بيدٍ مرتجفة أسندت يدها إلى ذلك العكاز الخشبي، وقد أثقلت سنواتها السبعون كاهلها ورمت بها في مفترق طرق الحياة، فتارة كانت تنقلها إلى حيث الأحزان وأخرى تنقلها تحت أجنحة الفرح، وهكذا مرَّت السنوات مسرعة حتى طرحتها في نهاية طريق الحياة الوعر المحفوف بالمخاوف. وضعت قدمها بحذر على عتبات الدرج .. التعب كان واضحاً على ملامحها، تمتمت قائلة: الله يصلح دينكم ودنياكم.. وصلت بعد عناء إلى صالة الانتظار، جلست بجانبي وأسندت العكاز بيننا، أخذت تتأمل وجوه المرضى ومرافقيهم وكأن الأسى يقطع قلبها ويزيد ألم عظامها وجعاً. لمحتُ في عينيها خيبة على تلك المراجعات الروتينية التي بالكاد تزيل أوجاعها لحظتها، وما أن تعود إلى بيتها تهاجمها الآلام مرة أخرى وكأن شيئاً لم يكن. لا أخفيكم، كل شيء في صالة الانتظار يدعو للشفقة، فوجوه المرضى المجعدة الباهتة وصوت سعالهم يثير ذلك الشعور لدي.. لمحت الخالة الممرضة الشابة قادمة نحو الممر، حينما اقتربت سألتها : يا بنتي هل هناك زحام على الطبيب؟ أجابت الممرضة اليافعة الجميلة والابتسامة ترتسم على شفتيها أرني ورقتك وابتسمت قائلة: الخالة «مريم» أجابت: نعم يابنتي أعادت الممرضة الورقة لا تقلقي رقمك بعد اثنين من المرضى. سألتها أين مرافقك؟ اجترت الخالة «مريم» أنفاسها وطأطأت رأسها وأجابت بصوت منخفض لديهم أعمال. كانت تلك الخالة لا تفتر عن التسبيح بأصابعها التي طغت عليها تجاعيد الزمن طوال فترة الانتظار. بعد برهة من الزمن نادت الممرضة «الخالة مريم»...»الخالة مريم». قامت إلى حيث غرفة الطبيب بخطوات متعثرة فقد كادت أن تسقط لولا أن أحد الجالسين أسندها بيديه. كانت تتمتم بغضب لفت انتباه الجالسين لكني فهمت أنها تعاتب ذلك العكاز. أطلقت العنان لفكري حول ذلك العكاز.. ماذا لو نطق ماذا تراه سيقول؟ أظنه سيحدثنا عن رائحة الحناء في يد تلك الجدة التي تعرف طريقها جيداً إلى أنفك، وعن تجاعيد يديها، وعن تلك الجدران التي ينام بين زواياها، وعن عطلة نهاية الأسبوع حيث اجتماع الأحفاد وركلاتهم التي ترمي به في أرجاء المكان، وعن إخفائها له بجانبها في ذلك السرير خوفاً عليه، فقد اعتادت على مرافقته لها. ماذا لو أخبرنا عن تقليبها موجات الراديو باحثة عن شيء يسليها ويملأ فراغها .. ماذا لو تمنى أن يكون ابنا باراً يقيل عثرات قدميها ويملأ أوقاتها بحديثه معها ويدخل السعادة إلى قلبها حينما يشاطرها لقمتها ويحكي لها حكاياته، ويجعلها تضحك كما لو كانت في صباها حينما كانت تمازحه صغيراً. «فالجدات روح الحياة «ليتهن لا يكبرن ولا يمرضن ولا يمتن.