوظفها لأغراض المرحلة القادمة بما يمكنه من خوض التجربة الجامعية. 2- فإن كان مقتنعا بملاءمته لدخول الجامعة، برزت له معضلة اخرى تتعلق بالتخصص الذي يمكن أن يختاره دربا لمشوار الجامعة، والحياة من بعدها. 3- وإن كان يملك تصوراً واضحاً يجسِّد رغبته في الجامعة مقرونة برؤية واضحة حول التخصص الذي ينشده، برزت له معضلة ثالثة، وهي محاولة التوفيق بين رغبته هو ورغبة والده او والدته أو الاثنين معا أو من يهمه أمره وهناك بالطبع صنف من أولياء الأمور: آباء وأمهات، إخوة وأخوات، يقيسون رغبة الشاب المقبل على الجامعة «بمكيال» خاص بهم، معتمدين في ذلك على تقنين شخصي لفرص الفوز والفشل، والطموح والخمول، وغير ذلك من المعايير السلوكية التي تعرّف «منظومة» الانسان السوي.. فقد يصر أب على خيار «الطب» خلافا لرغبة ابنه الذي يفضِّل تخصص الهندسة أو ما في حكمها.! وقد يصر أب آخر على تخصص الدراسات الشرعية، في حين يفضل الابن الدراسات النفسية أو الاجتماعية او الادبية، والعكس صحيح، وهكذا يجد الشاب نفسه محاصراً بشبكة معقدة من الخيارات، يزعم كل من أصحابها انه وحده يملك صراط اليقين، وتأخذ الحيرة بالشاب كل مأخذ، فلا يدري من بيده زمام السداد من بين المحيطين به، بدءا بالأبوين، وانتهاء بزملاء الدراسة، فإذا حاول اللجوء الى نفسه، وتحكيمها في الأمر لم يجد رصيداً من العلم أو الخبرة يرجح عنده الاستقلال بالحكم على الموقف، بعيداً عن تأثير المحيطين به، وقد يلجأ من جديد الى طلب المشورة ممن لا يملكون علماً ولا خبرة ولا رأياً..