جرت العادة ان يتم الاعلان بين الحين والآخر عن مسابقة معمارية يتقدم لها العديد من المعماريين والمكاتب الهندسية ضمن شروط معينة تدرجها لوائح المسابقة، فبعض هذه المسابقات المعمارية تمتاز بأنها مفتوحة للمعماريين عربيا او عالميا وبعضها الآخر في احيان اخرى يمكن ان تشمل طلبة العمارة الذين ما يزالون على مقاعد الدراسة بالجامعات، وفي احيان اخرى تمتاز هذه المسابقات بانها محدودة بمعنى انها تشترط كفاءات معينة بالمكاتب الهندسية المتقدمة لها او ان تكون المكاتب الهندسية استشارية او ذات خبرة معينة تخدم اهداف المسابقة وهكذا. وجدير بالذكر ان طرح المسابقات المعمارية يمر بالعديد من المراحل قبل وبعد الاعلان عنها وحتى استلام العروض والتصاميم الى تقييم هذه العرض انتهاء باعلان النتائج بعد عملية التحكيم. وهذه العملية الطويلة تتطلب الكفاءات والخبرات المختلفة لكي تضمن الوصول لافضل النتائج المرجوة من طرح المسابقة ابتداء. ويمكن تقسيم آلية طرح المسابقة المعمارية الى مرحلتين مهمتين: الاولى مرحلة الاعداد للمسابقة او مرحلة ما قبل الاعداد والاعلان عنها، والثانية هي مرحلة الاعلان عن المسابقة وحتى تحديد الفائزين مرورا بالاعداد لتنفيذ المشروع وتلزيم العطاء واعذاذ المخططات المعمارية والاشراف. ونظرا لاهمية المسابقات المعمارية وطبيعة المشاريع الحضرية التي تتناولها وتأثيرها في البيئة المبنية من جهة، وفي العمل المهني المعماري، فسيتناول هذا المقال بالتفصيل جوانب من المرحلة الاولى، فيما سنفرد المقال التالي لتحليل المرحلة الثانية وجوانب من اهميتها والاشكالية التي تعاني منها ممارسة المهنة نتيجة تحكيم المسابقات المعمارية في العالم العربي. فما هي ابرز المراحل التي تمر بها المسابقة في طور الاعداد؟ وما هي اهميتها؟ وما هي العوامل التي ينبغي ان تتوافر في الفريق العامل عليها؟ وما هي انعكاساتها على المرحلة التالية؟ بداية يطيب لي ان اطمئن القارىء الكريم ان الخبرة التالية التي اضعها بين طيات هذين المقالين لا تنبع من فراغ انما هي نتاج معاناة واقعية. اذ سنحت لي الفرصة على مدى الاثنتي عشرة سنة الماضية في المشاركة في مجموعة كبيرة من المسابقات المعمارية على مدار الوطن العربي وخارجه، من خلال العمل ضمن فريق معماري بقيادة رواد العمارة العربية المعاصرة وتحديدا مع المعماري راسم بدران والدكتور عبد الحليم ابراهيم، وكذلك ضمن مسابقات معمارية مع البروفسور محمد صالح مكية بلندن. وهذه المسابقات المعمارية شملت القاهرة واليمن والكويت وسمرقند والرياض وعمان وغيرها. للعديد من الاسباب المختلفة يتم الاعلان بين الحين والحين عن مسابقة لتصميم او تخطيط مشروع او منطقة حضرية. هذه الاسباب غالبا ما تتراوح بين اسباب بيروقراطية بمعنى ان اللوائح الداخلية للمؤسسة او الجهة المعلنة تضع اطارا لتنفيذ المشروع او منطقة التطوير ضمن افضل المواصفات ومن خلال التنافس واختيار الكفاءات والافكار المتميزة للوصول الى افضل الحلول المرجوة. وبعض هذه الاسباب فنية لتحقيق اكثر الافكار جودة واناقة وتميزا من ناحية شكلية وعمرانية. او اقتصادية لتحقيق اكبر عائد مادي من خلال المشروع المجدي اقتصاديا باقل عدد من السنين لاسترداد رأس المال. او ثقافية سياحية باستقطاب مستخدمين للمشروع او لمنطقة التطوير وتشجيع فعاليات اخرى مجاورة للمشروع وهكذا. او مشاريع تطوير حضري محضة بتوطين او اعادة توطين نتيجة كوارث طبيعية او ناتجة عن الخروب او غيرها. جميع هذه الاسباب كل منها او بعضها تلعب ادوارا في الاعلان بين الحين والآخر عن المسابقة المعمارية. ويبدو ان الغاية نبيلة والدافع نبيل، فأين هي المشكلة اذن؟ سؤال يبدو في غاية البراءة، والاجابة تبدو سهلة، خصوصا اذا ما تذكرنا ايضا ان المسابقات تلعب دورا مهما ايضا في ابراز الافكار المعمارية وشحذ العقليات الابداعية المختلفة من جهة، وابراز والاعلان عن الرموز المعمارية الموهوبة من جهة اخرى اضافة لما توفره من عائد اقتصادي معتبر في حال كسب المسابقة كمشروع لصالح الفريق المعماري العامل عليها. فكم من معماري لمع نجمه من خلال المسابقات المعمارية والافكار التي يبدو انها مناسبة للظهور في حال المسابقة المعمارية اكثر منها في حال المشاريع الملزمة من قبل المالك او المنفذ ذو المتطلبات المحددة والامكانيات الاقتصادية المقدرة اصلا والتي تؤول في غالب الاحيان باتجاه النقصان لا الزيادة. ومن هنا فجميع المؤشرات من اهداف ونتائج للمسابقة المعمارية تشير الى الايجابية ولا تبدو هناك مشكلة اطلاقا، ويبدو ان الاصل ان الوئام والرضا هو الذي ينبغي ان يسود، وبخاصة ان هناك جوائز للمتسابقين الثاني والثالث في معظم الاحايين، مما يعوض التكاليف التي تكبدها بعض المتسابقين مع بعض التقدير المعنوي بنشر اعمالهم في هذه المجلة المعمارية المتخصصة او تلك، فأين الخلل؟ في الحقيقة لا يمكن رؤية المشكلة من هذه الزاوية وضمن هذا المنظار، انما يمكن ان تبدو بعض ملامح المشكلة اذ نظرنا من الزاوية المقبلة وبمنظار آخر. وتحديدا من منظور المتسابقين انفسهم من ناحية، وبالقاء الضود على عملية التحكيم ذاتها واللجنة المحكمة، اضافة الى بعض اسباب المسابقة التي لا تبدو كما تبدو ظاهريا. جميع هذه العوامل من هذه الزاوية تتضافر لابراز مشكلة ما يمكن ان نسميها مصداقية التحكيم واشكالية المسابقات المعمارية في العالم العربي. ربما من المناسب هنا والانصاف الاشارة الى ان ما نبحثه لا ينطبق على نسبة من المشاريع والمسابقات التي تبدو ان الآلية للتحكيم والاختيار فيها تخضع لمقاييس يجتهد البشر فيها الى تحقيق توازن بين الانصاف والمختلف العوامل المرجو تحقيقها بالمسابقة. انما الحديث هنا ينطبق على نسبة لا يستهان بها من المسابقات وبخاصة ذات الاهمية الاقتصادية او الكبيرة الحجم. العامل الاول والحساس في هذ الاشكالية يكمن في لجنة التحكيم ذاتها، وكيفية تشكيلها والخبرات المختلفة بها. فغالبا ما يتم اختيار مندوب عن المالك ومتخصصين ما بين القطاعين الاكاديمي والمهني بالاضافة الى بعض الرموز المعمارية اقليميا او محليا. ما نطرحه هنا لا ينفي النزاهة اذ هي الاصل، انما بعض الممارسات الواقعية دلت على نزوع البعض الى اما ترجيح كفة على اخرى بعيدا عن اسباب منطقية وبما لا ينسجم مع مبادىء المنافسة المفترض ان تحدد اصلا قبل اطلاق مسدس الانطلاق. او بنزوع البعض الى ازدراء الاعمال المقدمة املا باعادة طرح المسابقة والاشتراك كمتسابق. هذه الممارسات وغيرها مما لا يحصى ذكره هنا مما قد يعود لاسباب شخصية