مدير عام جمعية كبدك ..الخير بتنامي ومجدنا يسير مع الدول العظمى    المركز الإحصائي الخليجي يشيد بمنجزات السعودية بمناسبة اليوم الوطني ال 94    ضبط منشأة مخالفة أطلقت أسماء شخصيات اعتبارية سعودية وخليجية على عطور    استشهاد أربعة فلسطينيين في قصف للاحتلال الإسرائيلي على مدينة دير البلح    ملك الأردن يهنئ خادم الحرمين الشريفين بمناسبة اليوم الوطني ال 94    مركز الملك سلمان للإغاثة يوزع 840 سلة غذائية في ولاية كسلا بجمهورية السودان    القيادة الكويتية تهنئ خادم الحرمين بمناسبة اليوم الوطني ال (94) للمملكة    الأرقام ترجح كفة ميتروفيتش على رونالدو    فيصل بن سلطان: المملكة نجحت في صناعة نهضة فريدة في مختلف الأصعدة    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور "سليمان بن علي بن محمد الفيفي    تأهب إسرائيلي .. هل حانت «ساعة الصفر»؟    السعودية تشارك في جلسة الآمال الرقمية ضمن مؤتمر قمة المستقبل    إيران: 51 قتيلاً ضحايا انفجار منجم الفحم    "فلكية جدة": اليوم "الاعتدال الخريفي 2024" .. فلكياً    البديوي يؤكد أهمية دور المجتمع الدولي في دعم الأمم المتحدة لتنفيذ قراراتها الأممية    "الأرصاد" استمرار هطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هذال بن سعيدان    الموت يغيب مطوف الملوك والزعماء جميل جلال    أخضر تحت 20 عام يبدأ التصفيات الآسيوية بالفوز على فلسطين    رايكوفيتش: كنا في غفوة في الشوط الاول وسنعود سريعاً للإنتصارات    في كأس الملك.. الوحدة والأخدود يواجهان الفيصلي والعربي    ولي العهد يواسي ملك البحرين في وفاة خالد آل خليفة    مئوية السعودية تقترب.. قيادة أوفت بما وعدت.. وشعب قَبِل تحديات التحديث    صناديق التحوط تتوقع أكثر السيناريوهات انخفاضاً للديزل والبنزين    279,000 وظيفة مباشرة يخلقها «الطيران» في 2030    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الجزائري الأوضاع في غزة    وداعاً فصل الصيف.. أهلا بالخريف    «التعليم»: منع بيع 30 صنفاً غذائياً في المقاصف المدرسية    "سمات".. نافذة على إبداع الطلاب الموهوبين وإنجازاتهم العالمية على شاشة السعودية    دام عزك يا وطن    بأكبر جدارية لتقدير المعلمين.. جدة تستعد لدخول موسوعة غينيس    ريال مدريد يسحق إسبانيول برباعية ويقترب من صدارة الدوري الإسباني    "قلبي" تشارك في المؤتمر العالمي للقلب    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    اكتشاف فصيلة دم جديدة بعد 50 عاماً من الغموض    لا تتهاون.. الإمساك مؤشر خطير للأزمات القلبية    "الداخلية" تحتفي باليوم الوطني 94 بفعالية "عز وطن3"    يوم مجيد لوطن جميل    مركز الملك سلمان: 300 وحدة سكنية لمتضرري الزلزال في سوريا    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    أحلامنا مشروع وطن    "الداخلية" توضح محظورات استخدام العلم    مسيرة أمجاد التاريخ    صور مبتكرة ترسم لوحات تفرد هوية الوطن    الملك سلمان.. سادن السعودية العظيم..!    