مرة، زارنا في (منتدى خالد الأدبي) الشاعر الكبير فؤاد شاكر رحمه الله، وكان الحوار في تلك الليلة يدور بين أنصار الشعر الحر وبين أنصار الشعر العمودي، ولم يكن فؤاد شاكر يعلم أين يقف الأمير خالد هل هو من أنْصار هذا أو ذاك، فظل صامتاً يرقب كلام المتحاورين ويرقب في أي جهة يكون كلام الأمير، غير أن الوقت قد طال ولم يسمع من الأمير ما يدل على انحيازه إلى أيٍّ من الجانبين، وكان الحوار يطول والأصوات ترتفع وتذود وتنافح، وما بين الأصوات ترتفع الأيدي المحتجة وتخرج العبارات الساخرة ثم لا شيء قد رآه أو سمعه من الأمير سوى عدله في نقل الكلام من جهة إلى جهة، ومن أديب إلى أديب، ثم إن الأمير بعد وقت غير يسير قد بدا له أن يستأذن للذهاب إلى ناحية من المنزل لكي يحضر أوراقاً مطلوبة لبعض الزائرين، ولم يبرح الأمير بعد استئذانه أنْ هَبَّ واقفاً وسار إلى خارج الصالون والأدباء الذين سكتوا برهة عادوا إلى الحوار ثانيةً ولكن الأستاذ فؤاد شاكر قطع الحوار ليسألهم وهو في حذر شديد وفي عجلة ظاهرة، يسأل بسرعة فائقة عن الأمير أين يقف؟ وفي صف من يؤيد؟ وهل هو يؤيد هؤلاء أم هؤلاء؟ فأجابه أهل الشعر الحر بخبث شديد: إنه معنا، مع أهل الشعر الحر، وراحوا يقرِّعونه على هذا السؤال الفج ثم لم تمض دقائق حتى عاد الأمير واعطى الأوراق لصاحبها ثم عاد الحوار كرة ثانية سجالاً بين الطرفين، وظل السجال مستمراً حتى أشرف على نهايته وأراد الأمير أن يختتم الجلسة بسؤال الشاعر فؤاد شاكر عن موقفه من الشعر الحر، وهل هو من هؤلاء أم من هؤلاء، ويا لها من مفاجأة مدهشة للأمير إذ سرعان ما جاءت إجابة الأستاذ بأنه معاذ الله أن يكون في صف غير صف الأمير، فسأله الأمير عن صفه ما هو؟! فأجابه أنا من أنصار الشعر الحر، أنا في صف الأمير، وازداد الأمير دهشة وقال له: ولكن أنا لست من أنصار الشعر الحر!! هذا صف غير صفي. فأسرع الأستاذ شاكر واستعاذ بالله وأعاذ الآخرين من الشعر الحر، ثم حلف وأقسم بالله أن هذا الشعر الحر هو شعر عبد، هو شعر العبيد، هو عبد وليس بحر، وظل يستعيذ ويُعيذ ويحلف وعيناه تدوران في جبهته وجميع بدنه يتخلَّج وهو لا يدري كيف يخرج من ورطته أمام الأمير ولا يدري ما يقوله غير التكرار ثم التكرار في الكلام ولم يتركه الأمير يتخبط بل لاطفه بقول جميل رفع من روحه ثم ختم الجلسة بالدعوة إلى طعام العشاء. لم تكن جميع الأوقات مخصوصة للأدب وقضاياه، فمثلما كان للأمير محاور ثقافية أخرى، كالمحور الثقافي للأندية، فهناك محاور ثقافية أخرى خارج (المنتدى) مثل 1/ المحور الثقافي في (نادي الفروسية) وكثيراً ما يكون المنتدى قد فرغ من الجلسة فيبدأ الحديث عن (سباق الخيل) إذ المعروف عن الأمير خالد اهتمامه برياضة الخيل من أيام نشأته في صباه مع أقرانه من الأمراء وغير الامراء من هواة ركوب الخيل. والمعلوم أن سموه كان من أعضاء (لجنة تشبيه الخيل) في (نادي الفروسية) وهم فيما أذكر الآن، الأول صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز قبل تسنمه لمنصب وزارة الداخلية، والثاني هو صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مدير عام رعاية الشباب، والثالث، صاحب السمو الأمير الشاعر سعودبن بندر بن محمد آل سعود) ومهمة هذه اللجنة هي فرز الخيل العربية وتصنيفها، وفرز غيرها من غير العربية وتصنيفها، ومن الطبيعي كما هو معلوم أن رئيس النادي هو صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز رئيس الحرس الوطني والراعي والمؤسس والخبير الأول بالخيل وبسياسة الخيل، وبالفروسية كلها، ومن الطبيعي أن هذه اللجنة قد حظيت برعاية وتقدير سموه الكريم، وأنها لم تحصل على شرف العضوية إلا لمكانتها في معرفة الخيل وآداب الفروسية وهذا شرف عظيم حظي به كل واحد من أعضاء اللجنة بلا جدال. وطبيعي أن (ثقافة الخيل) كانت تقتحم علينا المجلس في (المنتدى) ولكوني ممن أزور الأمير في غير أيام المنتدى، فقد كنت على بعض العلم بما يدور في منزل الأمير عن الخيل وسياسة الخيل، كما أنني على بعض العلم لما في كتب الأدب العربي من هذا الجانب، وقد سمعت الأمير ذات مرة يقرأ أرجوزة في الأدب القديم في وصف الخيل عرفت من ذلك أنه يقتني كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي لأن الأرجوزة في الكتاب وأكثر مرويات الأمير عن الخيل من هذا الكتاب