وسط هذا المكان تتداعى الصور .. تتواثب المشاهد.. تنقلك إلى الأمس علّ الأمس وما أبقاه تعيد للزمن دورته ولعقارب الساعة انثناءتها.. هكذا تخيلت.. هكذا استوحيت من المكان وهكذا أوحشني المكان وأرقتني ذاكرتي.. حملني صوت قادم من البعيد.. من الأمس .. انسل من بين بقايا المناخ ومن جنباته. صوت تصحبه بحّة مزمار يجتر لوعته فتتهامى الأدمع فتتراقص صور الذكريات على أهداب العين وتغرد يمام الحزن باثة أوجاع اللوعة على أسطح المنازل. قال الصوت: لبسوا الكفافي ومشوا.. ما عرفت مينُ هنّ ما عاد راح يرجعوا يا قلب حاجة تعن لا حصان جايب حدا ولا سرج عم ب....يرن *** راحوا ولبسوا العثم قامات مهيوبي ناديت بالله ارجعوا ما تلفتوا صوبي يا بدر ضوي السماء كرمال محبوبي رد العباية القصب ع الكتف محبوبي والعين قوس القدح وسيوف مسحوبي .. هنا المناخ .. والمناخ خال إلا من أنفاس أمس .. لا وجوه في فضاء المكان.. لا خطى على دروبه.. لا أصوات تقطع صمت المكان.. كل شيء ذهب في طريقه.. لم يعد للركبان صوت.. ولا للنجر نداء.. كل مضى إلى حال سبيله .. لم تعد إلا الوحشة تسكن أطراف هذه الباحة. الصدى يطل عليك من ثنايا الطين.. ومن على عتباتها تشاهد بقايا حلم مرنا.. عشناه ..ألفناه.. كان ذاكرتي لا طل على عتبات الأيام بأعين تصافح رذاذ المطر وتطالع عناق الرمل والآهة تطارح أنفاسي. من الأمس صدى يجيء ليحدثني .. يذكرني بوجوه غادرت هذا المكان وقامات اعتادت أن تستظل بنخلينا حين يزرونا «آب .. اللهاب» .. أين هم؟؟ قد غادرونا .. رحلوا. يقول بدر: أشوف طلة خاطري من غيابه واجول بأطلال القرى كيف ما طاب من قفرها مريت بلحظة كآبة كن الزمن صامت وواقف على الباب احس بالساحات كل الغرابة حتى المناخة قالت الربع غيّاب .. بقي المناخ .. المكان وان ذهبت كل الأشياء .. حين تخطو على ترابه تشعر بالراحة .. بالدفء.. الأنس وحجنان يحضنك بين أكفة. .. بقي أثر .. خيمة تحمي بظلها جباهنا عن وهج صيف.. قوافل استراحت هنا. ووجوه ألفت الحضور هنا. وقرى ألفت هذا الحضور ومناخ قريتنا قلب اتسع للمزيد. .. من «ربعة الخميس» أو «ربعة الهذلول» اشراقة تطل منها على فضاءات الأمس واشراقاته.. تستعيد صور ما مر بهذا المكان ومن أناخ رحاله هنا .. يتراءى لك الزمن الذي طويت صحائفه وصور لم تعد ترى ولم يعد لها ذاك الحضور.. فقط أنفاس استرحت وسط المناخ.. مكان ضم وجوه وفارقته تلك الوجوه. هجر المكان ..بقي المكان.. لا مواعيد هنا. للأمس أثر ولكنه بلا حضور.. وللأنفاس فضاءها من غير حضور.. وجوه غابت وصمت الليل يغرس في الآذان صوت الذين كانوا هنا والظلام تضيئه قناديل الانتظار والرجاء.. مضى الملاحون والخطار في كل الاتجاهات ولم يتروا إلا ذكرى لعيون شاهدتهم حين أظعنوا فأبكاها الرحيل وأوجعها توحد المناخ في مكانه مسامرا قلعة الصعيدي علّ قافلة ملح تدنو .. أو قافلة عابرة باتجاه حوران أو سهول البقاء.. عن بادية أهاظ حنينهم للمفالي لاعج برق فأرادوا أن يكتالوا ملح أو خصفة تمر يقتاتونها في مرابعهم.. هنا جادة المسجد. كانت أقدامهم تعرف مواطنها وهي متجهة صوب المسجد كل فجر ..