ليست كل النجومية كاذبة خاطئة، وليست كلها مليئة بالإيجابيات والطهر الملائكي، والممحصون لعوارض التألق والانطفاء يربطونها بأحوال الأناسي وشهواتهم وبالظروف وتقلباتها. والأناسي منهم الصالحون والطالحون، والسابقون في الخيرات والظالمون لأنفسهم. والواقعون فيها ليسوا جميعاً بلُّوريين يشعون النور من الذات، ولايعكسونه من الآخر. ومَن تصور النجومية مليئة أو جوفاء، دون حفرية معرفية وخبرة استكناهية، فقد ظلم نفسه وقبيله، وهي مع هذا التفاوت تعد إشكالية العصر، وبخاصة بعد ثورة الاتصالات، وتدفق المعلومات، وانتشار القنوات، وتعدد وسائل الإعلام الجذابة المغرية. والنجوم الجوف كالعملات المزيفة، لايكشف زيفها إلا التداول بين أيدي الخبراء، وإذا كان الإيمان يُحكُّ بالدرهم والدينار، ليبدو صدقه من كذبه، فإن النجومية تعريها المواقف والأزمات والمواجهات، وتكشف عن أصوليتها أو وصوليتها سنة الله المتمثلة بالامتحان {أّحّسٌبّ النَّاسٍ أّن يٍتًرّكٍوا أّن يّقٍولٍوا آمّنَّا وّهٍمً لا يٍفًتّنٍونّ }. وقد فتن مؤمنون ومدَّعون، فعلم الله الصادق من الكاذب. وقد تسهم الأضواء التي صنعت النجوم في تعريتها، كما السحر ينقلب على الساحر. والمواجهة بكل صورها آلية مهمة من آليات الجس والسبر، وهي بلاشك إحدى السبل التي تكشف عن الأصالة أو الزيف. هذه الخواطر انقدحت في ذهني، وأنا أمتري أخلاف الذاكرة، لأجيب على سؤال بدهني به أحد الزائرين الذين يودون الإجابة على كل ما يعن لهم، أو هكذا يتصورون إمكانياتي، وكأني ابن بجدة المعارف والمواقف. وما درى الزائر أن نصف العلم (لاأدري)، وأن من قالها فقد أجاب. والملائكة الكرام لا علم لهم إلا ما علمهم ربهم، وموسى عليه السلام، قال لعبد من عباد الله: {هّلً أّتَّبٌعٍكّ عّلّّى" أّن تٍعّلٌَمّنٌ مٌمَّا عٍلٌَمًتّ رٍشًدْا}. فمن نكون إلى جانب الملائكة الأبرار والرسل الأخيار؟ قال ذلك السائل: -لماذا تقترف وسائل الإعلام إحراق النجومية بمحاصرة الضيف بالأسئلة التي لايحير لها جواباً؟ ولماذا يكون جوابه متسطحاً لا يلوي على كبير فائدة؟. ولماذا ينكص النجم على عقبيه، ويقول ما لا يعتقد، أو يعتقد ما لايقول؟. وبعد أسئلته تابع القول: إننا نعيش حالة من الانبهار والإكبار لمن كنا نعدهم من الأخيار، حتى إذا سمعنا أو قرأنا لبعضهم، تساقطت الانطباعات، وتعرت الحقيقة المرة. وسؤاله هذا لملم لي أطراف النجوم في كل مجال، وأنكا جراحات دفينة. قلت للسائل: -ليس من شرط النجومية الامتلاء المعرفي، ولا الطهر الملائكي، ولا الثبات المبدئي، النجومية قد تكون ناتج ضربة حظ، أو افتقار مشهد، أو غفلة مُشاهد. وفي الأساطير مقولة المتألّه: - (قيل: من أمرك؟ قال: من نهاني؟) ومن ثم فإن هناك فرقاً بين من يزحف في القارعة إليها (كما زحفت فوق الصعيد الأراقم)، ومن تأتيه منقادة تجر إليه أذيالها، كما الخلافة مع الممدوح، بحيث لا تصلح إلا له، ولا يصلح إلا لها. إذاً هناك (متناجمون) و(نجوم) وساعون إليها، وساعية إليهم. والأقل الأقل من المتابعين من يملك القدرة على الفرز بين نجم تهاوت النجومية تحت قدمه، وآخر استمات في سبيل التشبث بأذيالها، يدعي وصلها، وتدعي بُعْدَه و(المتناجمون) نفذوا إليها في غفلة من الرقباء، فكانوا كمن تسلق المحراب، وأتى البيوت من غير أبوابها، ومن فرغ لامتحان الظواهر تكشفت له عن تفاهات مخيبة للظن، وقديماً قيل: -(أزهد الناس بالعالم أهله) ذلك أنهم يرون منه ما لا يراه الأباعد. والنجومية تكون