والمحاولات المستمرة للكشف عن الدلالات المحتملة للنصوص الدينية والأدبية والفكرية والدوال الأخرى، هو نوع من التخصيب، وهو بمفهوم آخر نوع من التعقيم أيضا، لكنه لا يعني الإبادة، بل الزيادة، والتكثيف في الدلالة، وفتح آفاق جديدة للتعبير، والعطاء الأوفر، بحيث يتحول الدال من نص وغيره الى شيء عقيم، أي لا شبيه له، ولا نظير، كما سبق أن أوردنا قول العرب: إن يوم القيامة يوم عقيم، أي لا يوم بعده، ولا مثل له، وفي العربية أطلقوا على نوع من التشبيهات اسم «التشبيهات العُقُم»، قالوا:«وهي التي لم يُسبق أصحابها إليها، ولا تعدى أحد بعدهم عليها» «العمدة لابن رشيق - تحقيق محمد قرقزان/1/504». فالشيخ الشعراوي رحمه الله أو غيره من علماء المسلمين حين كانوا يكتشفون بعض الحكم الشرعية الخفية، وإن كانت ظنية، يثرون بها مقاصد الشريعة، ويغنون بها وسائل العرض، يكونون قد قاموا بتعقيم النصوص على هذا النحو، وأذكر أول تعلقي بعلم الشعراوي عفا الله عنا وعنه، أنه كان يشرح فروض الوضوء، ويعلل الترتيب بينها وبين سننه، فقال: بما ان الماء الصالح للوضوء لابد أن يكون طهوراً، أي سالما من التغير في اللون والطعم والريح، بدأت أعمال الوضوء بسنة غسل اليدين الى الكوعين للتأكد من سلامة اللون، ثم بالمضمضة للتأكد من سلامة الطعم، ثم بالاستنشاق للتأكد من سلامة الريح، ثم يكون بعد ذلك البدء بالفروض، وسألت نفسي ذات مرة: لماذا تفضل صلاة الجماعة صلاة الفرد خمسا وعشرين درجة أو سبعا وعشرين درجة؟ واهتديت الى ان ذلك راجع الى ما فيها من اعلان عن عبودية العبد لمولاه، فهو حين صلى فذا، يتم ذلك بينه وبين ربه، ولكنه في صلاة الجماعة كأنه يقول لكل العالم: انظروا اليَّ، ها أنا أعفر جبيني وأنفي خضوعاً لله، فلا عزة إلا بالله، بهذا يستحق رفع الدرجات، بنسبة ذلك الفارق الكبير. لاشك ان هذا الفهم ليس نهائيا، ولا قطعياً، ولكنه محاولة لتفسير النص بشكل فاعل ومريح، واجتهاد في النطاق الخاص والمحدود، واثراء لدلالات النص الشرعي، فنحن لسنا ازاء نص مغلق على نفسه، بل نحن أمام نص مفتوح، والذي يمنح النصوص هذا التخصيب أو هذا النوع من التعقيم، هو مداومة الدرس والتأمل، والموازنة بين النصوص، والاتصال بفيوض الوجدان وعطاءات الرحمن ومزاولات الأرواح. وعطفا على ما تقدم يهمنا أن نورد بعض نماذج التعقيم التي تتم ازاء بعض الدوال من خارج الحقول اللفظية المنطوقة أو المكتوبة، من ذلك اشارات المرور، نحن نقيمها هنا أو هناك بحسن توفيق أو تلفيق، لكننا لا نحترمها، وكأنها لم توجد إلا لتخالف، وكثيرا ما تجد شهوة المخالفة تتملك الناس هنا وهناك، كما تحس أحيانا ان المسؤولين عن تلك الاشارات يكلفون الناس عنتا من أمرهم، وهذا في مجموعه يعطل تلك الاشرات، ويمنعها من أداء فعالياتها، أي أنه يعوقها عن الانجاب والقيام بوظائفها الحيوية. ومثل ذلك ما قد نواجه به بعض الدوال العُرفية، حيث تعمل بعض الجهات على تقويض بعض الأعراف، وبالتالي على تعطيل دلالتها وافقادها أقيامها. وهكذا..! ولكن من التعقيم ما هو تطهير..! علما بأن الشريعة الاسلامية قد راعت تلك الأعراف في بناء أحكامها، وما تزال. وفي