بل كل فرض. وهناك ملتقاهم المسائي في مواسم الصيف على تلك الرملة البيضاء النقية مثلهم. في مسامراتهم الليلية.وأنت تخطو بين أزقة القرى تتجسد أمامك شتى صور التآلف واللحمة. فالبيوت تكاد تكون متلاصقة مثلما كانت علاقتهم ببعض.. مثلما كان الرابط الاجتماعي بينهم أكثر توثقا وصلة. هم كل في واحد وواحد في مجموع. وفرح لا يجزأ وأحوال معيشية واحدة لا تباين أو تفاوت إلا بمقدار نسبي يكاد لا يذكر. يقول الأستاذ: إبراهيم حيرم: واصفاً واقع تلك القرى: في سفح ذاك السامق المتربع عبر الدهور برأسه المتطلع قد كان بالأمس القريب مجلجلا بصلاتهم وحدائهم والمرتع لم يبق إلا ساكنوا ارماسهم في قاعة نالوا وثير المضجع ويظل يذكر للسحائب عيدهم يسقيهم منها سيول الأدمع عشنا بها كاف سنين تسطرت نغفوا ونصحوا في الهدوء المبدع عشنا بها نحيي تراث جدودنا و «النجر» يشكو عازفيه ويدعي كان «الصعيدي» مثل مرآة لنا يروي صدى انشاء أبناء معي يا كاف والكثبان فيك تجمعت عفوا وفي عهد لنا لم تجمع اطلالك استرخت لهجر أحبة احداقك اجمدت لهول تفزع في كل جمعة الجمع تراصصوا في الجامع التحتي بكل تخشع ولنا بعيد العصر جلسة اخوة مستأنسين بساسها والمربع ان انس لن انسى «مطوخ سباخها» لمعت مجامع ملحها المتنصع تأتي القوافل كي تقايض ملحنا قمحا نقيا «اصوعا بالأصوع» قالوا لي ابن البيت بين بيوتنا ما انت إلا من كرام الافرع وتعمر البيت الجديد بحيهم وبحبهم شادته كل الاذرع درجوا على حب التعاون دأبهم حتى أتاهم أمر ربي المقنع يا كاف ماذا بعد ردي انني أرهفت من شوقي اليك مسمعي .. قد صور الأستاذ ابراهيم هذا المجتمع وحاكى تلك الصور بمختصر شعري جسد تلكم الحال المعاشة في قريات الملح. بين تعاون وألفة ومحبة صادقة وأريحية وجود ويوميات عمل توفر لهم متطلبات حياتهم اليومية. .. من هذه الأرض استنشقنا رائحة الملح المتبل برائحة الثرى والانسان. المغسول بعرق ابن تربتنا.. مضيء على خد صحرائنا.. خليط من بياضة وخضرة شعاب تراقصت طرباً لرذاذ المطر. .. قرى الملح نثرت في فضاء الشمال أناشيد للزمن وأصوات للذاكرة.. نقشت على أكف العطاء حروف عشق وتدلت قلائد زينت جِيد أبنائها وألبست أجساد تعبة دفء أنفاسها حين عانق تلك الأجساد زمهرير الشتاء. .. هنا.. في كل القرى تحدثك الأطلال عن خريف القرى.. عن الأرض التي تشابكت على صدرها أنفاس المفوزين صوب الشمال وخطى الباحثين عن «مد» ملح أو «خصفة» تمر. .. بين البيوت المتلاصقة كأنفاس أهلها ترى إرثهم الذي تركوه.. هنا بقايا مئذنة المسجد الطيني وجوارها أول مدرسة ابتدائية جوار منزل «أبو حمزة» وبالقرب منها بوابة