مدخل: فكرة التفاعل الاجتماعي بين بني الإنسان فكرة جميلة وإيجابية، لكن أحد المشكلات التي تعيق هذا التفاعل هي إشعار الآخرين بالدونيِّة واستشعار العلوية من قبل آخرين. وإذا كان التفاعل يستحيل على المستوى البسيط الشخصي أو المجتمعي حينما توجد هاتان الحالتان، فإن التفاعل على المستوى العالمي يعتبر أشد صعوبة واستحالة. ومن جميل طروحات علماء الاجتماع رؤيتهم بأن من أسباب جنوح الإنسان أحياناً للأخطاء هو«وصمه» بالشر والعدوانية من قبل المجتمع، أي أن المجتمع في الأصل هو المتسبِّب في جنوح أشخاصه وذلك من خلال تعييرهم بالذنب أو إقصائهم من حركة التفاعل الاجتماعية، وبالتالي سلوكهم مسلكاً يخالف قواعد المجتمع ومعاييره. ومن هنا تتخذ«الوصمة» أشكالاً مختلفة تتضمن بداخلها كل المرادفات الخاصة بالاغتراب عن الإطار الاجتماعي السوي مثل الناقص، الشاذ، المتخلف، الأبله، المتطرف، الغريب.. الخ. محتوي: وحينما نتحدث عن المجتمع العالمي الكبير فإن المشهد هنا يعكس شيئاً مما ذكرناه. ذلك أن سيطرة الثقافة الغربية وتسويقها- بالوسائل المختلفة- وسّع من انتشارها في كثير من بلاد العالم، وبالتالي أصبح في عُرف الغربيين أو«المستغربين» أن «الجانح» عن هذا الصِّراط ينبغي أن«يوصم» بشتى الألفاظ التي تشعره وتشعر غيره- ليأخذ الدرس- بالدونيَّة والتطرُّف والاغتراب وعدم مسايرة العصر والركض إلى الوراء وإلى آخره من الاصطلاحات التي تختلف تجريحاتها باختلاف وقائعها وأحداثها. إن ساسة الغرب عادة ما يستغلون«الأحداث» ليصموا ليس المسلمين فقط بل رسالتهم بأنها رسالة عنف لا تتجاوب ورقَّة العالَم وشفافيته، أو أحياناً يختلقونها للا ستفزاز. وتأتي الردود غير المعتدلة التي تتمثل إما بالتنازل عن المسلَّمات أو العمل بخلافها وكل ذلك لا يخدم الحقيقة شيئاً. فمن المسلمين من يُشْعِر«الغرب» بأنهم وهم في الهواء سواء، في حين يحتدّ آخرون في مفهوم الإسلام وخصوصيته حتى يؤصّلوا لقطيعة العالم مع رسالة هداه. وكم يجني الأول والآخر على هذا الزمن المحتاج إلى الحقيقة دون مزايدة أو نقصان. كثير من العلماء والخطباء والمفكرين يتحدث عن خصوصية الإسلام والمسلمين ويعمّق هذا المفهوم في مقابل تسيُّد الثقافة الغربية وتعميمها الذي نعيشه كل يوم، وهذا التكريس والتكديس لهذا المفهوم أصَّل في الناس الانكفاء على الذات والشعور بأنهم شيء والعالم شيء آخر، وكأن رسالتهم لهم وحدهم والعالم بأسره«دعه يغرق»!!. وعليه فكلٌ- الآن- يحذّر من الاقتراب من الآخر! وهذا التصديد للعالم عنا«عن رسالتنا» ونحن عنه مخالف- في تقديري- لمرادات الشريعة الربانية، بل وتقبُّل للإسقاطات الإعلامية والنفسية لتجزيء الشريعة الإلهية وتحجيمها ما أمكن. ومن هنا فأمام الهيمنة الواضحة للمرادات الغربية وعولمتها تجد عدداً من الكتَّاب والناصحين انجراراً«لفخ التقييد» قائلة بلسان حالها أو مقالها«رجاء لا تقترب مني!» فأنا رسالة مجتمع لي خصوصية في التعامل وطريقة في التفكير«فآمل عدم الإحراج»!!. إن هذا التقمُّص للدور الانهزامي هو أعلى المقاصد التي يريدها من لا يريد بالعالم خيراً، من خلال إشعارك بالصغر والصّغار ومحاولة التفتيش- منه أو منك- عما يخصُّك ويميّزيك وأنك شيء والعالم شيء آخر- وهكذا.. حتى يجسِّد للعالم أنك بينهم غريب.. كريب..