** إن فاعلية الخطاب ترتكز على مبدأ العودة الى الحالة الاشارية الأولى صيغة وتشكيلاً، فالضمائر تتجسد في «المخاطب المنادى» الذي يتجلى شاعراً وعاشقاً وحبيباً ومحباً، وفي ضمير المتكلمين الذين ينضوون تحت إمرته، وكذلك الضمير المتكلم ا لمطرد ممثلاً في (الأنا الشاعر) كما تتجسّد في ولع ظاهر بأبسط صور المجاز متمثلاً في التشبيه أو في المشاهد الحسية وفي أحيان نادرة في التجريد. ثمة تفتيت للصيغ في وحدات لغوية تتناثر عبر الأسطر الشعرية ليعاد تركيبها من جديد أثناء القراءة، حيث يكون رصفها عبر الدورة الدلالية المراد تفعيلها، لقد عمد الشيخ إلى العمل على تشكيل توافقات الإيقاع الخارجي، واستعارة الضمائر ومراوغة مرجعياتها في صياغات شعرية دالة. ثمة مفارقة في التشكيل تتمثل في المَنْطَقةِ والتمثيل والخطاب الحميم، أما المَنْطَقَة فتتمثل في سلسلة من المشاهد المتخيلة المفترضة، حيث يتخيل الشاعر صاحبه في أوضاع مختلفة (مُفْتَرَضَة تتجسَّدُ في مقاطع غنائية تصور أشكالاً من الغناء (والتَوَحُّد الواحد في الآخر) «يا حبيبي الذي كان لي قدحاً يصطلي قرب ناري الصغيرة هل كنت لك أم تراك الخلي» هذا المشهد التمثيلي الذي يوغل في حسِّيته يتناهى في تجريديته، انه هنا يقترب من الرمز الأيقوني الذي يتداخل مع الرمز الايحائي. إن الدارس لمثل هذا النوع من الشعر لابد أن يبحث عن تمركز الدلالة في بؤر مجازية أو تركيبية وأن يلاحظ اتجاه الحركة في توزيع المقاطع بحثاً عن مساحة كل مقطع ونوعية الإشارات فيه، ودرجة كثافتها وترميزها ومونولوجاتها. ** فالمقطع الأول تتوزّعُ على ساحته رموز الكتابة والابداع في ذروة توهجها العاطفي (المرأة) وفي الثاني تتبدّى العملية، وقد انتهت الى (الحروف القتيلة) والمقطع الثالث وهو مقطع رقمي يحصي عبر مفارقة الأرقام حالات الوجد والفناء، ويأتي المقطع التالي ليكرس (جمرة المكان والزمان) ثم يختتم بغناء طقسي وهذه المقاطع الفرعية تنطوي تحت مقطع كلي حيث يأتي المقطع الآخر تستدرج عبر التداعي جذور الإبداع الأولى مقترنة برؤية اجتماعية ماثلة في (ترف الصعلكة). أما المقطع الثاني فيتخذ من كونية الإشارات والرموز منطلقاً لكينونة جديدة (الحجر والجبال والشجر والصبح والعصر والمطر والندى والهواء) حيث تتبدى الحرية على مساحة الفضاء كله حُضوراً وانفتاحاً. وفي المقطع الرابع تتجلى عذرية الخلق على ريشة الصديق الفنان، ويكون الإبداع ترسيخاً لتجليات الوجود في جزئيات يتداخل فيها الكوني والإنساني «كصباح تأخر في نومه.. كيتيمٍ وليكن أن يطل حبيبي» إن خَطَّي (التداعي والاستقصاء) يشكلان الأساس في تقنية التشكيل، ويضفى عليها عنصر الزمان والمكان تماسكاً يفضي إلى دلالاتٍ متكاثرة حيث المشرَبيات والممرات والصمتِ والغياب والحضور، والصمت هو مناط التجريد ومفترق الدلالة. ثمة وجود حسّي مائز في الصورة بعيداً عن تعقيدات النظم وألاعيب الوصف، ولكن مراوغات الضمائر توحي بما هو اكثف وأرحب. ** وربما كانت هذه القصيدة التي استهل الشاعر بها (بهو الأصدقاء، الأطول جاءت تحت مسمى (فوضى الكلام) لتؤشر إلى حقيقة مهمة تتصل برؤية الشاعر ممثلة في تركيزه على الخطاب الابداعي عاملاً على تفكيكه من أجل اعادة بنائه وتشكيله في فضاء الرؤية الشعرية، فهي في مجملها ترتكز على مسألة الخلق والإبداع والتشكيل على النحو الذي يستبطنه كما يتبين من الاهداء إلى (أحمد الشملان في البحرين). ** أما النموذج الثاني من قصائد الأصدقاء فأقرب إلى (البروتريه) كما يتضح من العنوان (وجه)، وسبيل التشكيل في هذه القصيدة هو الرسم، وإذا كان الرسام يركز على الوجه فإن الشاعر يفارق هذا التوجه ليقدّم مشهداً أدل فيقرن الوجهَ إلى الطاولة فالأصابع فيما يوحي