خمسة أيام تفصل عشاق الثقافة والقراء عنه بالرياض.. معرض الكتاب.. نسخة متجددة تواكب مستجدات صناعة النشر    تشجيع المواهب الواعدة على الابتكار.. إعلان الفائزين في تحدي صناعة الأفلام    مجمع الملك سلمان العالمي ينظم مؤتمر"حوسبة العربية"    «متحالفون من أجل إنقاذ السودان» تطالب بحماية المدنيين ووقف الهجمات في الفاشر    مصادر الأخبار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. تنظيم المسابقة المحلية على جائزة الملك سلمان    فأر يجبر طائرة على الهبوط    حل لغز الصوت القادم من أعمق خندق بالمحيطات    إقامة فعالية "عز الوطن 3"    الابتكار يدعم الاقتصاد    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة يستأصل بنجاح ورماً ضاغطاً على النخاع الشوكي    أبناؤنا يربونا    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



50 عاماً على نهاية أضخم ملاحم التاريخ الإسلامي في العصر الحديث
الملك عبد العزيز منهاج حكم وحياة تتجدد
نشر في الجزيرة يوم 16 - 05 - 2002

يصادف اليوم الثاني من ربيع الأول لعام 1423ه مرور 50 عاما على وفاة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - مؤسس الدور الثالث من أدوار الحكم السعودي، ولا شك ان هذه المناسبة عزيزة على كل مواطن من مواطني هذا البلد. ويحسن بنا في هذا المقام ان نستعرض سيرته الطيبة لتكون نبراسا للأجيال لما اشتملت عليه من التقوى ومعاني الشجاعة والرجولة ومكارم الأخلاق. فرحم الله الملك عبدالعزيز وأبناءه البررة الذين واصلوا مسيرة الخير من بعده، وحفظ الله لنا خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني الذين التزموا نهج والدهم المغفور له - بإذن الله - في إدارة الحكم وحب الشعب، حتى لكأن عبدالعزيز متمثلا بيننا في أبنائه الميامين.
«من عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن سعود الى شعب الجزيرة العربية:
على كل فرد من رعيتنا يحسُّ أن ظلما وقع عليه، أن يتقدم الينا بالشكوى، وعلى كل من يتقدم بالشكوى، ان يبعث بها بطريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا، وعلى كل موظف بالبريد أو البرق ان يتقبل الشكاوى من رعيتنا، ولو كانت موجهة ضد أولادي أو أحفادي أو أهل بيتي.
وليعلم كل موظف يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية عن تقديم شكواه - مهما تكن قيمتها - أو حاول التأثير عليه ليخفف من لهجتها أننا سنوقع عليه العقاب الشديد.
لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم، ولا أريد أن يحمِّلني الله وزر ظلم أحد، أو عدم نجدة مظلوم أو استخلاص حق مهضوم.
ألا قد بلّغت.. اللهم فاشهد..»
عبد العزيز آل سعود
ميلاده ونشأته
ولد عبدالعزيز في قصر الإمارة بالرياض سنة 1293ه 1876م وعهد به أبوه - الإمام عبدالرحمن - الى القاضي عبدالله الخرجي، من علماء الخرج فتعلم مبادىء القراءة والكتابة، وحفظ سورا من القرآن الكريم، وقرأه كاملا على الشيخ محمد بن مصيبيح، ثم تلقى بعض أصول الفقه والتوحيد على يد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف في كراسة صغيرة أعدها خصيصة له.
وقد أحسن استعمال البندقية وركوب الخيل كأحد الفرسان، وهو في سن الصبا. وكان في السابعة دائم الحركة، لا يستطيع الاستقرار في مكان واحد فترة طويلة. ويذكر الذين رافقوه في صباه انه كان يفوقهم نشاطا وذكاء، وأنه كان يتزعمهم دائما في الألعاب، وأنه كان يميل الى سماع تاريخ جده الإمام فيصل من بعض الشيوخ المسنين في الكويت. وروى خالد الفرج: «ان الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين أراد ان يلاطف «الفتى» عبدالعزيز فسأله: قطر أحسن أم البحرين؟ فأجابه عبدالعزيز على الفور: الرياض أحسن منهما.. فقال: سيكون لهذا الغلام شأن».