في (الدين) بكل مذاهبه وتياراته واتجاهاته، وفي (الفن) بكل أنواعه: القولية والفعلية، وفي (العلم) بمختلف فروعه، وفي (السياسة) عند إقبالها وإدبارها، وفي سائر الأوضاع الاجتماعية، ودعك من نجوم (كرة القدم) وما أفاء الإعلام به عليهم من مكرمات يتطامن أمامها كل النجوم. ولكل حقل معرفي نجومه المزيفون والحقيقيون، ولكل مؤسسة دينية أو سياسية أو أدبية أو علمية أو فكرية أو اجتماعية نجومها الراغبون في النجومية والمكرهون عليها. ومن علماء الأمة الورعين من يضيق ذرعاً بالراكضين خلف أعقابه في غدوه ورواحه، بحيث يراهم من الفتنة والافتتان، ويجتهد في صرفهم عن ملاحقته، حتى أن من الزاهدين في الأضواء من يغلق عليه بابه. والمستخف منهم من تستدرجه المظهرية، وتخدعه الشهرة، وتعميه الأبهة، فينسى رسالته في غمرة الأشياع والأتباع، وتتحول عنده المظهرية إلى خمرة مسكرة، تشله ضراوتها، ويضطره تملق الجماهير إلى استقراء رغباتهم، ولو الجأه ذلك إلى النكوص عن جادة الصواب، على سنن (هكذا يريد الجمهور). وتألق النجم قد يأتي بالصدفة، أو يأتي نتيجة الخطأ، فبعض الإجراءات المتسرعة، وغير الحصيفة، تصنع النجم. والأذكياء من يفوتون الفرصة على المتماسين مع الثوابت، فلا يعارون اهتماماً، ولا يقام لهم وزن، والخصوم أسرع من الأنصار في صناعة النجومية، ولهذا يبرع بعض الخاملين في ضرب السوائد والمسلمات، أو تعمد الإثارة، سواء كانت عن طريق التهتك الأخلاقي، أو الانحراف العقدي، أو التمرد السياسي، أو الإغراق في الإغراب. ولكل متناجم آليات لعبته التي قد تخفى على الدهماء وغير المجربين، مثلما تلتبس خفة الحركة في الألعاب البلهوانية. وكل ذلك لمجرد الإثارة ولفت الأنظار. وحين تضج المشاهد مستنكرة السفاهات والتفاهات، تنهض الرويبضات لتقول عن (حق الحرية) في القول والفعل، ومن هذا اللغط تشع النجومية الزائفة، وأقرب مثل على ذلك ظاهرة (الروائيين) الذين تهتكوا أخلاقياً، أو انحرفوا عقدياً، أو تمردوا سياسياً، أو تحللوا فنياً، فكانوا حديث المجالس، ومادة النقد، وسبيل الجذب لمواقع المعلومات. ومثلهم (النقاد) و(المفكرون) و(العلماء) فمنهم من قضت عليه لعبته الخطيرة، ومنهم من شردته خطيئته، فتكفلت المؤسسات المشبوهة بحمايته، وتعهدت بتلميعه من جديد. وقد يكون النجم مفردة من مفردات اللعب السياسية، والذين يقرؤون بعض مذكرات الزعماء الغربيين، يمرون بإشارات ذكية، تكشف عن حذق التدبير في صناعة النجم لأغراض سياسية. فالذي يعول عليه في تمرير لعبة مصيرية، لابد أن يكون لامعاً وجذاباً وشعبياً، وليس بمقدور أي صانع للألعاب واللاعبين أن يخطف أي شخص، ويجعل منه نجماً بين عشية وضحاها، بل لابد ان تكون لدى المختار استعدادات شخصية، تمكنه من الاستجابة، واتقان التمثيل، وقد يمر بمثل ما يمر به رواد الفضاء من تدريب مكثف. وهذه الطائفة من النجوم ينتهي وجودها بانتهاء اللعبة، فإما أن يُقضى عليهم فيموتوا، ويطمروا مع لعبهم كما النفايات النووية، وإما أن ينطفئوا، ويختفوا كالأموات. والأنظمة والأعراف والمسلمات الاجتماعية تسهم في خلق النجوم، كما أن الظروف قد تخدم طائفة منهم، وتخذل أخرى، والوسائل والوسائط تصل بالنجم إلى سِدَة النجومية، ولكنها لا تحميه، ولاتوفر له مقومات البقاء. فكم من متناجم عرف تركيبة النجومية، ولكنه لم يعرف متطلبات البقاء على عروشها، فكان كالقارئ في كتب الشعوذة والبهلوانية، يدخل بها دوائر الضوء، ومجود آلية النجومية الذي لايحمل