ماذا أقول وُقد شددتَ وثاقَا لم تُبْق لي شِعراً ولا أوراقَا يا شاعري، أَلحقُّ أنك قاتلي في الشِّعرِ، أسرع ما أراك سِباقَا إذ ما هممت ببعضِ شعر إنه شعرٌ لكم يأتي هنا دَفَّاقَا واليومَ ناديتَ العراقَ وأهله إن الفجيعة مَزَّقَتْ أعماقا إني بقلبكَ مثل قلبِك وَجْدُهُ يزداد - من ألمٍ به - إِحْراقَا كانَتْ هنالك في العراق مجالسٌ للشعر، تسمع نابغاً عملاقَا واليوم صرخاتُ التراث ونهبه تشكو الضياعَ تحذِّر السُّرّاقَا أشكوكَ - أخي الشاعر الأستاذ صالح المالك.. أشكوك شكوى المحبين.. لأنك زدتني ألما، لأنك ضاعفتني حزنا وهماً.. وكأنك تقصد عن عمدٍ ذلك فمن حين لآخر تغرقني في بحور شعرك، وتطمي عليّ بمشاعرك الوهاجة، وتلتف حول قلبي بوجداناتك الدفاقة.. وترسل اليّ قارب نجاة - قصيدتك - ولكن لا نجاة هذه المرة.. فالمأساة قائمة.. وحضارة العراق منهوبة ضائعة.. والحال فيه مقسمة ممزقة. لأنك تكتب بقلبك - لا بقلمك، وتصور المأساة العراقية بذرات كيانك ولأنك لا تكتب للصحافة، ولا للشهرة، ولا لما يريده غيرك من أرباب الدعاية استطعتَ أن تخترق روحي، وأن تحتل وجداني، وأن تزيد في لواعجي وآلامي. خاطبتك - أيها الشاعر الحبيب - قبل ذلك حول المؤامرة الكبرى، واليوم قد أغنيتني عن الحديث حوله الطامة العظمى.. الداهية التي لحقت بنا جميعاً. أنا لن أدعو إلى وحدة العراق، فقد سبقتي ذلك اليوم برسالتك. ولا أخاطب الأحزاب العراقية المتناحرة، فنداؤك اليوم إلى اشقائنا في العراق كفاني جهد الكتابة، ومتاعب المراسلة، وقد كنتُ أرسلت إلى الحبيبة الجزيرة منذ أسبوعين قصيدة: «يا غادة الشعراء عودي واسجعي» أخاطب الدنيا كلها لتهب وترى ماذا أحدث المجرمون، الجاهلون، الأغبياء، المعتدون، بأم الحضارات، بموطن الثقافات، بأرض المعارف والتراث والآثار، ماذا فعلوا بمجالس الخلفاء والأمراء والشعراء.. لقد خربوا كل شيء فهمُ المغول الجدد... التتار الأعمياء المعاصرون: أين القواعد والقصائد، كم سمتْ في كوفةٍ في بصرةٍ بمسامعي وذخائر طُمست معالمُ علمها طمسَ الضياع، وليس ذلك براجعِ هم والمغول بدون أصل حضارة لا علمَ يهديهم لفكر ساطع وهم الجهالة ظلمة، لم يعرفوا معنى التراث وكم ثراءٍ ضائعِ هل يعرفون من الثقافة كنهها؟ هل يفهمون بلاغة للأصمعي يا شاعري.. ها أنت متهلف لوحدة العراق.. ها أنا أراك تقف وسط جموع المتصارعين هناك.. تقول لهم بقوة اليقين، وعظيم الآمال: شعبَ العراق ألا اترك الأعراقَا وانسَ الطوائفَ واذكرَنَّ عِراقَا ودع المذاهب، واجعلَنْها وحدةً تأبَى الخلاف، ولا تقر شقاقَا أقرأ هذا النداء وأقول: الحمد لله.. الحمدُ لله الذي جعل بلادنا وحدة واحدة في العقيدة والفكر.. لا مذهبية ولا عصبية.. لكنها وحدة إيمانية إسلامية عربية شاملة، متمكنة من النفوس والقلوب والعقول، لا تتزعزع، ولا تهزها يوما رياح الفتنة العرقية، او أعاصير الطائفية المذهبية.. فالحمد