وأول ما عرف التاريخ عنه خروجه من وفد الصلح سنة 1307ه بين أهل الرياض وابن رشيد المحاصر للرياض، وكان أميرها يومئذ والده الامام عبدالرحمن، وكان هذا الوفد يتكون من الأمير محمد بن فيصل والشيخ عبدالله بن عبداللطيف والأمير الشاب عبدالعزيز بن عبدالرحمن. ولم يطل أمد هذا الصلح.
فقد ضعف الحكم واستقل كل اقليم بحكم ذاتي ودبت الفوضى من جديد.. ورحل أكثر آل سعود عن الرياض.
وكان من ضمن من جلا عن الرياض الإمام عبدالرحمن بعد ان حكمها ما بين عامي 1307ه - 1309ه وقد تنقل الإمام عبدالرحمن في البادية يلتمس مأوى ينأى به، وبمن معه عن العدوان وقد حرص على ان يضع عائلته في مكان آمن فقال يوما لابنه عبدالعزيز: امض يا بني الى ابن الخليفة «الشيخ عيسى حاكم البحرين» وحدثه بما نحن فيه، واستأذنه لنسائنا بالإقامة في جواره. وأنيخت الركائب، فامتطى عبدالعزيز احدى نياقها.. وعاد بعد أيام يحمل إذن ابن خليفة للنساء ومضين الى العقير حيث ركبن السفن الشراعية الى البحرين ومعهن عبدالعزيز وأخ له يليه في السن اسمه «محمد» وكان على عبدالعزيز بعد استقرار الأسرة في البحرين ان يعود الى مضارب أبيه في الصحراء. أما أبوه عبدالرحمن فما كان ينفرد بعد رحيل الأسرة حتى عاوده النزوع الى مصاولة من في الرياض وما حولها من رجال آل رشيد. فجمع أنصارا من أعراب البادية وصحبه ابراهيم بن مهنا الصالح من «آل أبا الخيل» وانثنى زاحفا سنة 1309ه - 1891م، فاستولى على الدلم «قاعدة الخرج» وطرد من كان فيها من أتباع ابن رشيد.
وكان ابن رشيد «محمد بن عبدالله» بعد خروج عبدالرحمن من الرياض، قد ولى محمدا «أخا عبدالرحمن» إماراتها، فدخلها عبدالرحمن مسالماً. ثم سار منها الى المحمل، ونزل في حريملاء على مرحلتين من شمالي الرياض. ووصلت أخباره الى ابن رشيد، وهو في حائل، فأسرع بجيشه. فكانت المعركة في حريملاء، وانهزم جمع عبدالرحمن، وقتل عدد من رجاله وأنصاره وقفل عائدا الى مخيمه في البادية. فأدركه عبدالعزيز في أطراف منازل العجمان. وامتدت اقامة الامام عبدالرحمن وابنه عبدالعزيز ومن معهما هذه المرة حوالي سبعة أشهر في قفار تقطن بعضها قبائل من آل مرة، وبعضها قبائل كثيفة من العجمان، ليست بعيدة عن الاحساء كل البعد، ولكنها قفار وعثاء على أي حال. وبدأ عبدالعزيز يألف البادية ويجاري أبناءها في احتمال مكاره العيش، والصبر على الظمأ والجوع والتعب وافتراش الأرض والتحاف السماء. وقد وجد عبدالعزيز نفسه، قبل ان ينضج شبابه يدخل في المفاوضات ويقوم بالسفارات ويألف خشونة الحياة، ويختبر تقلبات الزمن وطباع الناس.
كان شيخ قطر قاسم بن ثاني أريحيا جوادا كتب اليه عبدالرحمن يصف ما هو فيه، فأجابه ابن ثاني مرحبا وانتقل الجميع الى قطر. وفي دليل الخليج ان عبدالرحمن أقام في ضيافة شيخ الدوحة في قطر، من صفر الى جمادى الأولى 1310ه ولحقت به أسرته التي كانت في البحرين. وطرأ على سياسة الدولة العثمانية ان تتفق مع ابن سعود - عبدالرحمن - لتأمين تحركاته، فأرسل اليه متصرف الحسا يستدعيه، فأجاب الدعوة وتم الاتفاق بينهما على ان يقيم هو وأسرته في الكويت، وتدفع له الدولة ستين «ليرة» مشاهرة. وقلما كانت تدفعها، وقبل ابن صباح إذ ذاك أن يتوطنوا بلاده، فانتقلوا إليها من قطر سنة 1310ه 1892م.
