عبدالله الجعيثن أديب له نهجه المميز في الكتابة أسلوباً وموضوعاً وقد حلا لبعضهم وصفه بالأديب المحترف، ولست أرى في ذلك عيباً إن صح فالذين يصفونهم «بشيوخ الأدب» كانوا من المحترفين مثل طه حسين والعقاد والرافعي والمازني وآخرين كثر. وليس عيباً أن يحترف الأديب، بل إني أرى حرفة الأدب من أشرف الحرفات لكونها تنمي العقول وتعالج المشكلات وترسم الخطط للحياة المستقبلة، وبعبارة أشمل هي وسيلة إصلاح متى ما كان الأديب مدركاً مسؤوليته في مجتمعه، ومسؤوليته الثقافية في ماضي أمته وحاضرها ومستقبلها، وقد يأتي لشيء من ذلك ذكر لكون هذه المقالات التي يضمها هذا الكتاب متصلة بهذا الموضوع اتصالاً مباشرة بل يبدو أنها وقف عليه. والكتاب مجموعة مقالات لا يبدو فيها نظام معين وهذا مما لا أرتاح إلى مثله، إذ الأولى أن تصنف المقالات عند جمعها تصنيفاً موضوعياً أو تاريخياً أو على أي نظام يوحد متناثرها. وقد نشر المؤلف كتابه هذا سنة 1417ه في «119» صفحة من القطع المتوسط. وفي حديث أشبه بالمقدمة تحدث عن الأدباء والمال وألقى المسؤولية في كساد الكتاب على المجتمع الذي لم يقبل عليه، وهذه في الواقع مشكلة المثقف في هذا العصر، بل إنها مشكلة المجتمع الذي حرم بإرادته أو بغيرها لذة التعامل مع الكتاب، ومتعة ما فيه من منفعة وغذاء فكري. وفي هذه المقالة أحاديث طيبة صدرها بقوله.. ص4 «كان كثير من الأدباء كالشموع التي تنير وهي تحترق، بل كان بعضهم كالطيور التي تغني وهي تحتضر، فلهم مع المال قصص غريبة، مع العلم بأنهم لا يسعون إلى ثروات وليس المال لدى كثير منهم هدفاً، ولكنهم كغيرهم من أفراد المجتمع لا بد أن يحصلوا على نصيب يحقق لهم حياة كريمة، ومن ناحية ثانية فإن الحصول على المال أو مكافأة الإنتاج كان شهادة معنوية على أهمية هذا الإنتاج، وهي شهادة تدفع كثيراً من الأدباء والفنانين إلى مزيد من الإبداع في كثير من الأحيان». والكتاب عنده في المقال الثاني ينقسمون إلى قسمين: كتاب لهم دخل يغنيهم عن احتراف الكتابة، ومع ذلك فهم يقبلون عليها راغبين ومخلصين لها، وهؤلاء هم الذين عشقوا الكتابة هواية وأحسب هذا النوع أكثر جدوى للحياة والأحياء. والنوع الثاني هم أولئك الكتاب الذين يحترفون الكتابة للحصول على لقمة العيش وواقعهم من الصعوبة بمكان. وفي مقالة عنوانها «الفنانون والمال» صدرها الكاتب بقوله: ص16 «وربما كان الأدباء والفنانون يعشقون المال أكثر من غيرهم لأنهم تستهويهم حياة الترف». ثم سار خلف مقولات «سومر ست موم» وما أحسبه في مثل هذا القول صادقاً وإن صدق على بعض النماذج من الفنانين. أما حديثه عن «متعة الأدب» فقد صدره بقوله: ص18 (وكثير من عبروا صادقين عن هذا الدور الممتع للأدب في حياتهم بغض النظر عن أي أهداف أخرى، ومن هؤلاء الأديب العربي جبرا إبراهيم جبرا الذي يقول في نص جميل: «وقد لا يدرك المرء قيمة الشيء اللصيق بحياته إلا إذا حرم منه ولا يعرف المرء عمق المتعة بالقراءة، إلا إذا حرم منها لمدة طويلة، بحيث يجد نفسه يتحرق إلى كتاب