ضوء ما أوردنا يمكننا ان نؤسس للتعقيم خمسة معان مختلفة، جاء التثميل لمعظمها، وتناولنا بعضها الآخر بشكل ما دون ايغال أو إمعان، وهي: 1- التعطيل: وهو يعني كما رأينا افقاد القدرات واهدارها. وأكثر ما تعاني منه الأفراد والجماعات من ويلات، إنما يأتي من هذا النوع، إن هذا التعطيل يؤدي الى طمس معالم الأمة، وضياع حضارتها، وقطع جذورها، ويفضي بها الى فراغ قاتل، ويجعلها تعيش حالة لا منتمية، ويؤهلها دائما للسقوط في أوحال الغير. وإنما جاء انكار المنكرين لبعض صفات الله من هذا الباب. 2- التطهير: ومنه تطهير الأدوات والأمكنة، أي إبادة الجراثيم التي بها، وجعلها صالحة للاستعمال، وهذا من أرقى أنواع التعقيم، ومردوده الايجابي على حياة البشر غير محدود علما بأن التطهير كما يقع في المحسوسات، يكون أيضا في النصوص الملفوظة وغيرها، وذلك بازالة الشوائب الفكرية الضارة، واستبعاد كل ما من شأنه الاضرار بالعقول والتقول، ولذلك تكون في حاجة الى صيانة فكرية دائمة، كما هو الحال في صيانة المكائن والآليات، وذلك عن طريق فتح باب الحوار، ومراجعة النصوص ودلالتها، وتنقيتها من الدخل والدخيل. * وإن مهمة هذا التعقيم لشاقة مضنية، ولكنها ضرورية، ولا غنى عنها بحال من الأحوال، فعلى الفرد والجماعة أن تتوقف بين كل فينة وأخرى، لتقيس المسافة بينها وبين المنطلقات من جهة، وبينها وبين الأهداف والغايات من جهة أخرى، فتقلص من هذا وتتوسع في ذاك، وتختبر العزائم وتتأكد من فاعلية الوسائل والذرائع. وكل ما نخشاه في هذا الصدد أن يرتكب باسم التطهير موبقات، فتكتم الحريات، ويخنق الابداع، فيعمد بوساطته أقوام الى إماتة كل مالا يروق لهم أو لا يوافق أمزجتهم السوداء. 3- التهطيل: ونعني به القيام بتكثيف الدلالات بتضمينها النص، أو الرمز الدال، أو الرسمية أو النغمة، أو الحركة أو الصوت.. إلخ..، ويترك جزء من الفاعلية والتحديد للسياق والايحاء، ويظل باب الاحتمال قائما، وقادرا على الأداء والعطاء، وكأن هذا النوع من التعقيم عين التخصيب، نعم، بينهما تشابه كبير، ولكن الذي يهمنا هنا هو ما يحاوله الناص من تجاوز للسائد والنمطي، وقطع الطريق على المنافس والمنازع، والمشابه والنظير، أي محاولة التكثير والتكثيف الدلالي المنقطع النظير، فهو امطار وتهطيل واستحلاب للطاقات الظاهرة والخفية، ولعل ما يفعله المتعاقبون على فهم النصوص الدينية، وشرحها وتفسيرها وبيان مقاصدها، ومحاولة القبض على اشعاعاتها وأقباسها وفتح منافذ التدبر فيها، وخروجهم من ذلك كل يوم بجديد، هو ضرب من ذلك القبيل القائم على التوليد. وهذا يعني ان بعض صور التعقيم إنما يتم انجازها من خلال المتلقي ومستوى فهمه، فمن المتلقين من هو شر على النص، ومنهم من يكون منه وبه كل الخير. وكلنا يعلم ان الفرق شاسع بين لغة الأدب ولغة التواصل المعقول، يقول محمد العربي الخطابي «عن مجلة المنهل السعودية بتصرف - جمادى الأولى/1400ه»:«قال ابن آجرُّوم في تعريف الكلام: هو اللفظ المركب المفيد بالوضع، فنراه قد قيد الافادة بالوضع، والذي يراد به ان يكون اللفظ مطابقا لمعناه، فيوضع الأول بإزاء الثاني، وذلك ليصبح الكلام أداة