نعم إنها إنسانية المسؤولية والمنصب، وهي أقل ما يقال تفاعلاً مع جولة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني التفقدية لبعض الأحياء القديمة في مدينة الرياض. تلك الزيارة التي اطمأن فيها سموه على ساكنيها، وتفقد أحوالهم، واطلع على حاجاتهم، وشاهد على الواقع، وبدون وسيط أو طرف آخر، الحال الذي يعيشونه، والكيفية التي هم عليها، وتبادل معهم الحديث، واستمع إلى مطالبهم في أبوة حانية. عندما تستشعر المسؤولية عظم ما تحملته، وتدرك أنها مؤتمنة أمام الله عز وجل تجاه كل فرد يتعلق أمر نمائه بهذه المسؤولية، فإنها تزهد فيما يأتيها من أخبار هؤلاء، أو لا تكتفي به، فالسمع لا يشفي مثلما يفعل البصر، وحينئذ تفرض المسؤولية على صاحبها، أو يفرض عظم قدر الصاحب عليها، تجاوز الحدود، والانعتاق من الرسميات، وتحظي مساحة المكاتب، إلى الفضاء الأرحب، عندها توفر خطوات صاحب الحاجة، ويؤتى بدلاً من أن يأتي، وتقضى الحاجة لمن لا يستطيع أن يأتي، أو لمن لا يريد أن يفعل، ويبدو وكأنه لا يحتاج {تّعًرٌفٍهٍم بٌسٌيمّاهٍمً لا يّسًأّلٍونّ النّاسّ إلًحّافْا}. لقد ذرفت دموع الفاروق يوماً لثقل المسؤولية، وحمل الدقيق، وأوقد النار، ونفخها، وأركب القدر، وغرف للصغار، وأطعمهم، انطلاقاً من إيمانه بأن مسئوليته لن يحاسب عنها سواه. وها هو سمو ولي العهد، بالعهد الزاهر يقتدي، وها هو يشعر كما هو الآن بعظم المسؤولية، وما أؤتمن عليه، وها هو يجتهد في فعل الأسباب، ومحاولة إيجاد الحلول. نعم إن السير في الليالي المظلمة، والطرقات الضيقة، ومصافحة الصغار، والحنو على الكبار، والتعهد لهم بقضاء الحوائج، لهو أصدق دليل على إنسانية المسؤول، وصدقه مع ربه، ثم مع نفسه. في جولة كتلك لم يسجل سموه موقفاً دعائياً، ولم يسع لرسم صورة إعلامية، ولم يدعيه سموه فخراً، بل اعتبره واجباً، أملته عليه عقيدته، فهو كما رآه سمو ولي العهد، وازع إنساني مصدره الشرع المطهر. يمكن قراءة الصدق في زيارة سمو ولي العهد، بل ويمكن الجزم به، انطلاقاً من قراءة موضوعية، وتحليل لأبعاد تلك الزيارة.زيارة كتلك التي قام بها سمو ولي العهد، هي إقرار صريح، ودليل ثابت على وجود مشكلة. هذه الزيارة سلّطت الضوء على تلك الظاهرة، وفي ذلك تجاوز للاعتبارات السياسية، والإعلامية، وهذا هو الدليل الأكيد على صدق النوايا، وسلامة القصد في هذه الزيارة. لا أشك في ان الإحساس الصادق بعظم المسؤولية، وسلامة النية، هو ما دعا سموه لتجاوز تلك الاعتبارات، منطلقاً من الواجب الإسلامي الذي أملته الشريعة الخالدة، ومن المنهج السياسي السعودي الذي أرساه خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين، والمرتكز على الوضوح، والصراحة، وعدم المساومة على موقف، والصدق في معالجة الأمور التي تخص الوطن، والمواطن، والمتعلقة بأمنه، وحياته، ومعيشته، ورخائه. الأسلوب السياسي بشكل عام، يعتمد على مبدأ الاستثمار، القائم على توجيه الضوء الإعلامي، على الجانب المشرق، والمضيء، لتوضيح جوانب التطور، والازدهار، وكذلك إبراز حجم العمل، ومدى الإنجاز. وغالباً ما يتجاوز الضوء الإعلامي جوانب القصور، إلى إبراز المنجز، ورسم الكمال، ففي العمل السياسي تتم المراهنة على جودة السياسة الإعلامية، ويعتمد على الجانب الإعلامي في إبراز النتائج وإقناع الجمهور بكفاءتها، ولذلك فتسليط الضوء