كرّست سلمى الخضراء الجيوسي جزءاً من نشاطها النقدي في السنوات الأخيرة، لرصد ظواهر وعلامات الشعرية الجديدة. والناقدة التي التقتها "الوسط" عشيّة صدور الترجمة العربية لمؤلّفها المرجعي "الحركات والاتجاهات في الشعر العربي الحديث" بعد تأخير قارب العقدين، تعتبر أن "أبهى الأصوات الشعرية العربية ظهرت خلال العقدين الأخيرين"، وأن السبعينات شهدت تجارب تعسفية أدّت إلى استنفاد التقنية الشعرية. هنا نصّ الحوار مع باحثة ترفض النقد الاجتماعي الذي يعتبر أن اطلاق رصاصة في الخارج يؤدّي إلى تغير مجرى الحركة الشعريّة. تعتبر سلمى الخضراء الجيوسي واحدة من أركز الأصوات النقدية العربية وأنفذها بصيرة خلال النصف الثاني من القرن. قدمت للمكتبة الانكليزية عدداً من الكتب النقدية حول الشعرية العربية الحديثة. وكتابها "الاتجاهات والتيارات في الشعر العربي الحديث" الذي يُعتبر سفراً كبيراً في التاريخ النقدي، وضعته بالانكليزية، وظهر في ثلاثة مجلدات قبل نحو عشر سنوات، وهو الآن قيد الترجمة إلى العربية، وستظهر مجلداته تباعاً بدءاً من مطلع العام المقبل. بدأت الجيوسي شاعرة ثم سرعان ما طورت نظرة نقدية إلى الأدب والشعر على وجه الخصوص. خلال الخمسينات والستينات، انهمكت في الحوار الذي دار حول الشعرية الجديدة. ولم تتوقف عن تطوير فهمها للشعرية العربية وظواهرها، فجاء عملها النقدي ليغطي التطورات والاتجاهات الجديدة في الكتابة الشعرية، بدءاً من مطلع القرن وحتى عقد السبعينات. ثم عكفت خلال السنوات الأخيرة على رصد التطورات التي شهدتها حركة الشعر العربي الحديث خلال العقدين الأخيرين. فوضعت اشارات وأفكاراً وملاحظات حول هذا النتاج الذي تعتبره قفزة نوعية في الشعرية العربية، أدت إلى تجاوز مرحلة الارهاق الجمالي الكبير الذي أصاب الظاهرة الشعرية مع مطلع السبعينات. وطورت سلمى الخضراء الجيوسي مفاهيم جديدة للشعر، تجلّت عبر مصطلحات جديدة أدخلتها إلى لغة النقد، منها مصطلح "الارهاق الجمالي" الذي يعقب عادة هزة كبرى تعتري ظاهرة ابداعية فكريّة ما، وترافقه كسور تؤدي بالضرورة إلى حدث جمالي وتعبيري جديد. وهو ما ترى أنه حصل بدءاً من أواخر السبعينات، مع ظهور حركة ريادة جديدة تمثلت في أصوات شعرية خاضت تجربة "قصيدة النثر" واعتمدتها كشكل فني. وبالتفاتها إلى "قصيدة النثر"، والمغامرات الجمالية التي أفرزتها أو تمخّضت عنها، تسجل هذه الباحثة والمنظّرة افتراقاً عن جيلها من النقاد والشعراء الذين دأبوا على هجاء شعر اللاحقين بدلاً من التعاطي معه كحقيقة جمالية وفكرية مخالفة، تشكّل بالضرورة امتداداً لتجربتهم، وآفاقاً في مسيرة الأدب وصيرورته. في هذا الحديث تسجل سلمى الخضراء الجيوسي بعض الملاحظات، وتطرح بعض الأفكار حول الشعرية الجديدة وقراءتها النقدية لها. تعسف الصورة ما هو تقديرك للتحولات المهمة الحاصلة في الشعرية العربية الحديثة؟ - إنّها تحولات غير منتظرة بالمعنى النفسي، لأن العصر مرهق جداً ومتعب. أن تنبلج هذه الصحوة الشعرية، بعد تجربة السبعينات، أمر مدهش. وما هي أبرز عناصر الادهاش المتحققة في النصوص؟ - اختفى الصوت الجهوري والخطابية دفعة واحدة. ليس لأن الشاعر بهت وخسر عنفوانه وتلاشت قواه العصبية، ففي هذا الشعر عصب قوي جداً، ولكنه ليس عصباً مستفزاً. إنّه يعلو على الاستفزازية، مستقل، يستطيع الانسان ان يقول انه عصب فيه شيء من الايمان، وهو أكبر دليل على الارهاق النفسي والجمالي الذي حصل للشعر والشاعر. التقنية الشعرية نفسها كلّت من كثرة التجارب التعسفية في الصورة الشعرية التي حدثت في السبعينات، وحدث لكل من القارئ والشاعر ارهاق كبير. محمود درويش نفسه، شكا كثيراً من تعسف الصورة، من هذا التعسف اللافني الموجود في الشعر. يستطيع المرء أن يقول إن ثمة عدواناً غير مسؤول حدث على تقنيات الشعر، ولعل هذا العدوان أفضل ما كان يمكن أن يحدث. السبب في ذلك، أنه بسرعة البرق، وفي ظرف عقد واحد، وضع الشعر في نقطة اللا احتمال. وكان لا بد أن يحدث التغيير. إن قضية الارهاق الجمالي قضية سهلة الإدراك، ولكن النقاد لم يفطنوا إليها على حدّ علمي. فالوضع الشعري في نهاية السبعينات تميّز كما ذكرت بإرهاق نفسي وجمالي. ما الرابط بين هذا الارهاق الفني الصرف، وبين مجريات وانقلابات الأحداث المختلفة في الواقع وفي الثقافة؟ - شيء فني خالص، قضية فنية. ولكن ما الباعث عليها؟ - الغريب أن التجريب الجمالي حدث في شعر المقاومة نفسه. وأي شعر مقاوم، سياسي، من المفروض أن يتوجه نحو التبسيط حتى يفهمه الناس. مع ذلك كانت جرأة شعراء السبعينات عظيمة، لأنهم أقدموا على كتابة شعر مقاوم في تقنيات معقدة. هكذا نلاحظ أن التغيير فنّي في نهاية المطاف. فني بمعنى ان بواعثه تكمن في الفن فقط؟ - نعم. الشعراء فتنوا باستعمال الصورة ذات الطرفين البعيدي التشبيه. لذلك فإن الصورة اذا استطاعت ان تحتفظ بمنطق خاص، تنجح ولكن انظر، مثلاً، كثرة استعمال الصور التي تجمع على سبيل التشبيه بين الماء والنار والتي كثرت في الشعر. عقد السبعينات شهد افتناناً هائلاً. ولكن هذا لم يضر الشعر في النهاية، أضر بعض الشعراء الذين سقطوا. أما من بقي منهم، فاسترد عافيته. هل تعتقدين أن الانجاز الجمالي الجديد في الشعر، يجد مستواه العبقري والجمالي نظيراً في القراءة النقدية؟ - لا أتابع الأعمال النقدية كثيراً. هل تجدين أن هؤلاء الشعراء الجدد حرموا من قراءة قادرة على سبر أغوار تجاربهم؟ - أظن أن القراء الذين ما زالوا مرتبطين بشعر الرواد، قد لا يتذوقون الشعر الجديد. السؤال هنا هو لماذا تأخر الارهاق الجمالي في تذوق الناس لشعر الرواد؟ بالنسبة إلي، حدث هذا منذ مدة طويلة، اتعبني الصوت في هذا الشعر، صار له صدى تكراري يأخذني حالاً إلى الماضي. لا بأس بهذا، ولكن أن يظل مثل هذا الشعر مهيمناً أمر يكاد لا يكون طبيعياً، لأن الذوق العام يتطور، ويجب ان يتطور. لو شئنا أن نقف على تحديدات يمكن من خلالها ضبط المتغير هذا، أو أن نقوم بتعيين دقيق للمستجدات الجمالية، فكيف تسلسلين عناصرها؟ - سؤال صعب يحتاج إلى صفحات من الكتابة. لنحاول. - أهم شيء هو نبرة الصوت في الشعر. شعر الرواد له أصداء موجودة في داخلي، حالما أسمعه أدركها. أشعر بالحاجة إلى نبرة صوتية مختلفة، لهجة مختلفة. كانت لهجة الخطابة عالية في شعر الرواد، باستثناء حالات قليلة. كما خلا شعرهم تقريباً من الدعابة والتهكم. السياب، مثلاً، كتب قصيدة واحدة فيها تهكم، هي "أغنية في شهر آب"، ولعلّ الدافع إليها هو حياته المأسوية. ثم هناك هدوء الصورة. أن تأخذ الصورة من التجربة العنيفة، بحذلقة، وتترك التشويش. هذا ما بدأ يحصل في الشعر منذ الثمانينات. أن تكون الصورة معقدة، من دون أن تكون مشوشة، وأن يكون في التعقيد شيء من الاستقرار. أن تكون بها حيثية - أستطيع ان أقول "كرامة" - أن تكون لها كرامتها، وبالتالي تماسكها. اغلب النقد كان جتماعيا هذا في ما يتعلّق بالنية الجماليّة... - نجيءء إلى المعنى. قضية المعنى عادت في هذا الشعر إلى غناها أكثر من قبل. أصبح الشاعر يجرؤ على الخروج عن المواضيع الأولية والآنية، أن يتأمل مثلاً، أن يصور التجارب الصغيرة، وهي عندما تكون ناجحة تكون دائماً جزءاً من التجربة الانسانية الشمولية. وأصبح قادراً أن يعترف. بالطبع هناك شعراء أقدموا على الاعتراف في جيل الرواد. أحمد عبدالمعطي حجازي مثلاً اعترف في شعره بما لا يعترف به الرجل العربي المعتد بفحولته، اعترف بالهرم، وهذا ما قرب هذا الشعر كثيراً إلى نفسي. السياب أيضاً لم يعتد برجولته كثيراً، اعترف بضعفه وانسانيته هو الآخر، ولكن كانت هذه مجرد بدايات لما سوف يصبح لاحقاً خصلة أساسية من خصال الشاعر الجيد. الشاعر يعترف الآن باستمرار وبجرأة أكبر. لم يعد استعلائياً، أدرك مكانه الحقيقي كانسان. في كتابك "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" قمت برصد ظواهر وعلامات الشعرية الجديدة، وجميع التغيرات التي طرأت على القصيدة منذ النهضة وحتى مطلع السبعينات. لكن الكتاب الذي تصدر طبعته العربية قريباً، بعد أكثر من عقد ونصف على ظهوره بالانكليزية، يغفل فترة أساسية، تعتبرينها الأهم في مسار الشعر الحديث... - وضعت للكتاب ملحقاً تحدثت فيه عن حركة السبعينات في مصر، وعن الحداثة العربية، وأيضاً عن الشعر الجديد الذي ظهر في الثمانينات والتسعينات والذي تكلمنا عليه آنفاً. ما الذي يتميز به تأريخك الشخصي للشعر العربي الحديث؟ - أسلوبي النقدي ربّما. أؤمن بأن حياة الفن مستقلة، إلى حد ما، عن الاطار الخارجي. أغلب النقد عندنا كان اجتماعياً والنقاد ظلوا، يعتقدون بأن اطلاق رصاصة في الخارج يعني تغير الشعر، وهذا غير صحيح أبداً. فلو أخذنا شعر المقاومة مثلاً، لوجدنا أن جرأته تجلّت في دخول حقل تجريب تقني شديد التعقيد، مزاوجاً بين النقيضين: الشعر السياسي المقاوم الذي يفترض به الوضوح من جهة، والتعقيد التقني الذي يصعب فهمه من الجهة الأخرى. وصادف أن اللحظة التاريخية السياسية جاءت في لحظة التغيير التقني، ولم يتوقف الشعراء في اندفاعهم الجمالي التقني خضوعاً للمتطلبات الخارجية. النقد العربي كان يرد غالباً كل حركة