للتواصل المعقول بين آحاد الناس. والحقيقة ان قضية الكلام المفيد لا تقف عند حد المواضعة، بل إنها تتجاوزها الى آفاق تستشرف قيما جمالية تنبثق من أصالة الفكر، وقوة الخيال، وصفاء الحس وشفوف البيان، فهذا هو الابداع. ولنضرب على ذلك مثالا بالتركيبين التاليين: الكرمة تفيض رحيقا الكرمة تثمر عنبا حلوا * فالفرق هو هذا الاشتعال الساكن الذي يخلف رماداً أبيض فوق هامات الشيوخ. وحينما يقول أبوالعلاء: وقد أغتدي والليل يبكي تأسفا على نفسه، والنجم في الغرب مائل بريح أعيرت حافراً من زبرجد لها التسبر جسم، واللجين خلاخل فهو إنما يعطيك من نفسه صورة تتناسق فيها الألوان والظلال، وتتعانق الرؤى والأحاسيس، ولو قال:«وقد اغتدي ممتطيا صهوة جواد أشقر محجل، خفيف» لما استحق كلامه هذا ان يلتفت اليه، ولا أن يحفظ، فالكلام إذن لا يكون بالوضع فقط، بل بالإيحاء أيضا. فالإيحاء لغة الحكماء، ومطلب الشعراء، ووسيلة المبدعين. 4- التغميم: أعرف أن غمّ الثلاثي متعد، يقال: غمّ فلان الشيء، أي غطاه وستره، وغمّ القمر النجوم: بهرها وكاد يستر ضوءها، وغُمَّ عليه الهلال: حال دون رؤيته غيم أو ضباب، وما كان كذلك لا يحتاج الى التضعيف لينصب المفعول، فلا ينبغي أن يقال: غمّمتُ الشيء، تريد أنك غممته، بالتخفيف، ولكني وجدت المجمع اللغوي بمصر قبل دعُم بجانب دَعَم - ثلاثية، وأشار الى أنها محدثة، فلتكن غُمّم كذلك، وتذكروا أنها من اليوم محدثة، ومع ذلك قالوا: غيوم مغممة، وبحار مغممة، أي كثيرة الماء، وقد ألف أقوام في باب «أفعل وفعّل» كتباً مستقلة. هذا من الجانب اللغوي، فما المراد بالتغميم فنيا؟ وما علاقته بالتعقيم؟ إن التعقيم أشبه شيء بالبرشمة، وهي دق رأس المسمار بعد نفاذه، دقا شديدا، ليتفلطح رأسه، «محدثة». وهذا الاجراء في اعتقادي يمثل لونا من ألوان التعقيم، إذ يحجب ويمنع النفاذ، ويحول بين وصول ووصول، ويعطي الوعاء أو الأداة متانة وصلابة، ويمنع عنها الوضوح والجلاء، ويقطع صلته بغير بشكل دائم أو الى حين. وهذا هو ما يفعله الكاتب أو الناطق أو واضع الرمز ونحو ذلك، حين تملي عليه الحاجة ذلك،ويتطلبه الموقف، فالتعمية، والتغمية، والتغميم،- وإن شئت أسميته: التغميض، والتثبيج: يقول ثبج الرجل الكلام أو الخط: أي عمّاها ولم يبينهما - قد يصبح أمراً لا مفر منه، وأقرب مثال على ذلك: الكتابة بالحبر السري، والتشفير، وقد يولد النص أول ما يولد كذلك، لأن لغة صاحبه اعتادت هذا النمط من التعبير، يدفعها الى ذلك خوف من شيء، أو على شيء، أوهي تلجأ الى التغميم طلبا للارتقاء بالنص، فلا يكون الكشف عن مخدراته بهذا اليسر وتلك السهولة، ولا يتمكن منه القارىء إلا بعد مكابدة ومكالأة، الى غير ذلك من الدوافع، وإما أن يعمد صاحب النص الى البرشمة أو التعقيم أو التغميم بعد الفراغ من كتابة النص، ليختزن فيه ما يمكن اختزانه الى الصفوة والخاصة أو خاصة الخاصة، ولا ضرورة الى التعامل مع العامة، فلكل مقام مقال، ومما يصلح للتمثيل في هذا الباب، ما كان يجربه بعض الشعراء من تحكيك وتنقيح أو إن شئت من برشمات فنية واجتماعية على قصائدهم لمدة حول أو يزيد، ومن ذلك ما فعله الشاعر