يعمد كثيرٌ ممن وخطهم الشيب لإخفائه، ولو لعدة أيام، وليس لهم في ذلك سوى طريقتين، فإما القص وإما الخضاب. فمن الشعراء من يستخدم المقص، لكن ليس من أجل التخلص من الشيب فحسب؛ ولكن ليقتص منه، فهو يراه لصا سرق منه شبابه، واللص يستحق العقوبة. يقول ابن حكيم اللخمي: ليل الشباب انجاب أول وهلة عن صبح شيب لست عنه براضِ إن سرني يوما سواد خضابه فنصوله عن ساقه ببياض هلا اختفى فهو الذي سرق الصبا والقطع في السرقات أمر ماض فعليه ما اسطاع الظهور بلمتي وعليَّ أن ألقاهُ بالمقراض وملََّ أبو دلف من إخفاء الشعرات البيض بالقص، وكلَّ مقراضه أيضاً، فترك ذلك وقال: اشتعل الشيب فأخفيته وكلََّ مقراضي فأعفيته وكلما عالجت قصًّا له وقلت في نفسي: أخفيته طالعني من طرتي طالع كأنني بالأمس ربيته آروم ما ليس له حيلة أعياني الشيب فخليته كما ملََّ من متابعة قصِّهِ أبو فراس الحمداني فتركه، وقال: أمرت بقصه وكففت عنه وقرَّ على تحمله قراري وقلت: الشيب أهون ما ألاقي من الدنيا وأيسر ما أداري أما كشاجم فيقول مستظرفاً إنه رأى حين نظر في المرآة شعرتين بيضاوين فقص واحدة وترك الأخرى، لتبقى دليلاً على أنه لا يخضب شعره، وهو يعجب من نفسه كيف أقام المشيب دليلا على شبابه، فيقول: طربت إلى المرَاة فروعتنى طوالع شيبتين ألمَّتَا بي فأما شيبة ففزعت منها إلى المقراض عُجبا بالتصابي وأما شيبة فصفحت عنها لتشهد بالبرا من الخضاب فياعجبا لذلك من مشيب أقمت به الدليل على الشباب أما الشعراء الذين اختاروا الخضاب فأكثروا من وصفه وصفاً مستمداً من كراهيتهم للشيب، الذي اضطرهم للجوء إليه، ومعبراً عن جزعهم من حلول المشيب، مع تفننهم في تسويغ فعلهم هذا. لكن أحد الشعراء كان صريحاً في أنه لا يخضب إلا من أجل الغواني، فهو لا يريد أن تشمئز نفوسهن من شيبه، فقال: إن شيئاً صلاحه بخضابِ لعذابٌ موكلٌ بعذابِ فوحق الشباب لولا هوى البيض وأن تشمئز نفسُ الكعاب لأرحت الخدين من وضر الخِطْر وآذنت بانقضاء الشباب وابن المعتز يخضب شعره عقابا للشيب، فهو لا يجد أنتن منه، فيقول: فإن يكن المشيب طرا علينا وأودي بالبشاشة والشباب فاني لا أعذبه بشيء أشدَّ عليه من نتْنِ الخضابِ رأيت الشيب والحِنّا عذابا فسلطت العذاب على العذاب ووصف الشاعر يحيى بن حكم المعروف ب (الغزال) معاناته من سرعة زوال الخضاب، مما يضطره لمعاودته كل حين، فهو كالشمس في نهار فيه سحاب خفيف: ما الشيب عندي والخضاب لواصف إلا كشمس جللت بسحاب تخفى قليلا ثم يقشعها الصبا فيصير ما سترت به لذهاب واتخذ أحد الشعراء من لحيته الكثة المخضبة وسيلة للتكسب، فقد وفد هذا الشاعر على يزيد بن مزيد الشيباني، فلما التفت إليه فإذا هو ذو لحية عظيمة، وقد تلففت على صدره، وإذا هو خاضب، فقال: إنك من لحيتك في مؤونة. فقال: أجل