عند غربة الدين قد يرى أكثر المنتسبين إلى الإسلام -فضلاً عن غيرهم- ماهو معروف في شرع الله منكراً، وماهو منكر في شرع الله معروفا، والبدعة سنة والسنّة تشدداً وتنطعاً وتنفيرا. وصدق رسول الله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله ومتبعي سنته إذ يقول «بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء» رواه مسلم، والغرباء هنا هم الذين يبقون على منهاج النبّوة اليقيني في الدّين والدعوة إليه إذا تحوّل عنه أكثر أهله إلى مناهج البشر الظنّيّة، وتحوّلوا عن جماعة المسلمين الواحدة إلى الجماعات والأحزاب الدينية المتعددة، {كٍلٍَ حٌزًبُ بٌمّا لّدّيًهٌمً فّرٌحٍونّ}، {إنَّ الذٌينّ فّرَّقٍوا دٌينّهٍمً وّكّانٍوا شٌيّعْا لَّسًتّ مٌنًهٍمً فٌي شّيًءُ} وبين النبي صلى الله عليه وسلم أكبر سبب يوصل المسلمين إلى هذا الدرك: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا» متفق عليه. ومع وجود القلّة من علماء الشريعة على منهاج النبوّة اليقيني اليوم والكثرة من طلاب العلم الشرعي الوظيفي على منهاج الفكر الظنّي، فإن الشيطان والنّفس الأمّارة بالسوء يستعجلان الوصول إلى حال الغربة في الدّين بصرف أكثر المنتسبين إلى الإسلام عن علماء الشريعة الرّبانيين إلى المفكرين والكتّاب والصحفيين، والممثلين والمهرجين والقصّاص وكما يوضع السّكر على حبّة الدواء المرّ، توضع المحسّنات اللفظيّة والمزيّنات الفنيّة على الفكر ليظنّه الجاهل وحياً من وحي الله وشرعاً من شرعه وفقهاً في دينه. وإذا كان من أقرب الأمثلة صلة بالدّين: انصراف القصّاصين عن نشر توحيد الله بإفراده بالعبادة والتمسّك بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتحذير من إشراك الأولياء مع الله في دعائه وسائر عبادته، ومن الابتداع في الدّين (منهاج كل رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وكل رسالاته)؛ فإن من أقرب الأمثلة صلة بالدنيا ما تنفثه أبواق التقليد اللفظي والعملي للمغضوب عليهم والضّالين والملحدين من الترغيب في عمل المرأة خارج بيتها و(حتى لايتعطّل نصف المجتمع)! والترهيب من عمل الأطفال (حتى لا تسرق منهم الطفولة) - زعموا! وليتبيّن وجه الحق لابدّ من ردّ الأمر إلى نصوص الوحي إذا وجدت، أو إلى العقل السليم الذي لم يحرفه التقليد الببغائي عن فطرته: أ - لقد أمر الله تعالى نساء نبيّه صلى الله عليه وسلم (قدوة المسلمات في كلّ مكان وزمان) في آية محكمة بالقرار في البيوت: {وّقّرًنّ فٌي بٍيٍوتٌكٍنَّ وّلا تّبّرَّجًنّ تّبّرٍَجّ پًجّاهٌلٌيَّةٌ الأٍولّى" وّأّقٌمًنّ الصَّلاةّ وّآتٌينّ الزَّكّاةّ وّأّطٌعًنّ الله وّرّسٍولّهٍ}وحكم بأن مسؤولية كسب المعيشة على الرجل: {الرٌَجّالٍ قّوَّامٍونّ عّلّى النٌَسّاءٌ بٌمّا فّضَّلّ الله بّعًضّهٍمً عّلّى" بّعًضُ وّبٌمّا أّنفّقٍوا مٌنً أّمًوّالٌهٌمً}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء المؤمنين: «صلاتكن في دوركنّ أفضل من صلاتكن في مسجد الجماعة» رواه ابن خزيمة (صحيح الترغيب)؛ فكيف بما دون الصلاة من لهو، أو من عمل لم يضطرها الله إليه؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء من أمته: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها وهي مسؤولة عن رعيتها» متفق عليه. ومن هذا الوحي اليقيني من كتاب الله وسنة رسوله يتبين لمن تدبره ان الله تعالى قسم العمل المعيشي بين الرجل والمرأة: عليه تحمل مؤونة أهله بكسب المعيشة خارج البيت، وعليها تهيئة أسباب المعيشة داخل البيت، وتحقيق فطرة الله لها وقدره عليها يوم خلقها: {لٌيّسًكٍنّ إلّيًهّا} زوجها وتربية أطفالها حتى يؤهلهم الله لتحمل تكاليف الحياة داخل البيت أو خارجه حسب الاختيار الحكيم الثابت لخالقهم وليس تبعاً لأهواء البشر المتقلبة القاصرة. ولقد يسر الله كلا من الرجل والمرأة لما خلق له (متفق عليه)، وميزه بصفات عقلية وجسمية وعاطفية مختلفة تناسب وظيفته في الحياة، بعد الوظيفة العظيمة المشتركة بينهما وهي: عبادة الله وحده لاشريك له بما شرعه من عبادات مفروضة أو مسنونة {وّمّا خّلّقًتٍ الجٌنَّ وّالإنسّ إلاَّ لٌيّعًبٍدٍونٌ} وإنما يظن الخراصون بأن انصراف المرأة لشؤون بيتها وزوجها وأولادها تعطيل أو سجن لها؛ لجهل أو رفض لاختيار الله لها وفطرته وشرعه وأمره. ومع انتشار البطالة ونقص الوظائف والمهن اليوم عن عدد المؤهلين للعمل من الرجال في مختلف أنحاء العالم؛ فإن الدعوة لعمل المرأة خارج بيتها تزيد في استفحال المشكلة الاقتصادية، وتنقل مسؤولية المرأة عن الإدارة والرعاية والتربية البيتية إلى الخادمات والمربيات المستقدمات من بيئات غريبة جاهلة، وكما انه: {وّلّيًسّ پذَّكّرٍ كّالأٍنثّى"} فلن تكون الأجيرة كالأم والزوجة. ويمكر إبليس وتمكر النفس الأمارة بالسوء - أعاذنا الله منهما - فيسوّلان لمسلمي العصر - باسم الاسلام - مخالفة فطرة الله للمرأة وشرعه لها بإخراجها من أمن بيتها وجرّها إلى فتنة السوق بإنشاء المصارف والأسواق والملاهي النسائية، بل والمساجد النسائية المستقلة أو الملحقة بالمساجد العامة. وهي دعوة عملية لترك المرأة ستر بيتها للأغراض الدنيوية، أو الدينية التي لم تفرض ولم تستحب لها. لقد أباح الشارع للمرأة الصلاة في مسجد الجماعة (رخصة لاعزيمة، وخلافاً للأولى الذي رغبها النبي صلى الله عليه وسلم فيه وهو صلاتها في دارها) خلف الرجال. ب - أهم ما يتعلمه الطفل -بعد دينه- تحمل مسؤولية نفسه وغيره، بقدر تكليفه واستطاعته، والمدرسة اليوم غير مؤهلة لتعليمه ذلك بل هي في الواقع تعلمه الاعتماد على غيره في العلم والعمل. فإذا هيأ الله له الانتاج في سن مبكرة: فلا يجوز لنا رده إلى عادة الاستهلاك، وإذا هيأ له قدر الله عليه حث خطاه إلي مرحلة الرجولة المقبلة والاعتماد على نفسه - بعد الله - وإعانة أهله المحتاجين إلى عونه؛ فلا يليق بنا رده إلى مرحلة الطفولة ومدّها تعسفاً حتى ينهي دراسته، ليظل عالة على غيره، ويعيش في سنوات نموه حياة الكسل والبطالة المقنعة بين التلهي بالهاتف والجريدة والإذاعة والألعاب الآلية وبين المآكل الناعمة قليلة التغذية من مطاعم الوجبات السريعة. وعلى من يهتم بطفله ان يحرص على تعليمه القراءة والكتابة والأرقام بعد نهاية عمله اليومي في كسب معاشه، وذلك خير للطفل وللأمة من ضياع سني عمره الأولى في التظاهر بالإعداد لمستقبل لا يعلم إلا الله حدود وقته ونوعه (فالموت هو المستقبل