أيضاً، أما ثقافته (الشفاهية) فهي من المجالس الملكية أو الأميرية، أو مما يتناقله الشعراء الكبار، لكن أهمها وأعمقها من خاله الأمير سعود بن جلوي ومن والده الفيصل العظيم، ومن أخيه الأمير عبدالله الفيصل، وربما من بعض الأخوياء الكبار لهؤلاء الميامين، ولم أكن رغم كثيرة الحديث عن الخيل أحضر سباقات الخيل حتى علمنا ذات ليلة بأن الأمير قد اقتنى فرساً يقال لها (رابحة) فحضرت لأول مرة (سباق رابحة والعاصي) وقصة هذا السباق مشهورة حتى عند من لا يحضر هذا السباق وأظن السبب يكمن في الدرجة الأولى في الشهرة العظيمة التي حاز عليها الحصان (العاصي) فقد كان لونه أدهم شديد الدُّهمة، وبنيانه الجسماني مهول جدَّاً، وعيناه شهلاون في احمرار شديد ممزوجة مع ازرقاق مهيب، ولربما كان من نسل خيل للعاصي من أمراء شمّر، أوربما وصفوه بالعاصي لأنه فيما يروون يستعصي على راكبه من الخيالة إن لم يكن خيالاً ضارياً وفارساً من جبابرة الفرسان الخيالة. وقد نسجوا حوله من الأساطير ما جعله من خيول الجن الخرافية، ولم يكن واحد من خيول السباق المشهود لها بالنجابة والسبق يقوم له بشيء البتة، ولما اقتنى الأمير خالد الفرس (رابحة) جعل الناس في حيرة من أمر هذه الفرس التي لابد وأن فيها من الأسرار ما جعل الأمير خالد يدخلها في مضمار واحد مع الحصان العاصي، والناس من أهل الخيل يثقون في خالد ويتطلعون إلى يوم السباق بشوق عجيب. حين وصلت الفرس (رابحة) إلى الرياض من بلدها (الأردن) كان الأمير من ولعه بها قد هبَّ إلى رؤيتها حين وصولها وكنت معه أرى ما يشير إليه بأصبعه في وصفه لأعضائها وهيئتها وجمال قوامها وما إلى ذلك من أحاديث أهل الخيل في وصف محاسن الخيل. طبيعي أن تكون كل عاطفتي مشدودة مع الفرس (رابحة) حين انطلقت مع (العاصي) من اللحظة الأولى، ولكن بعيداً عن عاطفتي فقد كانت عواطف الناس المشاهدين معها أيضا ً، وأكبر ظني أن الناس من طبعهم قد ملُّوا من طول ما فعله العاصي بالخيل، ومن طول بقائه في المقام الذريع الذي يتعدى فيه خطوط الخيل الأوائل بمسافات بعيدة، كانت العيون كلها مشدودة إلى (رابحة) وهي بإزاء (العاصي) وأعجبهم في عدوها أن لها إيقاعاً متناغماً مع إيقاع كل عضو فيها، وهو إيقاع متصاعد في القوة واتساع الخطوة مع الجمال المتناهي في كل فنون العدو الذي أبرزه فارسها الخيال الفارس المشهور (مشرف القحطاني) كانت متقدمة على العاصي في انعطافتها الأخيرة صوب المسافة المتجهة إلى نهاية الحلبة، وفي كل خطوة كانت تتقدم أكثر من العاصي الذي بدا وكأنه قد رام أن يتقهقر دونها، واعتلى صياح الناس ثم تقافزوا وكادوا يصرخون لفوز (رابحة) لولا أن فاجأهم العاصي بقذائف يرمي بها نفسه فكأن شيئاً أخذه ورماه إزاء رابحة، وانبرى كل فارس يحث خيله للركض بأقصى ما عنده من طاقة مخبوءة، وأقبلا جميعاً كأنهما شيء واحد ثم لم تمض غير غمضة عين وإذا بالعاصي يقذف كل جسمه ليفوز على (رابحة) بين تصفيق الجمهور الذي وجد نفسه غصباً عنه معجباً ب (رابحة) ويصفق للعاصي، وإن أنس في مباريات الخيل فإنني لن أنسى ذلك اليوم البتة، عدنا في العشاء إلى منزل الأمير خالد، وسمعت لأول مرة أنواعاً من الجدل بين فرسان الخيل لم أكن لأسمع مثله لو لم احضر هذا السباق، فهناك من يزعم بأن فارس (رابحة) السيد مشرف القحطاني قد قصَّر في الخطوات الأخيرة لأنه لم يحزم على فرسه بالسُّوق في أقصاه، وهو يزعم بأنه لم يكن ليرغب في عسفها فوق طاقتها خشية أن تتقطع عراقيب رجليها، وهناك من يزعم بأن (العاصي) مشروك بغيره من جنس لا يقام له بشيء، وجيء يومئذٍ بأنساب الخيل من كل حدب وصوب، ولم يسلم أعضاء (لجنة تشبيه الخيل) من النقد الصريح وغير الصريح حتى لقد خُيِّل لي بأن منافسة أهل الخيل فيما بينهم أشد أنواع المنافسات الرياضية وأشدها اقتراباً إلى المعارك في الحروب لولا تدخل الكبار العقلاء في حسم المشكلات أولاً بأول. على أية حال، كان ترتيب رابحة هو الثاني، وهو ترتيب يليق بأن يهديها الأمير إلى صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن عبدالعزيز ولي العهد إذ ذاك. ولعلِّي بعد ذلك لم أحظ بسماع ما استجدَّ في ثقافة الأمير خالد حول الخيل وسياسة الخيل. غير أنه قد بقي كلام آخر حول محور ثقافي آخر، وهل بقي مثل الكلام عن (الصقور) وسياسة الصقور، والكلام عنها متروك للمناسبة.