مؤهلاتها، يتشظى كالجرم الخارج عن فلكه. والوصول المزيف يفضح صاحبه، ويسقطه إلى الأبد. ولعلنا نضرب الأمثال بنجوميات خادعة، كشفت عن زيف وجهل وعجز. نراهم يشعون بسرعة النجم إذا هوى، ثم يغيبون في كهوف النسيان. والمجتمع البدائي يبهره كل شيء، وتكون فرص النجومية فيه سهلة المرتقى، ومن ثم يعتمد عشاق الأضواء على المخالفة لكسب الذكر على حد المثل القائل: - (خالف تذكر). ومجالات النجومية كثيرة: فالمعارضة السياسية سبيل من سبل النجومية، وهي الأسرع في صناعة النجم، يعمد إليها البعض عن قناعة وموقف ومبدأ ومشروعية، ويتخذها آخرون سلماً سهل المرتقى، دون أن تكون لهم قضايا، وتكثر المعارضة في الدول النامية، لقيام دواعيها، ولوجود الداعمين لها، وقد تقوم في الدول الديمقراطية، فهذا (تشومسكي) في أمريكا -على سبيل المثال- معارض لسياسة ديمقراطية مؤسساتية، عارض حروباً وأحلافاً وتدخلات، وكسب النجومية، ومعارضته ليست رغبة فيها، ولكنه يؤمن بمبادئ، تختلف مع (ميكافيلية) المؤسسات الأمريكية، وليس شرطاً ان تتفق رؤيته مع العدالة والحق، وليس شرطاً أن يكون نجماً في المنظور العربي أو الإسلامي، المهم أنه تألق بمعارضته، وأصبح علماً من أعلام المعارضة، ونجماً من نجوم السياسة، وعلى شاكلته كُتَّاب ومفكرون وساسة. وفي الدول النامية آلاف المعارضين، الذين يسلكون مختلف الطرق، ويثيرون مختلف القضايا، ويتبنون مختلف الاتجاهات، ويتخذون مختلف الأساليب. منهم الصادق الناصح، ومنهم الوصولي، ومنهم المتهور المنكّبُ عن ذكر العواقب جانباً. ولو استعرضنا الثورات العربية، وخطاب كل طائفة، لتبدت لنا فداحة المصائب التي جرها الثوريون على أهلهم وعشيرتهم، وبلغت بالأمة الدرك الأسفل من الهوان، ومع ذلك تجد من يقول عنهم ما لو تحقق أيسره، لكانوا من أولي العزم من الرسل، وتاريخهم الدموي التدميري التبعي لاينكره إلا مغالط أو مدخول. ولاشك أن التَّماس مع المؤسسات السياسية طريق سريع للوصول إلى النجومية. والمعارضة قد تكون بدواع سياسية أو اقتصادية أو دينية أو اجتماعية أو عرقية أو إقليمية أو طائفية صادقة أو كاذبة، وحين تكون صادقة، تكون موفقة أو غيرَ موفقة، مقدِّرة للموقف ومؤقّتة له، أو غير مقدِّرة وغير مؤقتة. فليس كل نجم يحالفه الحظ، وهذا مصداق التساؤل: - {أحسب الناس...}. والناس دائماً بحاجة إلى من يثير كوامنهم، ويشبع فضولهم، ويستجيب لمتطلباتهم، وينوب عنهم في النبش عن المسكوت عنه. ومجال الدين واختلاف علمائه من فقهاء ومتكلمين ومفسرين وشراح كمجال السياسة والمعارضة، لهذا نجد من ينقب عن شواذ الآراء في (الفقه)، ويتخذ الفتاوى الراجحة أو المرجوحة سبيلاً للتألق، فيفجرها وسط أمة خالية الذهن موحدة الفكر، غير مكترث بما تتعرض له وحدة الأمة الدينية، ثم يلحق به السرعان، حتى إذا عذُبت في فمه، وحسنت في عينه النجومية تصدر للفتيا، واستمرأ المخالفة، وربك المشاهد، وما علم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذ بالمفضول دون الفاضل احتراماً للمشاعر، وحرصاً على اجتماع الكلمة. وإذا كان (الإجماع) من الظواهر النادرة، حتى لقد قال بعض العلماء: (من ادعى الإجماع فقد كذب) فإن التنقيب عن مسائل الخلاف، ومنازعة العلماء فيها إخلال بالمروءة العلمية، مع أن كل مسائل الخلاف معلومة متداولة بين العلماء، وفيها مؤلفات في متناول أيدي المتابعين، تختص باختلاف المذاهب فيما بينها، وأخرى تختص باختلاف علماء المذهب الواحد، وماترانا نقول إلا