يعاقره، ولو لساعة، أو بعض ساعة، كمن يتضور جوعاً فيتحرك إلى أي طعام، مهما يكن»). معقباً عليه بقوله في ص18 «ولكن من الظلم أن نعمم أمر القراءة هذا، هناك الكثيرون ممن ليس للكتاب دور في حياتهم فلا يخشون الحرمان منه، لأن القراءة لا تعطيهم تلك المتعة التي تشفي الغليل وتثيره معاً أشبه بمتعة إدمان هو حقاً إدمان حلال. هؤلاء أناس قد يكونون راضين عن أنفسهم وعن غفلتهم الفكرية غير أنني أعجب لأمرهم، وأحزن لهم، أعجب لأمرهم حين أجد أن سنوات الدراسة الطويلة لم تفلح في زرع هذه الشهوة النبيلة في أنفسهم، وأحزن لهم لأنهم يعيشون وهم في عوز ذهني وعاطفي قد لا يعونه، ولكنه يفقر حياتهم ويجردهم من لذة أساسية من لذات البقاء، كمن حرم من معرفة الحب وعميت عيناه عن مرأى الجمال». وهذا وإن لم يكن داخل الإطار الدقيق للموضوع إلا أنه شبه موازنة بين واقع الأديب وواقع العامة. ولكن هل تصح مثل هذه؟ ما أظن ذلك إذ لا جامع ثقافياً بين الفريقين. وقد لا يكون في مقدورنا الوقوف عند كل مقالة، بل ولا عند بعضها لكون صاحبنا أديباً ماهراً ومثقفاً بكل ما تعنيه هذه الكلمة ولذا تجده يطوف بنا في عالم الأدب والأدباء قديماً وحديثاً عربياً وغير عربي، ولذا سوف نقبس أشياء من هنا ومن هناك مما ا شتملت عليه هذه المقالات لنعطي بعضاً من الصورة المقربة إلى الذهن. فمن ذلك حديثه في «أدباء في ضائقات مالية رقم (2)» وأول حديث فيه عن زكي مبارك وافتقاره إلى حد به بيع بيته في المزاد بسبب الديون، وأحسب الأدب بريئاً مما أصاب زكي مبارك من افتقار وإنما الذنب لأشياء أخرى. وأما حديثه عن طه حسين الذي انطلق فيه من حديث زوجته فما أحسب أحاديثها إلا نوعاً من المبالغات أو الاستدرار والله أعلم. ويبدأ «أدباء في ضائقات مالية رقم (3)» بأبيات لجملة من الشعراء المتقدمين والمتأخرين تربط العقل بالافتقار والجهل بالغناء، وهي أقوال لا تخلو من المبالغة ولكنهم درجوا على استحسانها وأكثروا منها، ومما لم يورده المؤلف أبيات للدكتور حسن جاد منها قوله: سبحان من قسم الدنيا فسائمة مرزوقة وأريب غير مرزوق ثم يتبع المؤلف تلك الأبيات بقوله تحت عنوان: «شروط الحصول على المال» في ص50 :«والواقع أن السعادة تكون أقرب إلى الأغبياء فعلاً، أما المال فلا.. فللحصول على المال الوفير ثلاثة شروط حصرها المفكرون وهي الصحة والتمييز والكدح، وهي شروط يفتقدها كثير من الأدباء، وخاصة «التمييز» في عالم المال لقلة ثقافتهم فيه ولأن مواهبهم اتجهت إلى أشياء عاطفية وخيالية ونظرية، كما أنهم لا يصبرون على الكدح في الغالب، والأدباء يرون كثيراً من الأغنياء جهلاء بشؤون الأدب والثقافة فيظنون المال ينقاد للأغبياء، ولكن أولئك يحفظون أعمالهم غيباً ولديهم موهبة جمع المال «أو التمييز» ويكدحون بمثابرة، وهذا كل المطلوب، على أن بعض الأغنياء يشبهون فعلاً سكان مستشفى المجانين» وأحسبه يعني المجازفة، والقدرة على تحمل عواقبها. وعلى كل حال فالقضية قديمة فلقد رووا أنه قيل لأعرابية: أتريدين ابنك عاقلاً يخدم أرباب المال، أم تريدينه صاحب مال يخدمه ذوو العقول؟ فقالت: أريده صاحب مال يخدمه ذوو العقول. ومر المؤلف في الموضوع بعدد من الأدباء والعلماء كصنيعه فيما سلف. وكذلك صنع في «أدباء في ضائقات مالية رقم (4)» وفي ص 94 يأتي هذا العنوان «الإلحاد والغرور عند عقاد أنيس منصور» وفي صدر حديثه عن كتاب أنيس منصور قال ص94: «والذي نأخذه على الكتاب هو الجرعة الكبيرة من التعالي والغرور، والتي يعمل المؤلف على أن يطعم العقاد بها، أو يطعمنا نحن القراء بها، ثم يفسر هذا الغرور أسوأ تفسير.. أما المأخذ الحقيقي فهو ما يتصل ببعض الكلمات الإلحادية التي ينسبها أنيس منصور للأستاذ الكبير العقاد، صاحب القلم «السيف» إذا تعرض للمذاهب الهدامة كالشيوعية والصهيونية والوجودية وغير ذلك من المذاهب المريضة، ونحن في هذا المجال لا نقبل أنيس منصور شاهداً». فإذا كان لا يقبل أنيس منصور شاهداً وهو الذي طال جلوسه إلى العقاد فهل نستطيع قبوله هو شاهداً على العقاد وهو لم يعرفه إلا من كتبه؟ إن إعجاب المؤلف بالعقاد هو الذي جعله لا يقبل شهادة تلميذ من تلامذة العقاد. ومن أدلة إعجاب المؤلف بالعقاد تغاضيه عن بعض مواقفه وذلك في تعقيبه على قول أنيس منصور في ص99 «ويقول الأستاذ أنيس منصور في معرض ذلك: (فما الذي أبقاه لنا الأستاذ من تماثيل العظماء ولوحاتهم التي علقناها على جدار حياتنا؟.. ما من أحد لم يرمه بحجر.. ما من أحد إلا وضعه مقلوباً..) ص38 وليس هناك أخطر من هذا التعميم، فمن هم أبطال أنيس منصور الذين حطمهم العقاد؟» كأن المؤلف لا يعرف موقف العقاد من كثيرين من رجال الفكر مثل الرافعي وطه حسين وشوقي وغيرهم. ومن ثنائه على العقاد قوله ص99: «والعقاد لا يكاد يخاطب أحداً في صالونه إلا دعاه «بمولانا»..» وهذه كلمة يستعملها المصريون، وآخرون قد لا يقصد منها إلا ضد التكريم وهي في الغالب لفظة عادية عندهم، فليست ذات دلالة تعظيمية يحتج بها. وفي دفعه عن العقاد يقول ص102: «أما الإلحاد فهو أمر لا يجود بأي معيار أن يورده المؤلف على لسان العقاد رحمه الله فالعقاد له مكتبة إسلامية كاملة دافع فيها عن الإسلام وجاهد أصدق الجهاد فما الداعي للافتراء؟ ولنفرض فرضاً أن العقاد تفوه ببعض ذلك في لحظة ضعف فهل يجوز تسجيلها عليه في كتاب سيار؟ وهل يجوز تقديمها للجيل العربي كله وهو الجيل الذي يدرس في المدارس كثيراً من كتبه وجل كتبه في الحياة؟» وفي هذا الكلام شيء من تناقض فهو في بدايته يصفه بأنه كاتب إسلامي وفي آخره يقدم افتراضاً فيه روح الاعتراف بأن الرجل قال بشيء من إلحاد ثم يستنكر رواية هذا الإلحاد عنه. ثم يروي شيئاً مما أورده أنيس منصور ليكرر محاولة تبرئة العقاد بجواز أن يكون قال ذلك في لحظة ضعف ص102: «ومع أننا لا نحب إيراد أمثلة على هذا الموضوع الخطير إلا أننا نذكر ما يقوم به الدليل، يقول أنيس منصور ص21: ( وكان الأستاذ العقاد يزلزل وجودنا عندما يغضب من الدنيا فيقول ما هذا الكون؟ ما هذه الدنيا؟ أعطني المادة الأولية لهذا الكون وأنا أصنع لك واحداً أفضل منه). ويقول أنيس منصور ص22 ( وعندما قرأ الأستاذ العقاد أن السيد كمال الدين حسين أصبح رئيساً للجنة الطاقة، ضمن وظائف أخرى كثيرة يقوم بها، قال يا مولانا، إن الله لن يحاسبني وقد خلقني في عصر كمال الدين حسين وجمال عبدالناصر) إلى آخر هذا الهذر، ولنفرض الآن أن العقاد رحمه الله قد قال شيئاً من ذلك في لحظات ضعف عابرة ومع استبعاد ذلك أفيجوز أن يسجل ذلك وينشر؟ لا أظن عاقلاً يجيز ذلك» فأي ضعف يعنيه؟ وهناك من الأقوال التي رواها أنيس منصور عن العقاد ما هو أكثر إيغالاً في الإلحاد كقوله: «أرني الله وأنا أضع اصبعي في عينيه» جل الله وتقدس عما يقول المبطلون ولو جاز لنا حمل أقوال أنيس على الكذب فإن رواد ندوة العقاد لا يمكن أن يسكتوا على أقوال أنيس لو كانت كذباً. وهناك مصدر آخر لتجاوزات العقاد وهو «عباس محمود العقاد ناقضاً» لزينب العمري ففيه قد أوردت مقالة للعقاد يدعو فيها إلى إبطال نظام الإرث في الإسلام وجعل الدولة هي الوارث للميت وعليها كفالة الصغار من ذريته حتى بلوغ الثامنة عشرة من العمر وليس لهم بعد ذلك من حق. ويبدو أن وقفاتنا مع الأستاذ عبدالله ستطول لو أننا وقفنا عند كل ما يستحق الوقوف عنده مثل قوله بعد إيراد قول للعقاد قال فيه: «إن الاستعاذة هنا تحتاج إلى مائة لسان!». يقول الأستاذ عبدالله ص203: «ويبدو أن استعاذة المائة لسان لم تنفع مع أنيس منصور الذي لا شك أنه اطلع عليها، فراح يروي على لسان العقاد الجد والهزل، والغث والسمين، وما يجوز وما لا يجوز. وما قيل في لحظات الضعف والمزاح أو الجد. استبعاداً للشهرة وتقديم ما يضحك ويطرب بغض النظر عن الثمن». ومما ورد في هذه المقولة قوله: «وأسلوب الأستاذ أنيس منصور يخلو من الإنسانية والعمق ويمتلئ باللت والعجن والحشو الكثير الفارغ بشكل يفوق النقيصة الوحيدة في أسلوب طه حسين» فما هذه النقيصة عند طه حسين، هلا أرشدتنا إليها يا أستاذ عبدالله. وعلى أي حال فنحن لا نبرئ أنيس منصور من الكذب، بل هو إليه أقرب من العقاد. ولكننا نستبعد أن يكذب على العقاد وتلامذته ما زالوا أحياء وهم أوفياء له ولذا فلن يسكتوا عن الكذب عليه، ويبقى الاحتمال قائماً إلا أننا لا نقبل هذه المغالطة في محاولة تبرئة العقاد. ولكننا نستبعد أن يكذب على العقاد وتلامذته ما زالوا أحياء وهم أوفياء له ولذا فلن يسكتوا عن الكذب عليه، ويبقى الاحتمال قائماً إلا أننا لا نقبل هذه المغالطة في محاولة تبرئة العقاد. ومن أجل موضوعات هذا الكتاب وكلها جليلة آخر موضوع فيه «المال والموازين الاجتماعية» فلقد عالج فيه قضية اجتماعية ضاربة بجذورها في القدم وهي إجلال ذوي المال والغنى. واحتقار الفقراء، وقد دلل على فساد هذه النظرة بشيء من الكتاب والسنة، ومما فاته هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث «واطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء». وما أحسب هذا الكتاب في حاجة إلى الثناء لا لكون كاتبه من المبدعين المحسنين، وإنما أيضاً لما في موضوعاته من جد وفائدة.