بعُدَّة الابداع وهوامشها (التبغ والقهوة والصحف) ويستبدل بالجاهز المرسوم عملية الرسم وأنها في حوار مع الوجه وتقاطيعه، ويمتزج في تصوير المراحل فيعطي البعد النفسي الكاشف أولوية ليقدم مشهداً منحازاً إلى الحياة، ثم مرحلة الموت حيث النظر أكثر بهاءً وجلالاً، وحيث (الخطاب/ التأبين) هو المنطلق والمدخل . ولاشك ان (خطاب الآخر) المستغرق في الغياب يأخذ بعداً طقوسياً يعطي الموقف مهابة ويمنحه شاعرية تنأى. عن (القرصنية والتقليدية) وترقى إلى مستوى عميق يمنح الابداع وجهه، ويجعل النموذج المقدم (عبر النفي المتكرر) في نسق متصلٍ متفرِّداً ينبئ عن موقف الأنا (الشاعرة) اتجاهه، وهو موقف من الإبداع وموقف من الرؤية التي ينتمي إليها النموذج. ** إذا كان الإهداء ينمُّ عن طبيعة النموذج، فإنه أيضاً في مواقع أخرى - يكشفُ عن طبيعة المرحلة التاريخية والموقف منها ففي قصيدة (التباس المجاز) التي أهداها الشاعر إلى حيدر عبدالشافي رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض الى مؤتمر مدريد الذي عقد عام 1991م، يستهل الشاعر قصيدته بالرفض المطلق ويتمثل في سلسلة من أساليب النفي مُسلَّطة على التضاريس الحسِّية لهذه الوثيقة «جواز السفر» والصورة والكتابة ثم عبر بعض التجليات التي تتداخل أنساقها المنفية مع نصوصٍ تراثية وشعائر ذات دلالة، ولعل الابرز قوله: «آه يا مرأتي.. دثريني في حماك حتى تصير البلاد بلادي» رؤية استشرافية تحمل موقفاً ورؤية، وتسجِّل رفضاً لممارسة سياسية، وهي صورة قريبة لا توغل في شعريتها ولكنها تجهد في أن تنضمّ الى سياقها الشعري. ** وإذا كانت هذه النماذج التي أشرت اليها تعبر عن مرافق ذات بعد موضوعي: إبداعي وإنساني وسياسي مشمولة في رداء ذاتي، فإن قصيدة «عبور» بما تشير اليه تكشف عن نموذج عاطفي وتجربة اجتماعية انسانية ذات بعد وجداني ولكنها تنسجم مع التجربة «البيوجرافية»، وقد عمد إلى أسلوب الخطاب «المناجاة» في تشكيله للأنموذج على نحو ما فعل مع النماذج الاخرى: التوصيف عبر الفعل المضارع واسم الاشارة وعبر التفاصيل الحميمة التي تنثال من الذاكرة المشتركة، لم يكن من الممكن رسم (البروتريه) في هذه الحالة لأن العلاقة هي مناط الشعرية، والتجربة هي الانموذج والتواصل هو المثال» وكلما ازدادت شعرية الحالة اقترب الشاعر من نماذج التفصيل مع سلم التجريد. كان ينقصني كي اطل على فرحي ان نكون معَاً في عروق المدينة مثل بريق التعارف في الحافلة أو أنين الحكايات خلف الصور قصيدة: اما «عولمة» فهي تشكيل لرؤية فلسفية تنبع من الواقع وتتجاوز الاجتماعي إلى العالمي، ولكن في إطار التجربة الذاتية التي حرص الشاعر على أن يتحرك في حدودها، جامعاً بين أشتات متباينة من التفاصيل ترمز إلى أبعاد «العولمة» اقتصاديا وثقافياً في منظور «استهلاكي» أوحى به من خلال حديثه عن الفاكهة والمعسل والشاشة، ولكي يخرج من شرنقة الدلالات الحسية المباشرة خلع على هذه التفاصيل سمات الحركة والدينامية المتصلة عبر إيجاد علاقة خفيفة بينها وعبر عقلها إلى تفاصيل الحياة اليومية وجزئياتها الحميمة. «الحروف تلمع في ظهيرة تلك الكتب التي أحياناً أقذف بعضها تحت طاولة الطعام وتضع ضفيرتها القليل في سريرها. ان تفعيل الضمير المتكلم بوصفه احد العوامل المهمة لتشكيل هذه المفردات من دوالها وإشاريتها المباشرة الى آفاق شعرية، وكذلك الانتقال إلى الضمير الآخر الغائب «المروي عنه» باتجاه تشبيه بالقفز التمثيلي الى الملحمي المهم من تشكيل الرؤية التي عمد الى مصادرة «دراميتها» المنتظرة تعبيرا عن هيمنة الصوت الواحد. هكذا تشكل بهو الاصدقاء في رحم التجربة الذاتية لكي تتكشف الرؤى، ولعلنا في حلقة قادمة نتقدم الى بهو الجداريات.