مروان أبن أبي حفصة - على ما أذكر - حين مدح أحد أمراء المدينةالمنورة في العصر الأموي، ثم عزل هذا الأمير وتولى الامارة منافسه، فمدحه أيضا بقصيدة، وتشاء الأقدار ان يعود الى امارتها الأمير الأول، فدخل أيصا يمدحه، فكان مما قاله وهو يرتجف خوفا: ولكن سقطةٌ عيبت علينا وبعض القول يذهب في الرياح قالوا: فكان الناس لا يدرون: أي أقواله الذي يذهب في الرياح، ومات الشاعر والمعني في بطنه أو قلبه! إنه تعقيم وأي تعقيم!. * ومن أمثلة ذلك ما تفعله الكشافة من اشارات مضللة، وكذلك يفعل العسكريون لتقرأها الجهة الأخرى بطريقة خاطئة حين تحاول فك رموزها، لكن التغميم منه المقبول ومنه المرذول، فهو مشروط بدواعيه الفنية والاجتماعية والسياسية، وبكونه نتيجة ذكاء وقدرة، لا غباء وضعف. * ويؤكد عبدالمتعال الصعيدي في «بغية الايضاح لتلخيص المفتاح ج3/3/ط مكتبة الآداب بمصر» ان المطلوب في علم البيان هو خفاء الدلالة لا وضوحها، فكلما كان الكلام خفي الدلالة، كانت منزلته أعلى. * ويقول «جان كوكتو»:«الفن ليس طريقة لقول أشياء بسيطة، بل طريقة بسيطة لقول أشياء معقدة». * ويقول نزار قباني في ديوانه «ثلاثية أطفال الحجارة»:«إنني أعتقد ان أطفال الحجارة نقلوا الشعر العربي من حال الى حال، ومن مرحلة الى مرحلة، كما أعتقد أنهم أدخلوا الشعر العربي الى حداثة من نوع جديد، هي حداثة المعاناة والواقعية الثورية، لا حداثة الغموض، والتغريب، والدهاليز الباطنية». 5- التفريد: وقد أشرنا فيما سبق الى ما عرف عند أهل العربية بالتشبيهات العُقم، وبأنها تعني كل تشبيه تفرد به صاحبه، فلم يسبقه اليه أحد، ولا تعداه فيه أحد بعده، وقد مثلوا له بقول عنترة العبسي يصف ذباب الروض: وخلا الذبابُ بها، فليس ببارحٍ غرِداً، كفعل الشارب المترنم هزِجاً، يحك ذراعه بذراعه قدحَ المكب على الزناد: الأجذم أي: كقدح الأجذم المكب على الزناد. فالتفريد على هذا النحو محاولة دائبة من النص تهدف الى التفرد، أي السبق الى ابتداع المعنى أو الصورة أو اللفظ والتركيب ونفي النظير أوالشبيه وقطع الطريق على الآخرين، والتفوق عليهم، وقبل ذلك كله محاولة تجاوز السائد، وكسر حاجز النمطية، وبالطبع لن يتأتى هذا لكل الكاتبين والناطقين والرامزين، كما أنه لا يتأتى في جميع حالات الابداع، ولكنه الايماضات الكشفية والتوقيفات الفنية، واللحظات الفيضية، نتيجة التمرس والاخلاص، والتلبس والتقمص، وهذا النزوع الذائب من المبدع للتفرد وابتكار المعاني والصور والتراكيب، هو نوع من التعقيم، والرقي بالنصوص، ولولاها لما تطور أدب ولا أديب، ومن صفات الفن البارزة تأبيه على الحدود، ورفضه التقولب والجمود، لأن ذلك يتناقض مع تكوينه الذاتي، ومع خصائصه القائمة على الديناميكية والحركة الدائبة، والخلق والابداع، يروي عن اسحاق الموصلي ان المعتصم سأله يوما: أخبرني عن معرفة النغم وبينها؟ فرد عليه بقوله: إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ولا تؤديها اللغة. ولعل خاصية الفكر الأولى تتمثل في هذا التحدي للحدود جميعا، وفي هذا يقول موليبر «1622- 1673م»:« إن الفكر المستقيم نفور بطبعه من الغلو، ومن الانحصار في الحدود الضيقة». وإذا كان الفكرعصيا على ذلك كل هذا الاستعصاء، فإن الفن أشد استعصاء وأعظم تمرداً على الحدود والمدود. وهذه المخترعات المنشودة التي يحصل بها تعقيم النصوص، بمعنى تفريدها، على ثلاثة أنواع: 1- التعقيم بالفرادة عن طريق عقامة المبتدأ: وهي التي لم يُسبق اليها قائلها، ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظيرها، أو ما يقرب منها. قال صاحب العمدة «1/262»: وذلك كقول امرىء القيس: سموتُ إليها بعد ما نام أهلها سمو حباب الماء حالا على حال فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، ولم ينازعه أحد إياه، ولكن بعضهم ولد منه معنى آخر، دون ان يشركه في شيء من لفظه، أو ينحو نحوه إلا في لطف الوصول الى حاجته في خفية، ذلك هو قول عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة: فاسقط عليها كسقوط النوى ليلة لا ناهٍ، ولا زاجر وفي معلقة أمرىء القيس كثير من المعاني المخترعة، التي تثبت إمامته الفنية، والتي ربما كانت بسبب موقعه الزمني في عمر الشعر العربي، منها: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرهاً: العناب والحشف البالي قال ابن رشيق: «العمدة 1/290» في بيان هذا البيت:«وأصل التشبيه مع دخول الكاف وأمثالها، أو كان وما شاكلها، شيء بشيء في بيت واحد، الى ان صنع امرؤ القيس في صفة عقاب «وذكر البيت»، فشبه شيئين بشيئين في بيت واحد، واتبعه الشعراء في ذلك، فقال لبيد بن ربيعة: وجلا السيولُ عن الطلول كأنها زُبُر تُجدُ متونها أقلامُها فشبه الطلول بالزُّبُر، والسيولَ بالأقلام، بل زاد فشبه جلاء هذه عن هذه، بتجديد تلك لتلك». * لاحظ ان كلامهم في بيان الفضل الفني يركز على بنية البيت، وذلك أمر غل الكثيرين عن محاولة الابداع، وعوق طاقاتهم الفنية، لأن ثقافة البيت الواحد ثقافة استغنائية واحدية، لا تقيم للروح التعاونية أي وزن، يتجلى ذلك في الحياة العامة، وفي عالم القصيدة، ولاحظ ان الآخذ ليثبت حقه في الأخذ لابد أن يقوم بعمل فني يسوّغ له الأخذ، ويدفع عنه تهمة السرقة، قال ابن رشيق: إن لبيد زاد فشبه جلاء هذه بهذه.. إلخ. قلت: الذي يتبدى لي أن التشبيه في بيت لبيد تمثيلي، فهو يريد عقد المقارنة بين صورة جلاء السيول للطلول الدائرة وصورة جلاء الأقلام للزير التي أصابها أثر المحو، ولذا قال:«تجد متونها أفلامها»، ولم يقل: «أجدّت»، إذ الصورة ما تزل مستمرة قائمة، ومن هنا حكي عن بشار «العمدة/1/291» أنه قال: ما قر بي القرار منذ سمعت قول امرىء القيس: «كأن قلوب الطير رطباً ويابساً» حتى صنعت: كأن مُثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافَنا: ليل تهاوى كواكبه * ونحن نعلم جميعا انه ليس من باب تشبيه مفردين بمفردين، وإنما هو من باب تشبيه منظر بمنظر، أي أنه تشبيه تمثيل. * قال: من الاختراع قول طرفة: ولولا ثلاثٌ هنَّ من لذة الفتى وجَدِّك لم أحفِل متى قام عُوَّدي فمنهن سبقي العاذلات بشربة كُميت، متى ما تُعلَ بالماء تُزبد وكرّي إذا نادى المضاف، مُحنبا كَسيد الغضا، ذي الطخية المتورد وتقصيرُ يوم الدَّجنِ، والدّجنُ معجِب ببهكنة تحت الطراف المعمَّدِ