تبلور شخصيته
أدرك عبدالعزيز في طفولته بقايا عهد النعيم في عروس الصحراء «الرياض» وذاق مرارة الشظف في شمالي الربع الخالي حول «يبرين» وتفتحت عيناه فرأي العالم في الكويت.
وقد جاءها بنساء الأسرة من البحرين، ونزل معهن - قبل حضور أبيه - في دار أعدها ابن صباح، مؤلفة من ثلاث غرف قضى عبدالعزيز فيها حوالي عشر سنين من عنفوان حياته.
ويرى أكثر من كتبوا عن عبدالعزيز ان «الكويت» كانت مدرسته التي تلقى فيها فن السياسة العملية، وان أيام الشيخ مبارك المليئة بالمناورات والمحاورات كانت تنطبع مقدماتها ونتائجها في ذهن عبدالعزيز، وقد اشترك في بعضها حين آنس فيه مبارك صفات الألمعي اللبق، فقربه منه وفسح له المجال لحضور مجالسه والاستماع الى أحاديثه مع ممثلي الحكومات الانجليزية والألمانية والتركية. واحترب ابن رشيد ومبارك، وانتهز عبدالعزيز فرصة أقنع بها مباركا بأن يقوم هو منفرداً بقوة الى الرياض، فيضطر ابن رشيد ان يقاتل جيشه في مكانين مختلفين، وفارقه على غدير شعب يسمى «الشوكي» في الجانب الغربي من الدهناء وبقي عبدالرحمن مع مبارك.
اجتاز عبدالعزيز ما بين الشوكي والرياض في يومين، وتصدر له حامية الرياض، وجلها من رجال ابن رشيد، يقودها عامل له اسمه «عبدالرحمن بن ضبعان» فقاتلها ودخل المدينة. ولجأت الحامية الى حصنها «المصمك» فعزم عبدالعزيز على حفر نفق اليه وباشر رجاله العمل. على ان المعركة لم تنته بسلام؛ فإن جيش مبارك الصباح اشتبك بعد أربعة أشهر في معركة حامية مع ابن رشيد، في مكان يسمى «الصريف» على مقربة من «الطرفية» في القصيم يوم 17 ذي القعدة 1318ه 7 مارس 1901م وفاز ابن رشيد وانهزم ابن صباح الى الكويت، ولم يرد عبدالعزيز وهو في الرياض ان يتعرض لمقاومة قوى ابن رشيد المنتشية بالنصر، ودعاه أبوه للعودة الى الكويت، فأجاب، وانصرف اليها بمن معه. والرأي قبل شجاعة الشجعان.
ولم تطل اقامة عبدالعزيز في الكويت هذه المرة، وقد ذاق حلاوة الظفر في الرياض قبل شهور، فأكثر من التعريض لأبيه بعزمه على المغامرة الثانية، فما أجيب بغير الزجر والصد. ولقي أباه ساعة على انفراد خارج المدينة فأراد الحديث وأعرض أبوه فأصر. جلس الإمام عبدالرحمن وأمامه الشعلة المتوقدة، ابنه عبدالعزيز، يقول: أنت بين خطتين، إما ان تأمر أحد عبيدك بانتزاع رأسي من بين كتفي فاستريح من هذه الحياة، وإما أن تنهض من توك فلا تخرج من منزل شيخ الكويت إلا بوعد في تسهيل خروجي للقتال في بطن نجد.
وافق عبدالرحمن متململاً بعد تصميم عبدالعزيز وهرع الى مبارك الصباح يسأله تسهيل الأمر، ولا أحب لمبارك من هذا. وفي الهزيع الأول من تلك اليلة كان عبدالعزيز يملك أربعين ذلولاً وثلاثين بندقية ومائتي ريال، معونة من مبارك، وأسرع إلى توديع أبيه وطلب رضاه.
