هي الآن في الرابعة والسبعين من عمرها. متوقدة الذهن، ولأننا عرب فلابد أن نمسك الخشب، أو نردد الأدعية، فأنا مازلت أنظر شزرا الى الدادة حين تقول لي أن أبي أكل كثيرا أو ان صحته عال العال بدون أن ترفقها بما شاء الله.. لذا أقول ان سلمى الخضراء الجيوسي حين رأيتها كانت متوقدة الذهن، لماحة، سريعة البديهة، وتلاحظ برهافة كل ما يدور حولها (ما شاء الله). هذا بالاضافة إلى أناقتها الشديدة واهتمامها بكل التفاصيل، الماكياج الجميل الذي كانت تضعه على وجهها، المنديل حول عنقها والجاكيت السماوي اللون الذي كانت ترتديه. كل ذلك يشي بأنثى راقية على مختلف المستويات. شاعرة، ناقدة، وصاحبة أكبر مشروع ترجمة من الأدب العربي إلى الانجليزية في جامعة تكساس، أشرفت على الكثير من الترجمات من مختلف انحاء العالم العربي، ترجمات للشعر والنثر، لكن ربما انها شاعرة فأنت تلحظ لديها ميلا قويا للحديث في الشعر وعن ترجماته.. ترجمة الشعر الى الانجليزية صعبة، تقول د. الجيوسي وتقول ان ما لا يمكن ترجمته من أي لغة إلى اخرى هي البلاغة. وتضرب مثلا ببيت شوقي الذي تحبه كثيرا وتعتبره أعظم مغير حقيقي في الشعر العربي في القرن التاسع عشر والذي ينظر إليه الشعراء الآن على أنه كلاسيكي قال شعر المناسبات دون أن يضعوا في اعتبارهم حال الشعر في تلك الايام والركاكة التي وصل إليها. وللحرية الحمراء * * كيف يمكن ان تترجم بيتاً كهذا، وأي برود يسكنه حين يترجم، لن تهز هذه الابيات التي تهز العرب أي قارىء بأي لغة، وهذه الأحاسيس التي تتملكنا حين نقرأ هذا البيت تتلاشى حين تتحول هذه الكلمات الى اللغة الانجليزية التي تعتبرها د. سلمى لغة خالية من العواطف، وهي بالمقابل تعتبر ان اللغة الفرنسية أكثر عاطفة منها. حين تبدأ د. سلمى الخضراء الجيوسي بالحديث، حديث الأدب والشعر والنمو العضوي للشعر الذي تعتبره كائنا حيا ينمو ويتنفس ويكبر ويمر بمراحل عديدة لا يمكن ان يتم بترها أو استعجالها او القفز فوقها، لا يسعك في ذلك الوقت سوى أن تجلس منصتا لهذه السيدة التي تعي كل حرف تتفوه به والتي أمضت عمرها تبحر في هذا البحر الواسع الكبير الذي لا يمل منه سامع أو طالب علم (الشعر العربي). والدكتورة الجيوسي كأي شاعر او شاعرة نادرا ما يعجبه شاعر آخر أو يكون قراءة إيجابية حيالهم، شاعران فقط تذكرهم د. سلمى بإجلال وبحب شاعران ماتا منذ زمن هما شوقي والسياب، كانت تحب السياب كثيرا، تذكر صوته الرائع وهو يلغي الشعر على ضفاف النهر في العراق (أقول للخليج يا خليج) تتمثل الدكتورة صوته، وتقول انها بكت عليه أسبوعا كاملا حين مات، ويبدو التأثر عليها، حتى بعد كل هذا الوقت وهي تتحدث عنه، وتعتقد أن شأنه كان سيكون كبيرا في الشعر العربي تقول بحزن لكنه مات. * * لم تتلق رسالة شكر من أي من الشعراء الذين ترجمت لهم سوى واحد هو الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله تقول ان الشعراء يعتقدون ان واجبي ان اترجم لهم تذكر ذلك بامتعاض لكن ذلك لا يعني ان تعرض عن المسألة فهي مازالت تسير في مشروعها بل مشاريعها بخطوات واثقة وبمهارة عالية ودقيقة، فالدكتورة الجيوسي تعطي الشعر الذي تمت ترجمته إلى شعراء انجليز وأمريكيين كي يحولوا هذه المقطوعات الى شعر