بحدس نوع العمل والمتسابق او لعلاقات خارج اطار المهنة تؤدي الى نتيجتين سلبيتين، اولاهما احجام العديد من الكفاءات عن الدخول في مسابقات بمجرد معرفة المحكمين وبالتالي القضاء على الافكار الابداعية قبل موتها. والثانية الحاق خسائر مالية وايقاع الضرر بمن قضى الاشهر والساعات الطويلة في تطوير الافكار المعمارية للمسابقة. معالجة هذه الآفة بالتحكيم المعماري يمكن حلها بطريقتين متلازمتين، الاولى بتشكيل لجنة تحكيم اقليمية لا محلية او دولية بحسب طبيعة المشروع، والاعلان عن هذه اللجنة مسبقا كما هو الحال في معظم المسابقات الدولية. والثانية بتحقيق مراقبة لصيقة ومتابعة القرارات التي يتخذها المحكمون انفسهم، اما من خلال النقابات التي يتنتمون اليها وايقاع عقوبات في حال اجراء تحقيقات وثبوت ترجيح كفة على اخرى دون وجه حق، تماما كحكم كرة القدم الذي يتعرض للمسائلة والعقوبات اذ يترتب على قراراته منعلقات مالية وتغيير اقدار اقوام دون آخرين. ومن هنا فقد يشتهر محكم معماري بنزوعه لعدم المحايدة والتحيزية ومن هنا يفقد مصداقيته كمحكم وهكذا. العامل الثاني يمكن باعلان شروط وبرنامج يضمن العدالة في التحكيم بناء على هذه الشروط مع اعطاء قابلية الابداع بين المتسابقين. والاهم من ذلك كله ان تكون نية الجهة المعلنة عن طرح المسابقة حقيقية في الوصول الى افضل الحلول لا من اجل مآرب غير مباشرة، كالحصول على تمويل من جهة دولية او غيرها. وهناك عامل مغفل لم يلتفت اليه في كثير من الاحايين حتى الآن على المستوى التطبيقي على الاقل في العالم العربي، وهو رأي العامة الذين سيطالعون المشروع صباح مساء، او ربما يستفيدون او يتضررون من تحقيق المشروع على ارض الواقع مجاورا لهم. وربما قد آن الاوان ان يلتفت الى هذا الجانب، باعطاء حيز للمشاركة الشعبية ورأي العامة وضمن منهجية توازن بين المتطلبات الوظيفية والتقنية والاقتصادية للمشروع من جهة وبين اهمية تقبل العامة للمشروع من جهة ثانية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال الاستبيانات قبل وأثناء عملية التحكيم ذاتها، وربما نكون من الجرأة بانتخاب ممثلين من العامة للمصادقة على القرارات المتخذة من قبل لجنة التحكيم واخذ آرائهم بعين الاعتبار، اذ انهم اقرب ما يكونون للحيادية واختيار ما يناسبهم. ولعلي اشير الى ان البلدية بلندن اعتزمت المصادقة على اقرار باقامة مستشفى بوسط مدينة لندن مجاورا للعمارة التي اقيم بها، فارسلت بالبريد الى جميع السكان بالمنطقة المحيطة وانا واحد منهم نماذج واستبيانات بما يعتزم القيام به، واستطلاع آراءنا ضمن فترة محددة، كما انتخبت لجنة من العمارة التي اقيم بها للالتقاء مع مسؤولين بالبلدية لمناقشة المخططات المعمارية واقرارها بما لا يحجب الضوء او يؤذي احد المقيمين بالجوار، او على الاقل كي لا يفاجأ احدنا بمفاجأة وجود بناية جديدة ذات صباح. هذه العوامل وغيرها تحول دون التنافس المشروع بين العقليات الابداعية الفذة في العالم العربي وربما قد ادت الى قتل العديد من الافكار والمواهب في مهدها او قبل مولدها. وحتى ياتي اليوم الذي يأمن المعماريون العرب في المشاركة في المسابقات المعمارية يمكن القول ان العمارة العربية المعاصرة قد بدأت تنحو نحو الاتجاه الصحيح.