الوحيد المؤكد لابن آدم الطفل أو الشيخ)، وجبر النقص وتقويم الاعوجاج خير من التقليد الشكلي بتركيز الاهتمام على من يوصفون حقيقة أو خيالاً بالموهوبين كمثل أحدوثة الراعي الأحمق الذي قيل إنه يطلق سمان الغنم في المرعى ويحبس عجافها بحجة التمشي مع قدر الله لها. والطفل الضعيف (لأي سبب) هو الجدير بالاهتمام الخاص حيث تشتد حاجته إليه، أما الموهوب إذا كان متميزاً حقاً فهو أقدر على الاهتمام بنفسه. ولقد تبين لي من دراستي النظرية وممارستي العملية في حقلي الشريعة اليقينية والتربية الظنية أكثر من نصف قرن (في الداخل والخارج) مايلي: 1- ان من خير ما يفترض ان تدرب المدرسة الطفل عليه: تحمل تكاليف الشريعة والحياة، وحسن معاملة خلق الله من الناس والأنعام والجماد. ولكن الواقع يؤكد ان نصيبها من النجاح في تأدية هذه الأغراض العظيمة ضئيل جداً. 2- ان من خير ما يفترض ان تعلم المدرسة الطفل: حب العلم والرغبة في تحصيله داخل التنظيم التعليمي وخارجه، أو كما يقول المثل الخيالي: (من المهد إلى اللحد) ولكن نصيبها من النجاح في تحقيق هذا الغرض لايزيد عن سابقه. 3- بل الحقيقة ان نظم الدراسة المستوردة ومنها طريقة التعليم ذات الاتجاه المحدد الواحد (من فم المعلم إلى أذن الطالب، والسباق الظالم غير المتكافئ) تعلم الطالب - دون قصد - كراهية المدرسة والضجر من الدراسة والتطلع إلى توقف التعليم بانتهاء الحصة واليوم الدراسي أو بحلول العطلة المدرسية أو بالتخرج من المدرسة أو بترك الدراسة. 4- أشهر المخترعين والمبدعين في التاريخ لم يصلوا إلى الإنجاز والشهرة بسبب المدرسة بل بالرغم منها وكثير منهم تركها (في إحدى مراحل الدراسة) لمن يستعيضون بالشهادات والألقاب الدراسية عن العلم، كما قد يستعيض العسكري عن الشجاعة بالأوسمة والنياشين في رأي ساحر الأز الخيالي عن الحال في أمريكا، وهي قدوة الأغلبية. 5- مهمة المسلم في الحياة أعظم من كل اختراع صناعي ومن كل إبداع جمالي ومن كل هدف فني: الالتزام بشرع الله على منهاج النبوة علماً وعملاً ودعوة لاخراج نفسه وغيره من الظلمات إلى النور، قال الله عز وجل: {وّمّنً أّحًسّنٍ قّوًلاْ مٌَمَّن دّعّا إلّى الله وّعّمٌلّ صّالٌحْا وّقّالّ إنَّنٌي مٌنّ المٍسًلٌمٌينّ}. (33) وّلٌبٍيٍوتٌهٌمً أّبًوّابْا وّسٍرٍرْا عّلّيًهّا يّتَّكٌئٍونّ (34) وّزٍخًرٍفْا وّإن كٍلٍَ ذّلٌكّ لّمَّا مّتّاعٍ پًحّيّاةٌ پدٍَنًيّا وّالآخٌرّةٍ عٌندّ رّبٌَكّ لٌلًمٍتَّقٌينّ (35)} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» رواه مسلم. 7- ومن يسر في الأرض فينظر ويتفكر؛ يجد ان كل المنجزات القديمة المادية وثنية الأصل من انتاج الهندوس والفراعنة واليونانيين والرومانيين والإنكا وغيرهم، والمنجزات الحديثة المادية لغير المسلمين. وسيظل المسلمون (ما تمسكوا بدينهم) هم الأقل في متاع الدنيا وعلومها؛ فلم يلتفت الأوائل إلى علوم الدنيا اليونانية، ولم يلتفتوا إلى ترف الملبس والمسكن والمركب في العراق وفارس والشام ومصر واسبانيا إلا بعد ضعف تمسكهم بالدين والدعوة إليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى ان تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» متفق عليه.