، لك شيء من القداسة ولا تريد من أي أحد أن يمسّها لتعيش معها ضارباً بينك وبين العالم ما استطعت من جدر وحصون!!. أوليس في هذا خدمة لهدف الشانئين وتعميق لهذا المنطق؟!، ومن ثم إشعار العالم بأن ليس في الإسلام ما يصلح لشؤونهم فهو خاص بأناس لهم خصوصيتهم!. إن هذه الحالة من التمارض والتحلل والانكماش لا تتفق وطبيعة الرسالة المحمدية، ولذلك فالانجذاب للخصوصية التي تربّي في الناس الانعزالية وكأن العالم ملك للغرب أو لثقافته أو أي وجهة أخرى غير وجهة الخالق، هو تسليم للأمانة لغير أهلها وتجسيد مشوّه لحقيقة الإسلام ورسالته. وعليه فاستشعار الإسلام بأنه خصوصية محلية وإقليمية أو رسالة شخصية هو جرم في حق الرسالة نفسها. إن انفساح الفضاء الزماني والمكاني لرسالة الغرب أن تنتشر وتجييش الوسائل والقنوات في تسويقها وكأن لها الحق«وحدها» في مخاطبة العالم كما تريد، وكيفما تريد، وأينما تريد، هو قعود عن القيام بما أوجب الله«علينا» تجاه أخلاقيات الإسلام وحضارته من جهة وتكريس لهذا الواقع من جهة أخرى، بل تشكيل مخيف لمستقبل العالم«وتصديق للفوكويامية في انتصار الرأسمالية»، وبالتالي الرضا بأن نكون مستجْدِين ومستهلكين لا فاعلين ومبدعين!!. وفي الجانب الآخر من المعادلة يشتد ألمك لمن يقول«الحمدلله الذي سخر لنا الغرب الذي يصنع ونحن نركب ويتعب ونحن ننام»!!. أوليس في هذا قتل للتفكير فضلاً عن الطموح فيما يخدم الأمة ومستقبلها. إن من الناس من لا يفكر إلا بأكله وشربه وملذاته ويحسب أن بينه وبين الله نسباً حتى يديم عليه النعمة!. وكم يجني أولئك الذين لا يعملون ليس فقط على أنفسهم وذويهم بل على مجتمعهم وأمتهم وقبل ذلك وبعده على عقيدتهم وثقافتهم. إن هذه الصورة المتمارضة والمتسفِّلة تصورنا على غير حقيقتنا وتعطي لغيرنا أياً كان شعوراً بأننا وضعاء ليس لدينا ما نحمل همَّه، وبالتالي يتعامل معنا وفق هذا المنطق الذي نحن خلقناه لا غيرنا!؟. إن من غريب الفهم أن تشعر بأن غيرك مسخَّر لك وأنك فقط مسخَّر لخدمة نفسك ومن ثم دائماً ما يشغل مساحة تفكيرك وسلوكك تلك القضايا التي تحبها وتهواها غير مبالٍ بما يحدث أو بما يمكن أن يحدث. وبالتالي تستسقط من الأقوال والأفعال ما يتناسب وذاك. وكم من عائب قولاً صحيحاً.. وآفته من الفهم السقيم. إن الشعور بالخصوصية والرضى بها والاستكانة إليها، وتلمُّس بريقها حتى لا يصدأه«الآخر»، هو قعود غير مبرَّر عن نشر خيرها الذي هو جزء متأصل في طبيعتها. وهذه الحالة تعكس«بخلاً» ليس في بذل المال، بل ما هو خير منه ليسعد به الإنسان أياً كان، وأينما كان..، وكأن الحالم بالخصوصية- هنا- يريد أن يقي نفسه دون غيره من الناس عذاب الله، وفي هذا أيضاً مخالفة«للخيرية» التي فضل بها المسلم على الناس، فقد«كنتم خير أمة» لماذا..؟ كم من الخير يجنيه العمل الهادئ، وكم من الشر تجنيه العجلة، وهذه سنَّة كونية لاتحتاج إلى مزيد إثبات وبراهين. كم تحتاج الصورة التي شُوِّهت- حقاً أو غير حق- إلى سنين حتى نعيد لقسمات وجهها البرق، ومن ثم إشعاع النور!.. وكثيراً ما يختصر المتحمِّس تبعات الجهد والمسؤولية.. فيقف في أول الطريق أو منتصفه!