استرداد الرياض.. الانطلاقة
انطلق عبدالعزيز على رأس تلك الفرقة الصغيرة والتي قوامها أربعون رجلا، وكان في طريقه يغير على القبائل الموالية لابن رشيد ويغنم منهم قدر استطاعته، وقد اجتمع حوله رجال من آل مرة وسبيع، واصطدم وهو في طريقه الى الاحساء ببدو تابعين لآل رشيد وهزمهم. واتخذ الاحساء قاعدة لتموينه. ومن هناك تقدم الى نجد واعترضه في سدير رجال من قحطان ومطير فقابل قوتهم بقوة وكتب الله له الانتصار عليها. وعاد من سدير الى الاحساء، ولما علم ابن رشيد بانتصاراته على القبائل المخالفة له؛ حرّض عليه ابن ثاني أمير قطر من جهة، وحكومة البصرة من جهة أخرى، كما حشد قوة عظيمة - بالتعاون مع حكومة البصرة - لمطاردته والقضاء عليه، بالاضافة الى اعلانه الحرب على من انضم تحت لوائه من القبائل والهجر؛ فتفرق الناس الذين التفوا حوله ولم يصمد معه إلا أربعون رجلا الذين خرج بهم من الكويت بالاضافة الى عشرين رجلا من أهل نجد قد انضموا اليه بعد ان سمعوا بخبره. ولما ضاق ذرعا بمطاردة ابن رشيد وانقطعت مؤونته وتفرق رجاله، لجأ الى الربع الخالي في واحة «يبرين» على مسافة 160 ميلا جنوب الأحساء. وكتب الامام عبدالرحمن، مشتركا مع الشيخ مبارك، الى عبدالعزيز، يدعوانه الى الكف عما هو فيه ويحذرانه العواقب، ويسألانه الرجوع الى الكويت.
تفقد عبدالعزيز رجاله في واحة يبرين، آخر يوم من رجب 1319ه 12 أكتوبر 1901م فلم ير إلا من صحبوه يوم مغادرته الكويت والعشرين الآخرين. فجمعهم حوله في مجلس للمداولة، وقرأ عليهم كتاب أبيه، ثم قال: «لا أزيدكم علما بما نحن فيه، وهذا كتاب والدي يدعونا للعودة الى الكويت، قرأته عليكم، ومبارك ينصحنا بالعودة، أنتم أحرار فيما تختارونه لأنفسكم، أما أنا فلن أعرّض نفسي لأكون موضع السخرية في أزقة الكويت. من أراد الراحة ولقاء أهله والنوم والشبع فالى يساري، الى يساري..» وتواثب الأربعون، بل الستون، الى يمينه. وأدركهم عزة الأنفة فاستلوا سيوفهم وصاحوا مقسمين على ان يصحبوه الى النهاية. والتفت عبدالعزيز الى رسول أبيه - وهو حاضر يشهد - وقال له: سلّم على الامام وخبره بما رأيت، واسأله الدعاء لنا وقل له: موعدنا ان شاء الله في الرياض».
وقد استبشر أهل الرياض به وبحكمه، وكان لاسترداد الرياض دويّ عظيم في الجزيرة العربية وأخذ الناس يتحدثون عنه في مجالسهم ومجتمعاتهم واعتبروه انتصارا باهراً لابن سعود على ابن رشيد.
وكتب عبدالعزيز الى أبيه بالكويت يستعجله في القدوم الى الرياض ليستنير بآرائه ويستفيد من تجاربه، وعندما اقترب والده من الرياض خرج عبدالعزيز لاستقباله على مسيرة ثلاثة أيام ودخل الرياض بحفاوة كبيرة من أهلها.
