قام د.سليمان محمد المالك بدراسة لكبار موظفي الدولة وكبار رجال الأعمال بالمملكة، فانتهت دراسته إلى أن كبار موظفي الدولة من حيث درجة الرضا والالتزام الوظيفي ودرجة السلطة والقوة في اتخاذ القرارات الإدارية ودرجة الاستعداد للمخاطرة يسلكون في ممارستهم لمسؤولياتهم درجة عالية من التحفظ والشمولية وغموض الدور والتقيد بالروتين الإداري. وذلك ما أكدته نتائج الاستبانة لدراسة قمنا بها عن البيروقراطية في المملكة العربية السعودية، إذ عبر 53% من المستجوبين أنهم يتصرفون في سلوكهم الإداري حسب اللوائح والتعليمات تصرفاً حرفياً. أما من حيث صناعة القرارات الاستراتيجية لكبار موظفي الدولة التي قام بها المالك، فإنها تتصف بالأسلوب البيروقراطي المطول Burcaucratic الذي يبني القرار على عدة لجان ودراسات مطولة. فالبيروقراطية كتنظيم متدرج ومتخصص وراشد هي أمر مطلوب، فعلماء الإدارة وخبراؤها يحرصون على أهمية تنظيم السلوك الإداري في المؤسسات ذات الحجم الكبير، لتدور «عجلة» العمل الإداري اليومي وفق أسس وعمليات محددة لتحقيق أهداف معينة، وذلك ما يقصد به تقنين إجراءات العمل للحد من اجتهادات الموظفين التي قد تؤدي إلى أخطاء إدارية، ربما تكون فادحة أحياناً حين تكون عشوائية أو مرتجلة. إلا أن المالك يرى أن البيروقراطية السعودية طبقت من هذه المبادئ ما يتوافق مع هوى الموظف في الأجهزة البيروقراطية، حتى أصبح التطبيق الحرفي للنظام أهمّ من الغاية والمقاصد العامة، مما زاد من الجمود والرتابة وتعطيل مصالح الناس، حتى ترسخ المفهوم غير المستحب عن البيروقراطية التي غدت في المملكة لفظاً شائعاً يخفي النقمة والإدانة. وقد أكد المالك كذلك أن المشاركين في البحث اعترفوا أن هذه الظاهرة تؤثر سلبيا على سير القطاع الحكومي. وتعوق إمكانية الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة والإفادة منها، كما تمنى المشاركون في البحث تطوير أساليب الإدارة العامة في الدولة، من خلال تبسيط الإجراءات والمتطلبات، واختصار صياغة القرارات وتطبيق الصلاحيات والمسؤوليات، وتطوير طرق الاتصال، وتحسين مستوى الرضا، والالتزام الوظيفي مما يؤدي بالحصيلة إلى مضاعفة إنتاجية الموظف الحكومي وتيسير الحصول على الخدمات. ولم يستطع المديرون وخبراء الإدارة في المجتمع السعودي منع تحول البيروقراطية إلى أن تكون عقبة كأداء تعرقل مسار الأداء الإداري. إنها تنفر المواطن من التعامل مع الجهاز الرسمي، وتعطل نمو المشاريع الوطنية أو الخاصة، فأحجم كثير من المواطنين عن طلب الخدمة خوفاً من غول البيروقراطية وهروبا من الروتين الممل والمعطل للفائدة المتوخاة من طلب الخدمة. فالقضايا التي هي تحت معالجة البيروقراطية «تتطلب» شهوراً أو سنين أحيانا، وتظل معلقة نظرا للبطء الشديد في معالجتها وهذه ظاهرة تلمس أكثر من الدوائر الحكومية ذات المساس بمصالح الناس وذلك لغموض الأنظمة وكثرتها وتناقضها، وهي سمة من سمات الروتين في الإدارة السعودية. وعندما يتبين لنا أن كل مادة من النظام يترتب عليها عبء إداري وتكاليف مادية في تطبيقها ومتابعتها، ندرك مدى مضار ومشكلات كثرة الأنظمة وكثرة التعاميم وتتابعها، مما يجعل ذاكرة الموظف عاجزة عن متابعتها وفرزها ثم استدعائها بين حين وآخر. وقد تحرضه في أن يختار