شعرية إلى الأوضاع الخارجية. الرومانسية في مصر مثلاً يربط كثيرون بين بروزها وفشل ثورة 1919. لكن هذا التحليل التاريخي غير دقيق، فالرومانسية كانت موجودة في مصر مع المنفلوطي منذ مطلع العقد الثاني، وكان الاتجاه الرومانسي يؤكد نفسه في شعر جماعة "الديوان"، وتأخر ظهوره لأنهم لم يكونوا شعراء كباراً. كما أن الشعراء الرومانسيين الحقيقيين في العشرينات لم يكونوا مسيّسين أبداً، بل كانت تشغلهم قضية الحب والمرأة والحرمان والشوق إلى المجهول. وعندما انقلب علي محمود طه سياسياً "أخي جاوز الظالمون المدى/فحق الجهاد وحق الفدا"، تخلّى عن رومانسيته إلى حد كبير، وذهب إلى ما يشبه التقليدية، فهجره الخيال الرومانسي. يطول الحديث عن تداخل العوامل الخارجية في التطور الشعري. لكن العالم الخارجي لا يستطيع أن يغير في الشعر، إن لم يكن في الشعر نفسه مادة قابلة وأرضية مهيأة لذلك، أي اذا لم تكن اللحظة التقنية ملائمة. هذا ما قد يميز مقاربتي النقدية للشعر العربي. ثم انني تحدثت عن جميع التيارات في سياق تاريخيتها. عندما تحدثت مثلاً عن الاسطورة، ربطتها بجذورها ورصدتها في تحدّرها من تجارب شعراء وكتاب كجبران ونسيب عريضة ومن بعدهما. أخذت كل تاريخ الأسطورة، وأظهرت الفروق في استعمالها في كل الفترات. أكره حضور تموز وعشتار، ففي استعمالهما شيء مصطنع، كأنه زي انتهى زمانه. التموزية كانت شيئاً مفتعلاً، غير أن تطور الاستعمال الأسطوري في الشعر، لا سيما الزمن الأسطوري، أدخل عمقاً كبيراً وأبعاداً شاسعة عليه. كان وسيلة ناجحة في بعض الأحيان. هل تعتقدين أن غياب العصرية عن المناهج التعليمية العربية في تناولها الشعر، إضافة إلى ضعف وركاكة وتقليدية تلك المناهج، من العوامل التي أثّرت على الأجيال الجديدة، وتحكّمت في اعادة فهمهم القصيدة الحديثة وتعاملهم معها؟ - طبعاً! الأستاذ التقليدي لا يستطيع ان يعطي مفاتيح لقراءة قصيدة حديثة. لكن اذا تأملنا في عملية نجاح حركة الشعر الحر، فهي تعطي أملاً كبيراً، في حدوث التغيير. بعض الأساتذة ما زال، للأسف، يقدّم الشعر القديم بصفته الشعر. علي محمود طه ما يزال يتقدّم على السياب وعلى بقية رموز الشعر الحديث. مشروع "بروتا" للترجمة الذي تديرينه من أميركا، فتح أفقاً للنظر في الثقافة العربية بصفتها ثقافة رفيعة المستوى وغنية بالأشكال التعبيرية. ما هي المحاور التي تحتلّ اليوم موقع الصدارة في قائمة أهدافكم؟ - قدمنا أنطولوجيات وموسوعات لكل الاجناس الأدبية الحديثة. صدرت أنطولوجيا الشعر، وتتبعها في الأيام القليلة المقبلة موسوعة المسرح التي تغطي نماذج من المسرح العربي الحديث في فلسطين، لبنان، سورية، العراق، مصر، الخليج العربي وغيرها من البلدان. أما القصّة ففي مطلع العام 1996. ودور النشر تطلب مني بالحاح تقديم كتب مماثلة للكتاب الأندلسي "اسبانيا المسلمة" الذي قدمته بالانكليزية. كتب تتولّى تعريف القراء الغربيين بالابداعات العربية. ولدي مشاريع كثيرة في هذا الاتجاه، لكنني أنتظر الوقت المناسب للكشف عنها.