لله. إن حسرة قاتلة، ووجيعة سادرة حين نوازن بين بغداد الماضي التليد، العريق.. بغداد العباسية.. واليوم بغداد الممزقة.. بغداد العدو الذي يعيّن حكامها.. ويحدد وزراءها.. أوجز شاعرنا ذلك وقال: عهداً به كنتم أئمة عصركم ولنهجكم صار الورى عشاقَا وأنا أؤيد قولك فأقول لإخوتي هناك: اليوم صرتم بالتناحر فُرقةً كلٌّ يعمِّق فتنةً وشِقَاقا والغرب كان لكم تبيعاً طائعاً واليوم غربٌ ممسكٌ أعناقَا ولكن لنترك أحزاننا على ما يجري في العراق.. فسوف تزول الغمة ان شاء الله قريباً: «ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسرْ» نعود إلى شيء من الحديث عن صنعتنا.. صنعة الشعراء الثائرين، المخلصين، الناصحين، العاشقين، نعود إلى التمتع الفني والوجداني الذي تحفل به «رسالة ود إلى أشقائنا في العراق» رسالة «الرسالة» المرسل، «المذكر والمؤنث والواحد والجمع»، واختيار شاعرنا للرسالة يحمل كل الود وحسن القصد، ودلائل الحب - الذي تؤكده «ود» بمعنى الحب والمودة، و«أشقائنا» جمع للشقيق «الأخ من الأب والأم» النظير والمثيل ولم يقل «إخواننا - جيراننا - أصدقائنا - أحبابنا» لأن كل ذلك لا يرقى في حقيقة الصلة إلى «أشقائنا» - لأنهم حقاً أشقاؤنا في الأهل والنسب، أو هم النصف الثاني لنا.. من هنا حق لنا أن نجزع لما أصابهم، وان نأسى لما حل بدارهم، ويخص شاعرنا «في العراق» «في» تحمل معنى الظرفية المكانية المحددة وتحمل معنى «الاحتواء»، و«العراق» لماذا سمي بالعراق؟ هل لهذا الاسم صلة بماضيه العظيم، وواقعه المميز، وأحداثه الكبرى عبر التاريخ؟ «العراق» من البحر والنهر شاطئه طولاً - فهي العراق على طويل الشواطئ تقع، سواء في شرقها أو وسطها «دجلة والفرات» - وما هما إلا رافدان للحضارة والتاريخ والعلم والمعرفة قبل أن يكونا رافدين لعذب الماء والسقيا و«العراق» من الديار فناؤها - فهي المتسع الحقيقي لقيام مجالس العالم والأدب والشعر والنحو والبلاغة والفقه والتفسير وعلوم القرآن واللسان جمعه «أعرقَةٌ وعُرُق».. نداؤك يا شاعري للعراق نداء شاعر يعني كل ذلك.. يعرف أبعاد كل كلمة، ودلالات كل لفظة. قد يقول قائل: إن الشاعر لا يقصد ذلك عندما يكتب، ولا يعمد إلى اختيار ذلك بعد تمحيص وأخذ ورد، وأقول إنها عبقرية الشعر وموهبة الشاعر تختار هذه وتترك تلك، وتعرف سمات الكلمات الشعرية من: الدقة، الإفادة، الإيحاء والدلالة، الصحة والصواب والخطأ. والطرافة والشاعرية.. وغير ذلك مما هو في عمق الشاعر يمتاح منه دون عناء أو إعمال جهد. «العراق» من «العِرق» وهو أصل الشيء، يقالك تداركته أعراق صدق أو سوء، و«العراق» مجرى الدم في الجسد.. فهل للاسم علاقة بما فيه من تلك الحزبية والعرقية التي تمزق جسده اليوم؟! وتجعل العدو المحتل يتخذ من العرقية سببا للتحكم والسيطرة الماكرة؟ مدعياً أن العراق أعراق وعصبيات، لن يستطيع حكم نفسه. وها نحن جئنا لنحكمه - لكن بالديمقراطية «الكاذبة الزائفة». وجميل من شاعرنا أن يحذف أداة «النداء في أول الكلام» يقول « شعبَ العراق» وهذا الحذف للإشعار بالقرب الروحي والمكاني، كما أراد ذلك بإضافة أشقاء إلى «نا» المتكلمين اضافة القرب والالتصاق والحب والاعتزاز وهو يهيب بهم، راجياً لهم رجاء المحب المشفق «ألا اتركِ الأعراقا» مستخدماً ألا التي هي للتحضيض، مستحثا «اتركِ الأعراقا - انسَ الطوائف» مبيناً القضية، محدداً الطريق إلى الخلاص، مؤكداً مطلبه بقوله «واذكرنَّ عراقا» باستعمال نون التوكيد الثقيلة اهتماما وتعظيما لما يطلب. ما أعظمكَ يا شاعرنا وأنت توضح لهم باليقين ضرورة ترك الشقاق وليكن العراق.. العراق الوحدة والهدف والقضية لأنه الوطن الذي أعطى الكثير، وتغاضى عن التقصير في حقه كوطن عظيم. وطناً رعاك بحبه وحنانه ولما فعلتَ مقصِّراً ما ضَاقَا وبأسلوب الأمر البلاغي الذي هو للحث والنصح والإرشاد يلح شاعرنا على أصل القضية يقول: «دع المذاهب، اجعلنها وحدة، خل المذاهبَ، أقم ألفةً» وتكرار ذلك يؤكد مدى أهمية ذلك، وإصرار الشاعر على تقديم الحل الحقيقي لما يجري هناك من تمزق وضياع.. واأسفاه.. العراق الذي حكم معظم الدنيا لأكثر من خمسة قرون يفشل اليوم في حكم نفسه، ويتيح للحاقدين تشكيل حكومة أجنبية مفروضة عميلة تقود شعبه. يقول لهم الأستاذ صالح بن حمد المالك.. بصوت الحزين ولهفة الباكي: إن الحل واضح.. والطريق مستقيم.. والنجاة محققة: مُسْتَمْسِكَاً بكتاب ربكَ وحدهُ ولسنة المختار كن مشتاقَا انتم عراقيون فاحموا أرضكم لا عاش من خان البلاد وباقَا وعظيم منك يا شاعري استعمال «باقا» (بوقاً وبؤوقاً: فسد وبار، جاء بالشر والخصومات، غدروا به، اجتمعوا عليه فقتلوه ظلماً، سرق)، كل هذه الجرائم تحملها «باقا» التي هي صفة لمن خان البلاد وباقا. ويستثير الشاعر نخوة الذين انقسموا، تشيعوا، تخاصموا تناحروا.. تكالبوا على الحكم «أنتم عراقيون - أنتم بنو الأبطال، أنتم جميعاً إخوة» ويتساءل بصيغة الاستنكار والتعجب: ماذا أفدتم من تفرق صفكم؟!. منادياً بصوتٍ عالٍ: قولوا لمنْ رام اختراق صفوفكم إخسأْ، سنمضي للإخاء سباقَا لا للمذاهب والطوائف كلها لا للتحزب، وانبذوا الأعراقَا هذا هو الشعر، وها هو الشاعر يؤدي الرسالة - شهادة للحق والتاريخ.. سوف يضيع أو يُنسى كل ما بُث أو نشر في وسائل الإعلام لكن سوف يبقى الشعر سجلاً دائماً، لأن الشعر تعبير عن الشعور والوجدان والصدق الواقعي والشعوري والفني من دعائم خلود الشعر الصادق. هذا هو شاعرنا حدد جوانب القضية، ووضع الحل ووصف العلاج «وتلك هي رسالة الشعر والشعراء. شاعري الحبيب.. هذا غيض من فيض حول رسالتك التي تحمل الود.. وتطلب وحدة الصف.. ما سبق كان لقليل منها وللبقية بقيات حتى ألقاك إن شاء الله. محمد عباس خلف مستشار اللغة العربية بتقنيات التعليم وزارة التربية والتعليم الرياض