كاف حيث تغلق بعيد صلاة المغرب «بوابة لم تبق لها معالم» وفي الجنوب منها حيث «حوط» النخيل حيث تتسقى من «القروطي» أو «القف» وهذه مسميات آبار قديمة وعلى بقايا أحد الآبار تقف «المدينة» وهي نخلة كريمة تعطي إلى اليوم من تمرها الطيب اللذيذ كما هو صاحبها غفر الله له «أبو حمزة» وهنا موقع« قليب فضية» وبقايا من ناعورتها وعلى بعد خطى منها «السريب» الذي تطل عليه «مرابط الخيل» سمت في علو. تربعت في فضاء الحوطة مباهيه بشموخها معتزة بماضيها وأخُر يتراقصن تتمايل ذوائبهن ذات اليمين وذات الشمال. صامدات في وجه خريف القرى يزرعن في القلب متسع لفرح قد يأتي. يحاكن اليوم بشجن أورثه لهن هذا الرحيل. «مارتينة» و «حمر كاف» و «بزّع اثرة» و «صفر العليان» و «الصور» ومسميات لنوعيات مختلفة من نخيل قرانا بقيت في تحد مع الأيام. في تحد لنا قائلات« نحن هنا نجسد لكم إرث آبائكم» فهل أنتم قادرون على حفظ إرثكم والمحافظة علينا؟؟؟ بقيت أمام تساؤلاتهن حائراً هل أملك اجابة فعلا؟؟.. أم أصمت مع الصامتين!!. والصمت يعني الرضا!! يقول بدر فندي: دفيت يا عرف الندى جذع النخل وإلا الغبار وإلا بقايا قريتي وهناك منثور الرحيل دخلتها بعد الزمن ما مر فيها واستثار أجمل مواقع دافية ما كنها شمس تميل هناك والشارع غفا وهناك لو مال الجدار شيخوخته صار الرمل مذراة بالوقت الطويل والجذع كنه لابس حلة ظمأ لونه سمار حلة هرم بعد الحيا يقول ما حولي نزيل هذه النخيل قد أشبعت وأعاشت فأي عقوق نمارسه مع عمتنا؟؟ الروايات .. هنا جادتنا إلى «مروى» الماء.. إلى النجر حيث الروّايات يحملن «المرواة» كل عصر ينقلن الماء على رؤوسهن بطيب خاطر.. لكن المروّى مفجوع من فراغ الطريق إليه من هجر الروّايات له. وهذه المياه الكبريتية ذات الرائحة النفاذة والمعروفة بفوائدها للأمراض الجلدية. .. في كل ركن من هذه القرى تركت لنا الأيام ما يستثير العاطفة. بيوت بنيت ب «العونة» وتلك الأصوات الشجية وهم يلتقون على خلطة طين وحدائهم يثير الحماس. .. أربعة شالوا جمل والجمل ما شالهم .. الخ .. تسألك إلى أي وجهة تريد؟؟ أتريد الذهاب إلى القرقر أم إلى أم عياش أو إلى منوة أم أنك ترغب الذهاب إلى عين العيسى «عين الحواسي» أم إلى قرية اثرة حيث التاريخ والآثار في قصر المذهن أو سفح رضوى أو بين سواقيها «الاسراب».. أم تريد العودة إلى مسقط رأسك كاف حيث الصعيدي وأطلال قصر خزام وأساسات قصر غذام أم بقايا قصر الضبع ومطوخ الملح؟؟؟ أم تريد أن تعرج على كراج الامارة ومبنى المالية والبرقية.. أم تريد أن تشم رائحة الخبز في فرن كان أول مخبز في القرية.. أم تريد أن تعيد ذكرياتك في مبنى مدرستكم حيث صدقي وإسماعيل وإبراهيم أبو خيشة وإبراهيم الحسيناوي وغيرهم.. كي تقرأ حروف الهجاء إنها مغلقة.. .. لن تفرحك الصور فما بقي فيها إلا ما يوقظ الهم في جنانك. إنه خريف قرى ينسج لك ألف حكاية وحكاية ويرسم لك ألف صورة.. ذكريات بقيت في نفس القرى توقظ الأيام من سباتها وتُنطق أساساتها. .. هنا بيت عنكبوت خطيته بدقة كي تحجر على أوراق مخطوطة تقادمت عليها الأيام واعتلاها الغبار .. هي تاريخ القرى وباب خشبي وقف وحيداً يقاوم الريح.. يقاوم الأيام. قد كان بالأمس يتنفس والأمس مضى.. وجدار طيني شاهد ولاباب اثبات للذي كان.. بيت قديم وقرية تغفو وتُنسى وتنسى أمسها والحال مضى في كل القرى. تقول فدوى طوقان: من قصيدتها «حطام» وقفت وقلت للعينين قفا نبك على أطلال من رحلوا وفاتوها. تنادي من بناها الدار.. وتنعي من بناها الدار.. وان القلب منسحقا وقال القلب ما فعلت بك الأيام يا دار؟؟ وأين القاطنون هنا؟؟ وهل جاءك بعد النأي.. هل جاءتك أخبار؟؟؟ هنا كانوا.. هنا حلموا .. هنا رسموا مشاريع الغد الآتي.. فأين الحلم والآتي وأين هموا؟؟ ولم ينطق حطام الدار ولم ينطق سوى غيابهم. وقفت على بعد خطى من عتبات الدار ..رأيته واقف.. ضم حرارة الوداع بكلتا يديه.. على نبضة.. طاول الأفق أرخى لعاطفته عنانها كي تنثر عبرتها على رملة ما اشتهت منه إلا هذه العبرة ولا شهدت منه إلا خطوة جريحة وأنفاساً أتعبها هذا الأرق. أفلت طيوره إلى بيد عشقها .. ألحقها بكف يهتز يمنة ويسرة وكأنها هاجرت عن وكن الفتة. أشعرها بأنها لم تعد تشكل في حايته تلك الغيمة التي تقي هامته. ظلت أقدامه ملتصقة بالأرض وجسد تحدى الريح والنظرات التي ترمقة من كل صوب والأسئلة التي تمطر ذاكرته.. تتجرد من براءتها والوجوه يحول الظلام بينها وبين قدرته على الرؤيا.. قدرته على الكلام.. مقدرته على العتاب.. رأى فاستدار صوب القرى.. صوب التلال فانثنى جريح الفؤاد .. يحضن رملاً فينشد. .. مساء أتينا نلملم عشقاً وذكريات تركناها يرف الجنان بحر شوق ودمع أسال تلك الروابي اذا عانق الدمع أرضاً يكون الحنين إلى كل درب مشته الصبايا .. خطته المطايا.. نمر الديار بخطو حزين .. أراها .. أقرأ حرف الهجاء.. مات النخيل من كثرة الماء.. هكذا قالوا.. هكذا علمونا.. لقنونا. .. هنا ذكريات بعمر النخيل وأنس الأصيل.. نشتهيها كلما غرد على العسب يمام.. كلما رق هذا الهبوب.. تحن الضلوع.. تشتاقنا تلك النجوع فننشد لتلك القرى. .. سلام عليك دياري .. كلما قبلتك هذي الرياح أو عندما يضحك الصبح ويرف جناح. هنا يفرض الصبح لتلك الربوع ندى وغمام تشتهية لتلك النجوع وعطر النفل وعشق الديدحان وأنفاس الربيع. .. هنا ذكريات سطروها.. قد كتب الصبح على جريد النخيل أحلى حكاية.. طرزوها وتركوا الرتاج على مصراعيه .. يودع. قد شربنا الماء مرا فمضينا عاتبتنا لفوح الأمس بكلتا يديه وصمت يكتبنا في لوحة الباكين.. مروا فما استراحوا.. جاءوا فما استبشرت بهم.. وقالوا.. ذكريات لنا تركناها عند حدود الحدود.. فمن يطرق الأبواب؟؟ ومن يكتب الوثيقة؟؟؟ ثم أين الشهود.. الشهود؟؟