الإعلامي، غالباً ما يتركز على جوانب الجمال، مهملاً ما عداها، من الجوانب الأقل جمالاً، أو تلك الجوانب المنزوية، والمخالفة في صورتها، لترسم صورة مشرقة أمام المواطن في الداخل، ليقتنع بمثالية الوضع الذي ينعم به، وليرى من يقف هناك خارج الحدود، كفاءة النظام، وقدرته، وقوته. مثل هذه الحسابات لم تكن حاضرة في زيارة سمو ولي العهد، التي تعالت على مثل تلك المصالح، وتجاوزت تلك الحسابات، وارتقت على تلك الاعتبارات، وسلطت الضوء على تلك القضية بهدف معالجتها، ولقد جاءت رؤية سموه للحل مثالية، ومنطقية ، وقابلة للتطبيق. لقد حدد سموه أن تلك المشكلة لا تعالج بقرارات وقتية متأثرة بالموقف، ولا تعالجها الأماني، والنوايا الطيبة، والتطلعات المشروعة، ولكنها تحتاج إلى تفكير موضوعي، ومعالجة مدروسة، تتم في ضوء استراتيجية متكاملة، لا تتفرد الدولة بالقيام بها، ولكنها تساهم فيها، مع القادر من مواطني هذا البلد، وممن أنعم الله عليهم بالخير، ووفرة المال. ترتكز هذه الاستراتيجية، التي وعد بها سمو ولي العهد، في عمادها على مبدأ التكافل الاجتماعي، وهي المنهجية التي شرّعها الخالق جلت قدرته؛ لمعالجة هذا الأمر، وبالتالي فالالتفات إلى هذه النقطة، ومن هذا المنظور، يبين بعد النظر الذي يتحلى به سموه، والصدق، والرغبة الأكيدة، في معالجة هذا الأمر. لقد بدأ سموه حقاً تلك الاستراتيجية، وذلك بالاعتراف بتلك المشكلة، وتسليط الضوء عليها، وتحديد المرتركز الذي تنطلق منه، وهو المرتكز الرباني المتمثل في مبدأ التكافل الاجتماعي. كما أن رؤية سموه لهذا المبدأ، أخذت الجانب التنفيذي، وذلك من خلال دعوة سموه لأهل الخير، والقادرين على فعله، إلى المساهمة في هذا العمل الخيّر إن الاستراتيجية المرتقبة تعتمد في تكوينها على مظهر من مظاهر المجتمع المسلم، وهو مبدأ التكافل الاجتماعي، ولذلك فهي متناغمة مع روح العقيدة الإسلامية السمحة، ومنطلقة من التعاليم الربانية، التي تؤطر العمل الخيري، وتزرع روح التعاون، والتعايش السلمي، في المجتمع المسلم، ولذلك ففرص النجاح لهذا المشروع، تبدو مبشرة، وظاهرة للعيان، حيث إن آفاق النجاح لهذا العمل موجودة من قبل أن تبدأ، فالعمل الخيري القائم على التكافل، والهادف إلى التجارة مع الله، مسلك موجود في هذا البلد، نلمسه، ونعيشه في كل حين، بل وأصبح خصيصة من خصائص المجتمع، وعنصرا من عناصر تفرده، وتميزه. وفي الختام لابد من التنويه، بالنموذج العملي، والتطبيق المثالي، الذي رسمته تلك الزيارة، لكيفية تطبيق، المسؤولية، وتنفيذ متطلباتها، ومقتضياتها، من خلال التواجد المفاجئ غير المعلن عنه، للمواقع التي يتواجد فيها الناس، والتي تستدعي الحاجة التواجد فيها، وهو المنحى الذي انتهجه ولاة الأمر في هذا البلد، وحرصوا على تطبيقه، والقيام به، بأساليبه المختلفة، فمن المجالس الدورية، والأسبوعية، مع المواطنين، إلى استقبال كل ذي عوز، مروراً بإطلاق سراح المساجين، والمعسرين، وأصحاب الحق العام، وصولاً إلى تفقد الأسواق، والمواقع، والدخول مع الناس، وتلمّس حاجاتهم، والوصول إلى مواقع تجمعهم، مما يمكّن من الكشف عما لا تنقله التقارير، وتوصيات اللجان. ويبقى الأمل، أن يبقى مسلك سمو ولي العهد، نبراساً يحتذي به جميع أصحاب القرار، ومن أوكلت إليه المسؤولية، وإدراجه كمسلك يومي، يقوم على تناغم الإنسانية مع المسؤولية.