، وبالتالي يخسر مشروعه، ويخذِّل من خلفه!. إن الواقع الحالي والمرحلة التاريخية التي نعيشها تحتاج إلى مقارعة الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة، والعمل بالعمل، والمشروع بالمشاريع وبالتالي تسويق«الرسالة الأخلاقية»- رسالتنا- من خلال قنوات تتناسب وطبيعة الحدث والحال ومرحليته، وكم في التاريخ من عِبَر، فيوم أن كنا- في التاريخ- أسياداً كانوا- لدينا- طلاباً نابهين، ويوم أن كانوا- كما هو الحال- أسياداً كنا جمهوراً مستهلكين!!! وشتَّان بين من يطلب ليعمل وينتج ومن يطلب ليأكل ويزعج. ليس من أبعاد هذا الحديث- أيها القارئ الكريم- أن نكون كالغربيين أو أن نشعر بأننا وإياهم سواء فصبغة الله ليست محل مداهنة أو مقارنة، ولكن المشكل أن ننشغل أو نُشَغل أو ننحصر أو نُحصَر في عملية المحافظة والخصوصية وكأننا كُتِبت علينا الرهبانية أو كأن قدرنا هو الرهبانية لا الشريعة الإسلامية. مخرج: هناك جهات وجهود ومشاريع كثيرة- لا يتسع المجال لذكرها الآن- تفيد في فكّ انعزال الخصوصية وانكفائها لتصل إلى ما يتناسب وطبيعتها وذلك الخير كله، وللعالم كله، فليس العالم الإسلامي هو عالمها بل الكون كله، وليس العرب- فقط- هم حملتها بل أبناء العالم كله، ويوم أن نستشعر هذا قلبياً ونفعله عملياً بدءاً بتعميق العلاقة قبلاً بين المسلمين أنفسهم من خلال التعاملات البينية فيما بينهم ثقافياً وتكنولوجياً وعلمياً وسوقاً مشتركة.. وغيرها من المشاريع، ومن ثم الانطلاق من خلال خزينة مليئة بخيري الدنيا والآخرة فهذه في القبول أرجى وفي العاقبة أسلم. إن الشعور بأننا غير مؤهلين بعد لتحمّل المسؤولية، وإحالة ما يعيشه واقعنا على سعة رقعته الإسلامية الى الغرب ليتكّرم بحلّه هو في الغرابة ليس بغريب لأن الوجهة غربية!، وإلا ففي الأمة من الخير لو عزَّزت ثقتها بنفسها بعد ربها ما الله به عليم. ولربما يبرر البعض قعوده وعدم إنتاجيته بإشكال القيادات، وأنها تقف حائلاً أمام الأفكار والمشروعات - صغيرة أو كبيرة - لسبب أو لآخر..، وهنا فالفضاء أمام المفكرين والمثقفين لاحدَّ لسعته بدءاً بإشعارالقادةوالساسة بالمسؤولية تجاه رسالتهم ورعاياهم، بل وفي أبعاد المشاريع التنموية والخيرية ما يجعل الأمة تقدِّرهم وتكسب ودَّهم.. ولكن القادة أيضاً بشٌر يريدون فعلاً.. لا قولاً!. فهل من مشاريع عملية جديدة تعزِّز الوعي العلمي والعملي وتبني الثقة وتشعر الأمة بمدى حجم مسؤوليتها وضخامته لتحِّول حقاً ومعنى- وحياً وعلى الهواء مباشرة- معنى الخصوصية إلى العالمية تجسيداً لأمر الله في الأرض وإيصالاً لرحمة الله إلى الخلق{وّمّا أّرًسّلًنّاكّ إلاَّ رّحًمّةْ لٌَلًعّالّمٌينّ }. لم لا نعمل على صناعة القبول لا الرفض لرسالة الله كما أرادها هو سبحانه لا نحن؟!. أخيراً.. لئن كان الغرب يريد من خلال عولمته- للعالم- تعميم مصالحه..، فإننا نريد من خلال«رسالتنا» تعميم صالحه. لفتة: «طوبى للغرباء لا تعني الانكفاء على النفس، والصلاح إذا فسد الناس، بل يصلحون ما أفسد الناس». [email protected]