من بينها ما يرغب في أدائه. وهو يفعله عطاء أو حرمانا مبررا ذلك بتنفيذ النظام. مما مكن البيروقراطية شططاً أحياناً في تأويل النظام وتفسير من يستحق حقوقاً إدارية ومن لا يستحق. حيث تظل الأنظمة والتعاميم عرضة للتناقض والتناسي بما يفتحه باب التأويل الشخصي والتوظيف الانتهازي لها. لقد أصبح الموظف السعودي بحكم الاختصاص والخبرة يتمتع بهامش واسع من حرية التأويل والتطبيق المتأتيين من الغموض الإداري وغياب المرجعية النظامية الدقيقة، وهذه الأنماط البيروقراطية السلبية تتكرر في كل مدن المملكة، إلا أنها تتكثف أكثر في مناطق معينة، وقد يعزى ذلك إلى موروث بيروقراطي يعود إلى ما قبل الحكم السعودي متجذر بها. التعليم وحراك البيروقراطية السعودية يذكر مورو بيرجر أن الشعور نحو خدمة الحكومة في الدول المتقدمة يتناقض مع ما هو سائد في الدول الفقيرة، وكشأن دلائل السلطة الأخرى فإن الإدارة الوظيفية الحكومية تثير الرهبة والاحترام والمعارضة أحياناً حتى السخرية في مزيج يتوقف على التقاليد القومية وطبيعة النظام السياسي، والفرص الموجودة، ونوع الخدمة الحكومية التي تقدمها الدولة. إن الموظف الحكومي في المملكة العربية السعودية يتمتع بالمكانة العالية والهيبة والجاه، لأن عامة المواطنين يرونه «وكيلا للسلطة»، التي وحدها تمنع المواطنين من القيام بأفعال وتبيح لهم أفعالاً أخرى، فالدولة هي المصدر الأعلى للسلطة، ويرتبط النفوذ السياسي والاقتصادي بدوائر الحكومة وحزامها. وبالتالي فإن الموظف الحكومي الذي له نصيبه من الهيبة والجاه والتقدير والاحترام بإمكانه تبعا لذلك تحقيق بعض المصالح الخاصة بقدر موضعه في الهرم الإداري الحكومي. وقد تأكد لنا استناداً إلى نتائج الاستبانة التي قمنا بها سابقة الذكر مع المستجوبين أن 85% منهم يلتحقون بالوظيفة الحكومية من أجل الوجاهة الاجتماعية كدافع محرض على الالتحاق بالوظيفة الحكومية، ولا يعني ذلك إنكار أهمية الأمان الاقتصادي.. ولعل ذلك من الأسباب القوية لجذب عدد كبير من النخبة المتعلمة للوظائف الحكومية، وهي التي أثارت حراكاً اجتماعياً واقتصادياً للبيروقراطية ذاتها. وقد يكون «الأمان الوظيفي» من بعض أهداف مخرجات التعليم وبصورة أكبر لأصحاب المؤهلات العليا لكون أجهزة الدولة تضمن لهم دخلاً ثابتاً، فتصبح الوظيفة العامة هي الطريقة الوحيدة للمكانة الاجتماعية والمركز المتميزين، بالإضافة إلى الأمان الوظيفي هذا. وكنتيجة حتمية لبلد لا يستوعب خريجي تعليمه إلا من خلال ما توفره الدولة من وظائف، تصبح البطالة ظاهرة متفشية بين المتعلمين، أو على الأقل بين أصحاب المؤهلات الجامعية، إذ أن مشكلة التعليم النظامي كثرة خريجيه عاماً بعد عام، مع التناسب العكسي لما تستطيع أن توفره الدولة من الوظائف كل سنة، ولقد استفحلت هذه الظاهرة في العقد الأخير مع ما رافقها من ظواهر أخرى والتي عادة ما تصاحب البطالة، علما أن التورم الوظيفي خلق بطالة مقنعة، عمقت معضلة الإدارة لما تفرزه من قيم سلبية تؤدي عادة إلى التسيب الإداري والاتكالية والاستهانة بالوظيفة الحكومية. فالمملكة وخلال فترة الثمانينات ابتعثت للخارج وبالذات بريطانيا وأمريكا الشمالية أعداداً كبيرة من الطلاب، بحيث بلغ عدد المبتعثين في الولاياتالمتحدةالأمريكية بصفة دائمة 15 