أأمدح الترك ابغي الفضل عندهم والشعر مازال عند الترك متروكا وكان المثقف يحمل همّا لا يستطيع البوح به في كثير من المناسبات، فالصراع السياسي المتقلب لم يترك للشاعر أو المفكر فرصة البوح بما عنده، فهو لايدري متى وأين يكون هو وبلده، أيكون مع هذا أو ذاك من الأقوياء المنتصرين، وقد يكون القوي اليوم هو الضعيف غداً، ومن يدري؟؟ هذه العوامل مجتمعة جعلت الأديب يعيش في عزلة من قومه ويتقوقع على نفسه فلا ينتج أدباً ذا قيمة فنية. وكيف يكون ذلك وبعضهم يسخر من الشعر الفصيح وأهله، ومن المثقفين - بصفة عامة - فالغلبة للعامية، بحكم سيادة الأمية، والمثقف هو الغريب بين أبناء جنسه، وقد صورها أبو البحر جعفر بن محمد الخطي، من شعراء الخط(القطيف): «لأفارقن الخط غير معول فيها على من ظن أو من جادا بلد تهين الأكرمين بلؤمها تضع الفحول وتكرم الأوغادا والحقائق واضحة لا تحتاج إلى دليل أو برهان، والأدب في تلك العصور المتتالية لا يحتاج إلى نقد، فما ظهر لايتعدى النصوص التقليدية المتهالكة، وهي نصوص لاتحتمل النقد، لسبب واحد، وهو خلوها من الإبداع، والنقد لايقوم إلا على إبداع كما ان ما ظهر لا يتعدى التصويبات اللغوية والتعديل في المكان، وشجب مايتنافى والعرف السائد والنقد في تلك العهود يأخذ صفة الهجاء، وذكر المثالب، أو التقريظ والمدح ومن المسلمات، ان النظرية تسبق التطبيق وان العلوم ظهرت كتلة واحدة، ثم نظِّرت فقعدت فيما بعد، وان النظرية العلمية قد اعتمدت على الفن وهذه مسلمات منذ زمن أفلاطون إلى اليوم، عندما عرف الأدب بأنه صورة أو مرآة للمجتمع، وان النقد عملية تقويمية لهذه الصورة، برؤية الناقد وقد تختلف هذه الرؤية مع ما يعنيه المبدع، لكنها في النهاية محصلة تجربة الناقد الفنية. وإذا أخذنا بعض النصوص على أنها تعبر عن عصرها، فسنجد أنها نصوص مكررة اللفظ والمعنى، ليس فيها من التجديد شيء، حتى اللفظ لم يجدد فيه، فهي لا تتعدى الأغراض التقليدية والعبث الفني فالتلاعب باللفظ هو غاية الشاعر والناثر والحرص على الغريب من الكلام البلاغي عنوان جودة الشعر، وغياب النقد الجاد والمجاملة والتقريظ سمة الإعجاب، مما جعل البعض يظن ان ذلك من جودة الشعر، ولم يفرق بين النظم والشعر، المهم ان يكون عروضياً ماهراً مجيداً للحفظ والاستظهار في وقت الحاجة، كالمساجلات الشعرية والنظم في العلوم والمعارف العامة. ومن المنظومات التي أثرت في الأدب - في ذلك الوقت - منظومة ابن مالك التي نظمها في تعليم طلابه النحو في أروقة الأزهر، ثم نقلها طلابه من بعده، وشاع ذكرها في دور العلم، في كل مكان في العالم العربي، ولم يكن ابن مالك هو الذي كتبها، بل كتبها طلابه من بعده، كما كتب طلاب العالم (دي سوسير) محاضراته من بعده ونشروها. ويكفينا مثال واحد على ألفية ابن مالك، فقد نظم على منوالها الشيخ، محمد سعيد بن عبدالعزيز العمير، ألفية بلغت سبعمائة بيت، قررها على طلابه، في الاحساء، ومع تحفظنا على مصطلح ألفية إلا ان بعض الدارسين سمّاها كذلك، يقول: «الحمد لله الذي قد منحا باب العطاء دائماً لمن نحا ملتبساً بخفضة ذا كسر معلق القلب بفعل الأمر» ان تقليد السابقين من الفنون التي يعتبرها المتلقي، والشاعر والكاتب، من الحصافة وسعة الاطلاع والسيطرة على العلوم والمعارف العامة والمملكة الشعرية، والقدرة على تطويع اللغة، كما يشاء لها الشاعر، وليس كما يشاء لها الفن والسليقة العربية، عفو الخاطر. وامتهن هذا اللون عند كثير من الدارسين والعارضين والنقاد والمعجبين (مع تحفظنا على كلمة نقد) فما يمكن ان يطلق عليه (نقد) يقوم على الذوق القيمي الخاص، والسطحية الفكرية، وللذوق ما له وما عليه، في ذلك الزمن الذي تردى فيه الذوق إلى درجة التندر والفكاهة السمجة، في الكثير من الأحيان فكثر التقريظ والإعجاب، القائم على رؤية منطلقها الفكاهة والاستحسان الشخصي، كرؤية ذاتية تقترب من شعر المناسبات، الذي يقوم على فكرة مسبقة، يجملها الشاعر بالمحسنات اللفظية وما يتناسب ومقام المناسبة وأغلبها يختص بالتهاني فالفكر قد انحط إلى الدرجات السفلى من الذوق، وجعل المتلقي يبحث عن الشعر الهازل، الذي يجد فيه التسلية والمتعة والنادرة وقد يظن البعض ان النقد الحديث الجاد يرفض المحسنات البديعية واللفظ الجميل، من جناس وطباق ومقابلة وتورية، مما يتفق مع المعنى بلا تكلف، بل العكس، هو مطلب من مطالب النقد الحديث ويعتبرها مكملة للمعنى ومجملة له، ويشترط في ذلك ان تكون في مكانها من القصيدة والجملة النثرية لكن ما حصل في تلك العصور كان مخالفا لذلك، فالتقليد كان المسيطر على العقل، والفكر الابداعي أكثر من الابتكار الفني، ولا يعني ذلك ان الشعر الجيد قد غاب عن الساحة الفنية تماما لكن الظروف التي ذكرنا كان شيء منها اقوى من إرادة الشعراء والكتاب، وسمة العصر المنحط هي السائدة وقد تساوى فيها الجيد والرديء ولو لم يجد الشاعر والناثر من يتقلى فنه -هذا- لما استمر فيه، ولو وجد النقد الجاد، القائم على النظرية العلمية، لتحسن حاله، والدليل على ذلك ما سنجده من النقد الأدبي الفني، الذي ظهر في العقود التالية، وكان له الدور الكبير في تقويم العملية الابداعية. وبما اننا ما نزال نعالج قضية التقليد، فلا يفوتنا ان نذكر شيئا من الفنون الجديدة التي ابتكرها الشعراء نظرا للفراغ الفني، مثل مسبعة الصفدي، وقد اعتبرت في زمانها من روائع الشعر وابتكارات المبدعين الافذاذ، الذين برعوا في فن الترصيع، كفن جديد لم يعرف من قبل، وتسابقوا في نظم المخمسات والمسبعات والمثمنات، وما إلى ذلك من اللعب باللغة الشعرية، حيث كانت القدرة على اللعب باللفظ اللغوي مقياس الجودة الشعرية.