وبعد أيام أراد عبدالعزيز ان يبايع أباه مع أهل الرياض بالإمامة والإمارة. فأبى وأصر أمام جمع من العلماء ورجال الأسرة أن تكون الإمارة لولده فاتح الرياض. وأخيرا بايع الحاضرون عبدالعزيز بالحكم والإمارة حسب طلب أبيه عبدالرحمن.
الدور الثالث للحكم السعودي
ويعتبر الملك عبدالعزيز هو المؤسس للدور الثالث من أدوار الحكم السعودي وذلك بفتحه للرياض عام 1319ه حيث شرع بعدها في ضم الأقاليم واخضاعها تحت سيطرته وإعادتها تحت عصا الطاعة ولواء الجماعة. وقد خاض الكثير من المعارك في سبيل ذلك، وكان يقود الجيوش بنفسه تارة أو يؤمِّر عليها أحد أبنائه تارة أخرى. وهانحن نذكر الخطوات التي خطاها عبدالعزيز منذ ابتدأ معركته الأولى، حتى حقق وحدة بلاده في تسلسلها الزمني:
في عام 1319ه/1902م فتح عبدالعزيز الرياض، وكانت وحدها، خلال أشهر الدولة! ثم انضمت اليهاالخرج، والأفلاج، والحوطة والحريق، والدواسر. وفي الأعوام 1422ه، الى 1326ه أتم عبدالعزيز تحرير بلاد القصيم من الترك وابن رشيد والمتغلبة المحليين. وفي عام 1331ه/1913م حرر عبدالعزيز الأحساء من الترك وضمها الى نجد. وهكذا اتسعت رقعة البلاد التي يحكمها عبدالعزيز وزادت مواردها. وكان من ثمرات هذه الانتصارات الباهرة التي حققها عبدالعزيز، ان تنادى علماء نجد ورؤساء القبائل وحكام الأقاليم والوجوه الى مؤتمر عقد في الرياض عام 1921م، نادوا فيه بأميرهم الشجاع العبقري، عبدالعزيز: «سلطاناً» على نجد. وفي عام 1342ه/1923م: تم اخضاع عسير. وفي عام 1344ه/1925م: تم فتح الحجاز. وفي يوم الجمعة 25 جمادى الثانية عام 1344ه/10 يناير 1926م بايع أهل الحجاز لعبدالعزيز بالملك، وأصبح لقبه: «ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها». وفي عام 1927م نادى أهل نجد بعبدالعزيز ملكا على نجد وملحقاتها، فأصبح ملكا على الجميع. وفي عام 1349ه/1930م: انضمت تهامة عسير «بلاد الادارسة» الى ملك عبدالعزيز، وكانت من قبل مجرد حليفة أو «محمية». وأخيراً تم اعلان توحيد الممالك الخاضعة لجلالته باسم «المملكة العربية السعودية» في 21 جمادى الأولى عام 1351ه الموافق 22 سبتمبر 1932م، كما ذكر لاحقاً.
ومن ضمن معاركه الشهيرة معركة البكيرية والشنانة عام 1322ه والتي انهزم فيهاابن رشيد وخضع القصيم كله لسيطرة عبدالعزيز، كذلك في 17 صفر 1324ه في روضة مهنا والتي قتل فيها خصمه عبدالعزيز بن رشيد وانتصر فيها عبدالعزيز انتصارا ساحقا، ومن ذلك معركة الطرفية التي تآمر فيها ابن رشيد والدويش وأبي الخيل - من أهل بريدة - والعمارات وانضم اليهم سراً الشيخ مبارك بن صباح، فأدبهم الملك عبدالعزيز مبتدئا بالدويش، ثم ابن رشيد وأبي الخيل في الطرفية ومن معهم وكان ذلك ليلة الخامس من شعبان سنة 1325ه، أما حائل فقد حاصرها الملك عبدالعزيز مدة ثلاثة أشهر الى ان استسلم آل رشيد وانتهت امارتهم في 29 من صفر سنة 1340ه. وصدق الله إذ يقول: «ولينصرن الله من ينصره» وفي ذلك يقول الملك عبدالعزيز - رحمه الله - متحدثا بنعمة الله عليه ونصره له: «قد كنت لا شيء: وأصبحت اليوم وقد استوليت على بلاد شاسعة يحدها شمالا العراق وبر الشام، وجنوبا اليمن، وغربا البحر الأحمر، وشرقا الخليج.. لقد فتحت هذه البلاد ولم يكن عندي من الأعتاد سوى قوة الايمان، وقوة التوحيد، ومن «التجدد» غير التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، فنصرني الله نصراً عزيزاً. لقد خرجت وأنا لا أملك شيئا من حطام الدنيا ومن القوة البشرية، وقد تألب عليَّ، ولكن بفضل الله وقوته، تغلبت على أعدائي وفتحت كل هذه البلاد».