ألف دارس كان أكثرهم من مستوى دراسات جامعية فما فوق وجميع مخرجات البعثات التكنوقراطية لا يحسن توظيفها لخدمة التنمية فتتحول إلى بيروقراطيين بالمعنى السلبي للكلمة. إن المفارقة الكبيرة التي قد يعرفها الكثيرون من النخبة الإدارية. هي أن معظم العاملين في البيروقراطية السعودية، مؤهلون جامعيون وتلقوا تعليمهم ما فوق الجامعي، بما فيهم معظم خريجي كليات الشريعة، في بلدان رائدة في التنظيم والمهارة والإنجاز وكفاءة الأداء وحب العمل. وحتى الذين لم يتأهلوا هناك سواء عن طريق الدراسة الأكاديمية أو التدريب. فهم قد قضوا إجازاتهم هناك. ويفترض فيهم أو هكذا يجب أن يكونوا في سلوكهم وتصرفاتهم، في مهامهم الوظيفية محاكاة لمن اختلطوا بهم، وقعدوا على كراسي الدراسة بينهم، ويفترض كذلك أن يكونوا قدوة لزملائهم الذين لم تساعدهم حظوظهم أن يبتعثوا مثلهم. ولكنهم حين عودتهم للوطن يرتدون إلى سابق ممارساتهم القديمة. ويتمثلون قدواتهم في المحسوبية والواسطة واللامبالاة والخروج أثناء العمل أو البقاء في المكتب دون إنجاز. إنني أجزم أن كبار السن من الموظفين القدامى الذين لم يتحصلوا على شهادات دراسية كان إنجازهم في زمنهم وخدمتهم لناسهم وقضاء حوائج مواطنيهم أكثر بكثير من البيروقراطيين الجامعيين الشباب. وهذه ظاهرة تولد اليأس والقنوط من التعليم غير القادر بالنهوض بالوطن في عصر العولمة والعالمية وكثرة تتابع المبتكرات والتجديد. وقد ساعد على تفاقم هذه البطالة المقنعة ظاهرة كثرة الدواوين الحكومية ذات المهام المتشابهة والمزدوجة، إذ يوجد بالمملكة أكثر من جهة حكومية تخدم نفس الغرض، وتؤدي نفس الوظائف والمهام. وقد أوجدت هذه ظاهرة قيام الواسطة بدلا من أن تكون الكفاءة هي المقياس في التوظيف والارتقاء وذلك ما عمق المحسوبية، رغم نصوص الأنظمة والمتابعة الدقيقة من قبل القيادة القاضية بأن المواطن السعودي يحصل على المناصب بفضل مؤهلاته وقدراته الشخصية التي تتمثل في التعليم والشهادات أو مهاراته المهنية، إلا أن النجاح الوظيفي يشترط للأسف الاحتماء بغير هذا. إن بعض الموظفين في البيروقراطية هم على عداء مستحكم مع المعايير الموضوعية، كما أنهم يتعمدون غياب الأهداف المحددة لتوسيع الهامش من الحرية وتوظيفه كيفما اتفق مع مصلحتهم الشخصية خصوصا وأن المفاهيم الرقابية لم تأخذ في حسبانها تكريس الوازع الديني وقيم الوطنية ولم تعول على القيم الأخلاقية والاجتماعية، وذلك ما جعل الروتين الإداري يستشري دون إحساس بالذنب، فكأن الإدارة معزولة عن الخلق والضمير. إن خبراء الأنظمة الرقابية عادة ما يكونون من غير السعوديين حين إعدادها وافترضوا حين وضعهم للأنظمة سوء النية بالموظف مسبقا، فتفننوا في سن تعقيدات الروتين البيروقراطي وذلك ما دفع الموظفين ذوا المهارات والبراعات والحيل الإدارية إلى مزيد استنباط طرق التجاوز وغدت الإدارة مضماراً للتسابق بين الرقابة من جهة والتجاوز من جهة ثانية. فالاجراءات الرقابية والإدارية والسلوكية والمالية على وجه الخصوص أثبتت أنها عاجزة عن الردع. مراحل الخدمة المدنية: «الوظيفة العمومية» واستكمالا للموضوع وإفادة القارئ الكريم استحسنت أن أختم حديثي عن البيروقراطية بالتمهيد التاريخي لأهم مراحل نشأة الإدارة بالمملكة وتطورها، والتي يمكن لنا