معاراً أو معاداً من قولنا مكروراً. ولن يستقيم أمر الأمة إلا بمرجعية دينية يذعن لها الجميع، وتطمئن إليها النفوس، ويرجع إليها الكافة عند التنازع. والعلماء الأفذاذ يحترمون الرأي متى كان على حق مفضول، وبعض العلماء أخذ برأي فقيه البلد، حين يمر بها احتراماً له ولأشياعه. ولو أن الجمهور لم يندفع وراء المتناجمين ومثيري الشغب العلمي، ولم ينخدع بالبروق الخلّب، ولو أنه تأمل في كل خطاب، وفكك كل رؤية، واهتم بالقضايا، ولم يهتم بالأشخاص، لقطع دابر النجومية المزيفة، ومكن القطا من أن ينام ملء جفونه، فالمتلقي يتحمل شطراً من المسؤولية، لأن الانبهار يُعدُّ من الحواضن المساعدة على تناسل النجوم المزيفين. والمشاهد المتعددة حين يكون نظَّارتها عاطفيين انفعاليين تحجب الرؤية السليمة فيها، وتتاح الفرصة لكل وصولي لا يؤمن بحق الحياة الكريمة للأمة، واحسب أن للتربية دوراً مهماً في هذا، ولكنه من الفرائض الغائبة، ذلك أن التعليم يقف عند الممارسة التلقينية الحشوية، ولا يأبه ذووه بالتحليل والتقويم، وتربية الأذواق وتهذيب الأخلاق وتصفية الدين مما علق به. وشباب الأمة حين تستنزف طاقاتهم بالهتاف الأجوف، تستدرجهم الانتماءات المتصارعة، وتفوت عليهم الفرص الثمينة. والذين يتهافتون على الأضواء، ويحرصون على أن يظلوا في الذاكرة الشعبية، تتولد عندهم الطرائق، وتتناسل القضايا، بحيث لايستقر لهم قرار، فكلما انطفأت قضية، وعجزت عن تكريس حضورهم، قفزوا كالقردة إلى قضية ثانية، فهم لايريدون أن يغفل الناس عنهم ساعة واحدة. والنجومية الزائفة مرض نفسي، يحمل صاحبه على المغامرات، والتنقل من ظاهرة لأخرى، والمقوون يخدعهم التورم، وشر الإقواء مايعرض لذوي الصدارة. وعشق النجومية يهبط بالعالم والمفكر والسياسي والممثل، ذلك أنه يجس نبض الشارع، ولا يقوِّم الفكرة، ولا يثمن الحاجة، ولا يجد بداً من التعديل والتبديل في صياغة خطابه، كي يناسب الجمهور، متناسياً ما يجب. والمتمادي في تملق الجمهور يجد نفسه في حالة استسلامية لايملك معها الاستقلالية، فالجمهور هو الذي يصوغ الخطاب، ومتى حاول النجم المتصنع مواجهة الرأي العام قعدت به مثمناته الذاتية ومكتسباته الآنية، مثلما يقعد بالمعيل عياله، وقد قيل: الأولاد (مجبنة) (مبخلة) (مجهلة)، وإذا صنع الجمهور النجومية، تدخل في صناعة الخطاب، فكان النجم ك(عجل) بني إسرائيل، جسداً له خوار. وسؤال الزائر المثير ينصب على أولئك الذين يلحون بالحضور عبر وسائل الإعلام، ثم لايكونون مثيرين، ولا جذابين، ولا وقافين عند مبادئهم التي تعملقوا في ظلها، ولما لم أكن متابعاً لكثير من تحولات النجوم ولمَّا لم أكن قادراً على شق الصدور ومعرفة النوايا فإنني لست أعني أشخاصاً بأعيانهم، وعلى كل من حيزت له النجومية بحذافيرها أن يحاسب نفسه، فالمفتعلون للمواقف يسارعون في السيئات، ولا يسارعون في الخيرات. علماً أن تعدد المواقف يؤدي إلى التناقض وخلط الأوراق، ويقيني أن سوء الفهم ناشئ من خطأ التصور، فالعلماء والأدباء والمفكرون والساسة الحقيقيون يقولون ما يعتقدون، دون تفكير استدراجي للمتلقي. ومثلما نقطع بزيوف النجومية، نقطع بأن المجتمع ودود ولود، يدفع إلى مشاهدنا بالنجوم الحقيقيين الذين لايشك في صدقهم وإخلاصهم واقتدارهم إلا مدخول في فكره. وعلى الجميع من النجوم والأشياع أن يتذكروا ابتلاء السرائر، وتحصيل ما في الصدور، وختم الأفواه، وإنطاق الجلود، وقول المالك ليوم الدين: - (وقفوهم إنهم مسؤولون).