تأمين طريق الحج
كانت الأراضي الحجازية مضرب الأمثال في الجرائم وشناعة الاجرام، كان المسافر مثله مثل المقيم لا يأمن على ماله ولا على نفسه ليلا أو نهاراً. كانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة لدرء الأخطار عنهم وهذه القوات الخاصة ومعها القوات الحجازية لا تجدي نفعا في كبح جماح العصابات ومنعها من سلب الحجاج أو المواطنين الحجازيين وقتلهم وسلبهم وأيضا التمثيل بهم. حتى ظهرت مقولة «الذاهب الى الحج مفقود والعائد منه مولود».
وحالة نجد والمنطقة الشرقية هي ثارات وغارات ودماء تسفك لاتفه الأسباب فلا أمن ولا أمان ولكنها الفوضى والعدوان. لا أمن ولا أمان لأن أسباب حفظ الأمن غير موجودة، ضعف السلطة الحاكمة وعدم قدرتها على السيطرة وتوفير الطمأنينة للمواطنين وللوافدين والحجاج المارين والعمار والزائرين، لا حدود شرعية تقام على القتلة وقطاع الطرق ولا قطع يد لسارق. ولا يفوت علينا أن هناك جهلا مطبقا يخيم على الناس والفقر المدقع.. ولا ننسى ان ظلم الحكام واستبدادهم بالرعية له الدور الرئيس في افقاد الناس الاحساس بالأمن والطمأنينة.
يقول الملك عبدالعزيز: «إني مسافر الى مكة لا لأتسلط عليها، بل رفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله، إني مسافر الى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها، فلن يكون بعد اليوم سلطان إلا الشرع.. إن الذي أبغيه من هذه الديار أن تعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه في الأمور الأصلية، أما في الأمور الفرعية فاختلاف الأئمة فيها رحمة».
توحيد المملكة العربية السعودية
وفي عام 1351ه عقد اجتماع من كبار رجال الدولةوفكَّروا في اختيار اسم موحد للدولة وبعد مداولة الآراء اتفق الجميع على ان يكون اسم الدولة «المملكة العربية السعودية» ولقب الملك «ملك المملكة العربية السعودية» وصدر بذلك مرسوم ملكي في 21 جمادى الأولى سنة 1351ه الموافق 22 سبتمبر 1932م. وقد اعترفت جميع الدول بالمملكة وربطتها معها علاقات الصداقة وحسن الجوار.
وكان من نتائج هذه الوحدة ان تحول الأعداء في هذه الجزيرة الى اخوان وساد الأمن والعدل في البلاد وأمن الحجاج وحقن دم المسلمين بعد الصراعات والنزاعات القبلية.