اقتضابها في المراحل الآتية: المرحلة الأولى: هي التي تمتد من عام 1319ه «الموافق لدخول الملك عبدالعزيز الرياض ومبايعته ملكا» إلى عام 1343ه وهي مرحلة إعلان الدولة واستكمال تكوّنها السياسي. لم تكن بها إدارة بالمعنى الحديث للكلمة، وكان التكليف يتم على شكل مهمات، أو لا توجد مسميات وظيفية ما عدا «القاضي، الأمير، المطوع، المؤذن، الخراص»(1). ولم يكن الأمر محددا برواتب شهرية نقدية بل ترك للاجتهاد، ويتخذ عادة شكلا عينيا كالغنم والإبل، وكان ينعت هؤلاء «المكلفين» بالخدّام. ورغم بساطتهم إلا أن مهامهم كانت كبيرة وإنجازهم كان أكبر. فلم توجد جيوش من الموظفين ولم تكن هناك وسائل وطرق حديثة. وكان بعض أمراء المدن ورجال المهمات يرجعون وهم مديونون. فلم يكن جمع الثروة همهم ولا التسلط عشقهم. وكان الإمام المؤسس ومستشاروه يحسنون اختيار الرجال الذين لا يتولون أعمالهم عن طريق المسابقات أو الشهادات. المرحلة الثانية: من عام 1343ه إلى عام 1347ه: وهي مرحلة بداية الاستقرار وإصدار الأنظمة العليا وما صاحبها من قوانين وتعليمات وضعت نواة التنظيم الإداري للمملكة. وقد ابتدأ الملك عبدالعزيز بمنطقة الحجاز نظرا لوجود نواة تقاليد وإرث إداري عثماني، وقد بدأت هذه النواة تتسع تدريجيا وانتقلت إدارة المملكة من التعددية الإقليمية الى المركزية، حيث صدرت أولى القوانين المتعلقة بالدوائر «الإدارية» والتسلسل، وشروط الوظيفة والمجالس البلدية عام 1345ه وتم عام 1347ه تأسيس إدارة بوزارة المالية تعنى بسجلات الموظفين. المرحلة الثالثة: من عام 1347ه الى عام 1390ه: وهي مرحلة عرفت اعتناء خاصا بالمركزية الوظيفية التي بعثت، والتي أصبحت تسمى سنة 1378ه ديوان الموظفين العام، وهذه المرحلة هي الأكثر حضوراً في التشريعات الحالية للخدمة المدنية لأنها شهدت جهداً جباراً للتشريعات الدقيقة. المرحلة الرابعة: من عام 1391ه الى غاية التاريخ «1420ه»، وهي المرحلة الحالية التي شهدت هيكلة ديوان الموظفين العام تم تعديل اسمه الى الديوان العام للخدمة المدنية عام 1397ه دون أن ننسى التشريعات العديدة المتعلقة بالتوظيف غير أن الأهم من ذلك هو أن بداية هذه المرحلة قد شهدت ولادة البيروقراطية السعودية، وذلك للأسباب التالية: انطلاق برامج ابتعاث الموظفين الى الخارج. تزامن بداية هذه الحقبة مع الخطة الخماسية الإنمائية الأولى. تزامن هذه الحقبة مع السيولة النفطية والمالية بداية السبعينات الميلادية إحداث المراتب العليا للإدارة. ولا نبالغ حين نقول إن بداية هذه الحقبة هي التي ستتحكم في البيروقراطية عملاً وسلوكاً، وهي قد عرفت التورّم الوظيفي وارتفاع الأجور. إن الجهاز البيروقراطي بصفته آلة الدولة في تسيير الخدمات والتحكم فيها قد أعطى الرئيس والتابع على السواء حق المنع والمنح والهبة حتى أصبحت البيروقراطية أفعى متعددة الرؤوس. إن المعالجة التي تقوم بها النخبة البيروقراطية للقضايا المطروحة لا تكون حلولاً جذرية تستأصل المشكلة من جذورها «Uproots» بل هي حلول مؤقتة «حبوب مسكنة» تستديم أحياناً المشكلات. هذا وما توفيقي إلا بالله. (1) الخراص: تفيد في المجتمع السعودي: المختص في تقييم المحاصيل الزراعية من أجل الزكاة .. ولها نفس المعنى في جذر الكلمة لغوياً في معاجم اللغة العربية.