إن الكلام هنا عن داء مضاد للتوحيد.. يحصل من الجهل وغفلة القلب عن الله.. داء إن استمر افسد دنيا العبد وآخرته.. مبادئه سهله حلوة وأوسطه هم وشغل قلب وآخره سقم ومرض ان لم تتداركه عناية من الله تعالى.. ضرره في القلب كضرر السموم في الأبدان.. داء يضعف سير القلب الى الله والدار الآخرة.. يصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه.. انه التعلق بالمخلوق من دون الخالق انه شدة الحب للمخلوق الذي يصل احياناً إلى درجة العشق من غير تمييز بين الجائز والممنوع والنافع والضار. اخواتي.. ان الحب غريزة فطرية فما من مخلوق الا وهو يحب ويكره.. وليست عاطفة الحب مذمومة في حد ذاتها بل يتعلق مدحها وذمها باعتبار متعلقها ومن تصرف له تلك المشاعر المرهفة وتوجه إليه تلك الأحاسيس الرقيقة.. لست أقول لا نحب.. كلا.. فهذا خلاف للفطرة وقتل للمشاعر.. ولكني اقول من هوالشخص الذي يستحق ان نحبه؟ وهل هو مستحق لها شرعاً؟... لأن العاطفة اذا لم تضبط بمقياس الشرع وتحكم بميزان العقل وتوزن بمعيار العفة والفضيلة فإنها تكون حينئذ عاصفة لا عاطفة تدمر كل شيء امامها وتؤدي بصاحبتها إلى الهاوية.. اخواتي.. لنعلم جميعاً اننا مهما كنا عاطفيات ان الحياة تظل اغلى واثمن من ان تكرس وتعلق بحبيب او عشيق.. ويبقى تحقيقنا لذواتنا اغلى واسمى من الركض وراء العواطف والمشاعر الرقيقة.. ويظل وصولنا وتحقيقنا للهدف المنشود اعظم من السعي وراء احاديث الحب والغرام.. فهل نعلم ما هو الهدف المنشود الذي تبحث عنه كل فتاة.. انه السعادة؟ أخواتي.. ان السعادة ليست في الحب وحده.. كلا.. بل هي في الحقيقة لا تكون الا بالحياة مع الله والعيش في ظل طاعته سبحانه وتعالى.. لأن في النفس البشرية ظمأ داخلياً روحياً لا يرويه عطف الوالدين ولا حب الازواج ولا مودة الصديقات.. فكل ما تقدم يروي بعض الظمأ لأن كل انسان مشغول بظمأ نفسه فهو بالتالي اعجز من ان يحقق الري الكامل لغيره.. ولكن الري الكامل والشبع التام لا يكون الا باللجوء إلى الله تعالى والعيش في ظل طاعته والحياة في كنف مرضاته والسير في طريق هدايته ونوره فحينها يستنير الوجه وينشرح الصدر ويحيا القلب فنتذوق طعم الحب الحقيقي ومذاق اللذة الروحية ونسعد بالسعادة التامة.. لأن الناس اذا احبوا اخذوا وإذا منحوا سلبوا واذا اعطوا ملوا وتضجروا.. ولكن الله تعالى اذا احب عبده اعطاه بغير حساب ومنحه بغير منة ولا انقطاع. فكيف حبنا لمن يحسن الينا على الدوام مع إساءتنا؟ فخيره الينا نازل وشرنا اليه صاعد.. يتحبب الينا بالنعم وهو غني عنا ونتبغض اليه بالمعاصي ونحن الفقراء اليه. كيف لا نستحي ان يكون رب لنا بهذه المنزلة ونحن معرضون عنه مشغولون بحب غيره قد استغرقت قلوبنا بمحبة من سواه..؟ ولو لم يكن من ضرر التعلق الا الاشتغال بحب المخلوق وذكره عن حب الرب تبارك وتعالى وذكره لكفى... فكيف بأضراره العظيمة الأخرى من عذاب القلب بهذا الداء فإن من أحب شيئاً غير الله عذب به ولابد من الاشتغال به عن مصالح الدين والدنيا كما انه اذا تمكن من القلب واستحكم افسد الذهن واعمى عين القلب عن رؤية مساوىء المحبوب وعيوبه فلا ترى العين ذلك كما في المسند مرفوعاً.. «حبك الشيء يعمي ويصم» فشدة الرغبة غشاوة على العين تمنع من رؤية الشيء على ما هو به. اخواتي.. لابد من الرجوع إلى الله واستشعار نظره ومراقبته ودعائه وملء القلب بمحبته تعالى وعبادته فإن القلب اذا امتلأ بمحبة الله وتذوق لذة مناجاته وسعادة التعلق به دون سواه سهل عليه ترك كل محبوب سوى الله... فما هذا التعلق الا حرق للاعصاب واشغال للقلوب وقتل للمشاعر واهدار للاوقات.. انه جحيم لا يدرك بشاعته الا من جربه وعرفه.ودواء هذا الداء الاستغاثة بمقلب القلوب وصدق اللجوء اليه والاشتغال بذكره والتعوض بحبه وقربه والتفكر في الألم الذي يعقبه هذا التعلق واللذة التي تفوت به فيترتب عليه فوات اعظم محبوب وحصول اعظم مكروه. ولكن لتعلم كل من ابتليت بهذا انها اذا جاهدت النفس وصابرت وآثرت محبة الله وخوفه فإنها من احق من دخل تحت قوله تعالى {وّأّمَّا مّنً خّافّ مّقّامّ رّبٌَهٌ وّنّهّى النَّفًسّ عّنٌ الًهّوّى" *، فّإنَّ الًجّنَّةّ هٌيّ الًمّأًوّى" )* [النازعات: 40 41] وتحت قوله تعالى {وّلٌمّنً خّافّ مّقّامّ رّبٌَهٌ جّنَّتّانٌ 46) [الرحمن: 46] أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن أثر حبه على هواه وابتغى بذلك قربه ورضاه.