عُرف عن العرب أنهم أهل البيان, وقد رسّخت هذه الفكرة اعتقاداً شائعاً أن البلاغة لديهم فطرة وسليقة دون دراسة وتمرين. ولكن النظر في كتب البلاغة يوضح أن الكيفية التي يتم بها إيصال المعنى بأقصى درجات الكمال الممكنة قد حظيت باهتمامهم. ويمكن القول إن ثمة ظروفاً وأحوالاً تتجاوز الموهبة الفطرية, وربما تؤثِّر فيها؛ وهنا يمكن الاستفادة من ملاحظات البلاغيين في اكتساب بلاغة الكلام ولياقة الحديث في كل زمان, فلا يشترط ربط ذلك بعصر دون آخر, كما يمكن الإفادة منها أيضاً في مجالات أخرى من الحياة اجتماعياً وتربوياً. وتجدر الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يُفهم من معنى البيان أن المتكلم في حال انتخاب دائم لأرقى الألفاظ, لقد أدركت العرب أن للكلام طبقات كما أنّ للناس طبقات, وتكلموا بالجزل والسخيف, وزادوا على ذلك بأن جعلوا السخيف في بعض المواضع أمتع من الجزل الفخم. والمحك هنا هو معرفة أقدار المعاني والموازنة بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة كلاماً ولكل حال مقاماً. فأصحاب الاختصاص مثلاً يميلون إلى استعمال ألفاظ مجالهم ويحنون إليها في تواصلهم مع بعضهم, لكن المهارة الأهم أن يُفهم العامة كلام الخاصة, فالعرب لا ترى المعنى يشرف بأن يكون من معاني الخاصة, ولا يتضع إذا كان من معاني العامة, والبليغ التام هو الذي يُفهم العامة معاني الخاصة. ولأن البلاغة أمر يمكن اكتسابه؛ فحسن الحديث أو بذاءته كاشف دقيق عن الإنسان, لقد قال الشاعر الحكيم زهير: ومن الأمور اللافتة للنظر - وربما يقل التنبه إليها - هو أن التأثر بالكلام القبيح البذيء أسرع من التأثر بالكلام الحسن وأعلق باللسان وآلف للسمع وأشد التحاماً بالقلب, ومجالسة الجهال والسخفاء والحمقى شهراً واحداً أكثر أثراً من مجالسة أهل البيان دهراً كاملاً, «والإنسان بالتعلّم والتكلّف وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء يجود لفظه ويحسن أدبه, وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخير». فهل يمكن أن نتخيل لغتنا إذا كان لدينا جيل يتأثر بأهل العلم والحكمة أكثر مما يتأثر بأصحاب الألفاظ المحدودة المكررة والمظاهر المزيّفة! ** **