ولذلك أقول: لها درهم للدهن في كل جمعة وآخر.. للحِنَّاء يبتدران ولولا نوالٌ من يزيد بن مزيد لصبّح في حافاتها الجَلَمان واتخذ بعض الشعراء من الخاضبين وسيلة للتندر والسخرية، لعدة أسباب منها ما يتعلق بشكل اللحية بعد الخضاب، وتغير لون الشعر تدريجياً فيبقى اللونان الأبيض والأسود يتصارعان؛ أحدهما يهاجم والآخر يقاوم للبقاء. ومنها ما يتعلق بهدف الخاضب من الخضاب، وغالباً ما يكون التصابي والظهور بمظهر الفتى؛ ولا سيما أمام الغانيات. لكن الخضاب لا يستطيع إخفاء مظاهر الضعف البدني ولا لون الجلد وتشققاته، مما يفضح الخاضب سريعاً. ومن أجمل ما قيل في وصف حال الأشيب مع الخضاب أبيات ابن الرومي التالية، التي يتساءل فيها ما جدوى الخضاب إذا كان لا يعيد للبشرة نضارتها ولا للشباب رونقه، فلم يبق إلا أن يكون حداداً على شرخ الشباب: رأيت خضاب المرء عند مشيبه حدادا على شرخ الشبيبة يلبسُ وإلا فما يغري امرءا بخضابه أيطمع أن يَخفى شباب مدلس؟ وكيف بأن يخفى المشيب لخاضب وكل ثلاث صبحه يتنفس وهبه يواري شيبه أين ماؤه؟ وأين أديم للشَّبيبة أملس؟ وفي كون الخضاب حداداً وحزناً يقول فتيان الشاغوري حين لجأ إلى الخضاب: سترت بياض شيبي بالخضابِ ولم أجنح بذاك إلى التصابي ولكني لبست به حدادا وذلك إذ حزنت على شبابي ويلحظ عقبة بن عامر عندما يخضب بالسواد أن البياض سرعان ما يبدأ بعد الخضاب في أصل الشعر، في حين يتأخر قليلاً فيما بقي، فيتمثل بقول الشاعر الذي يخفي سخريته وراء عبارته بأنه لا خير في صلاح الفرع ما دام الأصل قد فسد: نسود أعلاها وتأبى أصولها ولا خير في أعلى إذا فسد الأصل والإمام أبو محمد جعفر السراج الحنبلي صاحب كتاب (مصارع العشاق) يَعُدُّ هذا السلوك كذباً: ومُدَّعٍ شرخَ الشباب وقد عممه الشيب على وفرته يخضب بالوسمة عثنونه يكفيه أن يكذب في لحيته وقال ابن طباطبا لحبيبته إنه لجأ للخضاب ليستر الشيب عن عينيها، فردت عليه بأن هذا غش: قالت أراك خضبت الشيب قلت لها سترته عنك يا سمعي ويا بصري فاستضحكت ثم قالت من تعجبها تكاثر الغش حتى صار في الشَّعَر وخشية اتهامه بالغش امتنع الشاعر اليمني الدكتور محمد عبده غانم من خضب شعره المبيض، كما أوضح لمحاوِرته، فهو ما زال فتيَّ القلب، وإن غيَّر الشيب لون شعره. يقول: ولولا ازدرائي مذهب الغش في الورى لوارتْ مشيبي عنك صبغةُ خاضب ولكن أبتْ لي همةٌ ليس همُّها سوى العزة القعساء خطة كاذب فلا تحفلي بالشيب فالقلب عنده جميع الذي تبغينه من مآرب وينصح أبو العتاهية الخاضبين - نصيحة مشوبة بالسخرية - بأن يهتموا بما يسترهم من النار، فهو أولى من ستر شيبهم عن الخلق، فيقول: يا خاضب الشيب بالحناء تستره سل المليك له سترا من النار لن يرحل الشيب عن دار ألمَّ بها حتى يرحل عنها صاحب الدار ** **