حقيقي يستطيع القارىء باللغة الانجليزية ان يستمتع به كما يستمتع بقراءة الشعر الانجليزي... وهي تعطي الشاعر عدة مقطوعات كي يختار منها ما يحلو له، وقد دمر أحد الشعراء الكبار ميزانية المشروع حين أعطته قصائد للشاعر مريد البرغوتي كي يحرر منها واحدة أو اثنتين فأعجبته وحررها جميعا. * * تستطيع د. سلمى أن تبهرك بعلمها وثقافتها كما تستطيع ان تبهرك بإيمانها الشديد بالوحدة العربية حتى اليوم، وبعد مضي خمسين عاما على احتلال فلسطين وبالرغم من التخبط الذي يعيشه العرب اليوم، لكنها تقول في بساطة شديدة وحاسمة (النتيجة التي خرجت بها من عملي بالولايات المتحدة هي الوحدة، بدونها خلاص لا يعود هناك عرب). وبدون هذا الإيمان لا يمكننا أن نفهم ما الذي يدعو الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي إلى أن تسعى لمشروع كهذا وتبذل فيه كل هذا الوقت، وهي بكل الافكار التي تدور في دماغها تستطيع ان تعكف على مشروعها الخاص وتعمل على كتابة نظرياتها النقدية بدون الالتفات إلى هذا المشروع الضخم الذي يضطرها الى البحث عن الممولين والى السفر إلى جميع البلاد العربية للبحث والانتقاء، هذه الباحثة الجلية التي فتحت للكثيرين محاولات كي يقرؤوا بلغة اخرى عالمية، منهم شعراء سعوديون هل أعطيت حقها؟ حين بحثت في الموسوعة العربية عن ترجمتها، لم أجد ذكرا لها لم أصدق فبحثت تحت اسم الجيوسي فلم أحد ايضا. وما زلت أشك في عيني لأني لا أصدق ان يتم تجاهل او نسيان قيمة كبيرة كهذه الشاعرة التي عطت ولا زالت تعطي الكثير للثقافة العربية. * * د. سلمى الخضراء الجيوسي مازالت تحمل الكثير في جعبتها آخر مشاريعها هي قيامها باختيار كتب من النثر العربي القديم لترجمتها، وحتى في النثر العربي القديم لها رأي خاص يتحدث عن الشمولية والخصوصية، وهي تعتقد ان النثر العربي الذي تخلى عن المبالغة والخيال بعد الاسلام، اخترع أسلوب التقرير الإخباري الذي اصبح يزينه شيئا فشيئا بقليل من المبالغة، وأصبح ذلك شكلا قصصيا جديدا، له قوانينه الابداعية الخاصة به. * * هذه السيدة المفتونة بالشعر العربي والتي تراه بعين محب واله، تقول إنه اينما ذهب العرب وجد الشعر الغنائي الذي هو أعلى أنواع الشعر، ومثال ذلك صقلية وكانت تقرأ في الخمسينات نقادا يسخرون من الشعر العربي الذي يخلو من القصص والشعر المسرحي، ويصفونه بالغنائية، اكتشفت بعد ذلك ان الغنائية هي اعلى انواع الشعر وهو ما يجب ان يطمح إليه الشعراء لأنها مليئة بالرهافة والحساسية الشعرية. تحدثت عن هذه الدكتورة العظيمة كثيرا، وليس بإمكاني ان الخص كل ما قلت، ولا أرغب بذلك اصلا، إنما أردت ان احكي لمحات عن لقاء ممتع وبالنسبة لي مثمر من جميع جوانبه هذه الشاعرة العربية الجميلة التي اسعدتني الصديقة سلوى خميس بتمكيني من رؤيتها والجلوس معها اعتذر هنا للدكتورة عن أسئلتي المشاكسة، التي جعلتها تشيح عني بعد ان كانت قد بدأت باستلطافي، لكن طبيعتي المشاكسة علبتني في النهاية.. أريد ان اقول، ان الإنسان الكبير هو الذي يحرضك لإلقاء الأسئلة الصعبة والدكتورة سلمى الجيوسي، هي شاعرة كبيرة صاحبة مشروع كبير، شكرا لأن العالم العربي مازال يؤمن بوحدته من خلال الثقافة، ومن خلال أجلاء كالدكتورة الجيوسي.