النفط والشؤون الداخلية
في عام 1357ه الموافق 1938م تدفق النفط في المملكة بكميات كبيرة كثروة وطنية ذات قيمة اقتصادية في غاية الأهمية، وقد استعان جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - بالمشاريع الاقتصادية الكبرى كامتياز استخراج الزيت والتعدين والسماح لشركات أخرى بالعمل في البلاد؛ استعان بهذا كله لرفع مستوى الشعب الاقتصادي والمالي وتحسين حالة العمال والموظفين. وعن بداية تدفق النفط يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - حفظه الله - نقلا عن والده الملك عبدالعزيز ما معناه: «كنت خارجا أتفقد أحوال بعض أهل الرياض وطرقت باب بيت عجوز فقيرة أعرفها فلما فتحت الباب مدّيت لها كيسا فيه نقود وكنت متلثماً لكي لا يعرفني أحد فأصرت على أن أفك اللثام ولما فككته ورأتني قالت: عمي عبدالعزيز.. ثم اتجهت الى القبلة ورفعت يديها وقالت: ما نقول إلا إن الله يظهر لك كنوز الأرض.. آمين.. بعدها انصرفت وأنا أقول في نفسي ربما أنها تقصد بكنوز الأرض أن ينزل الله المطر وتخرج الأرض خيراتها فتخضّر الأراضي وتشبع البهائم وما الى ذلك.. ولم يدر بخلدي أنه هذا البترول الذي بين أيدينا الآن وهو بركة دعاء تلك العجوز». وقد اهتم الملك عبدالعزيز بالاصلاحات الداخلية بشكل كبير، وكان قد أسس في الحجاز المجلس الأعلى الذي تحول فيما بعد وتحديدا عام 1345ه الى مجلس الشورى والبلدية ومديرية المعارف والصحة والخارجية والأوقاف والمالية والشرطة والشؤون العسكرية. وأول وزارة في المملكة هي وزارة الخارجية التي تشكلت سنة 1349ه وعيّن الأمير فيصل بن عبدالعزيز وزيراً لها. واهتم بالبادية ووطّن أهلها ثم أمر بربط المملكة المترامية الأطراف بشبكة من الاتصالات اللاسلكية وأدخل السيارات الى المملكة والمذياع. ثم افتتح المطابع وحث على العلم وشجَّع عليه وصدرت بعض الصحف والمجلات وازدادت حركة البناء والعمران.
وفاته
حكم الملك عبدالعزيز ما يقرب نصف قرن وشاهد من عظمة ملكه مالا يوجد له مثيل في تاريخ أمراء الجزيرة أو ملوكها. وكان في آخر حياته رغم اشتداد المرض به لم يشأ أن يغير شيئا من عاداته أو يهمل عملا من أعماله الدينية أو الدنيوية.
وقد انتقل وهو في مرضه الى الطائف في أواخر سنة 1372ه وظل بها تحت الرعاية الطبية حتى وافاه الأجل المحتوم يوم الاثنين 2 ربيع الأول سنة 1373ه رحمه الله رحمة واسعة حيث نقل جثمانه الى الرياض وصلي عليه ودفن بمقبرة العود.
وقد ختم محيي الدين القابسي كتابه «المصحف والسيف» بهذاالعنوان «ألا قد بلغت.. اللهم فاشهد»، وقد أثَّر فيَّ كثيرا؛ لذا استحسنت أن أنقله كما هو مع نقل ما اندرج تحته من بيان على لسان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - خصوصا ان هذاالبيان كان عام 1372ه أي قبل وفاة الملك عبدالعزيز بعام واحد أو ربما أقل.
يقول: في العام 1372ه كان الداخل الى الحرم النبوي الشريف في المدينة يقرأ على باب المسجد البيان التالي:
«من عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن سعود الى شعب الجزيرة العربية:
على كل فرد من رعيتنا يحسُّ أن ظلما وقع عليه، أن يتقدم الينا بالشكوى، وعلى كل من يتقدم بالشكوى، ان يبعث بها بطريق البرق أو البريد المجاني على نفقتنا، وعلى كل موظف بالبريد أو البرق ان يتقبل الشكاوى من رعيتنا، ولو كانت موجهة ضد أولادي أو أحفادي أو أهل بيتي.
وليعلم كل موظف يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية عن تقديم شكواه - مهما تكن قيمتها - أو حاول التأثير عليه ليخفف من لهجتها أننا سنوقع عليه العقاب الشديد.
لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم، ولا أريد أن يحمِّلني الله وزر ظلم أحد، أو عدم نجدة مظلوم أو استخلاص حق مهضوم.
ألا قد بلّغت.. اللهم فاشهد..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.