التعميم الذي أصدره صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني بشأن التأكيد على عدم تعطيل مصالح الناس وحقوقهم، والحرص على الأمانة والاخلاص، والمحاسبة، وعدم الاستهانة بالعمل الموكل للموظفين، والرفع أولاً بأول عن أي مواضيع موجودة لدى الأجهزة، وعدم تركها فترة طويلة. هذا التعميم يجب ان نتوقف عنده طويلاً، ذلك انه صدر من مسؤول يدرك واجب مسؤوليته، وهناك علاقة وثيقة بين السلطة والمسؤولية، فهما متلازمتان، ولابد ان يكون هناك توازن وتكافؤ بينهما، ومتى ما أدرك المسؤول ان عليه واجبات تفرضها سلطته الوظيفية كان ذلك سبباً في تحقيق أهدافه، من خلال التأكيد على مبدأ تحقيق الكفاية ومساعدة الأجهزة العاملة على التوصل إلى الخدمة الجيدة، والقرار الفعال. إننا لو نظرنا إلى مفهوم السلطة في الإسلام وكذلك في النظام الإداري الحديث لوجدنا انها ترتبط ارتباطا وثيقاً بالمسؤولية، وبما ان المسؤول الأعلى في السلطة يتخذ معاونين له لمعاونته في القيام بمهام سلطاته، فإن مؤدى ذلك ان هؤلاء المعاونين وهم بالطبع «موظفي الدولة» حين يباشرون مهامهم ويزاولون سلطاتهم انما تترتب عليهم مسؤوليات بقدر هذه السلطات الممنوحة لهم، وكل عمل يصدر عنهم انما ينسب للدولة نفسها، باعتبارهم معبرين عن ارادتها، وممثلين لها في مواقع أعمالهم، فتكون مسؤولية الدولة شاملة وكاملة عن أعمال موظفيها أمام الله وأمام الناس، ومن واقع ادراك سموه لهذا الواقع جاء التأكيد الشخصي منه على عدم تعطيل مصالح الناس وحقوقهم، والحرص على الأمانة والإخلاص في العمل، وعدم الاستهانة بمسؤولياتهم، وألا تنحرف أعمال الموظفين عما هو مرسوم لها، ولا ان تخرج عن النهج الشرعي والنظامي المحدد لها. إن الدولة حين تعهد إلى السلطة مهمة توفير احتياجات المجتمع عن طريق أجهزتها المختلفة، وهذه الأجهزة يقوم على اعبائها طائفة من الموظفين، فإن هذه السلطة يترتب عليها مسؤولية كبيرة يتحملها القائمون بأعبائها بقدر سلطاتهم المفوضة لهم، وليس هناك استثناء لأحد، فجميع أفراد السلطة سواء كانوا وزراء أو أمراء أو موظفين عاديين مؤاخذين بأفعالهم وليس لهم ان يعتدوا على حقوق الناس أو يتعرضوا لمصالحهم، والكل محاسب على أخطائه، وكل صاحب سلطة مهما قل شأنه في سلم الوظائف عليه مسؤولية شخصية، فهي لم توضع في يد الموظفين من أجل خدمتهم أو حمايتهم، وإنما من أجل تحقيق الصالح العام، وسلطة الموظف العام ليست في مجرد اظهار القدرة على التحكم وتنفيذ ما يريد، وإنما في اثبات القدرة على تحقيق خدمة المجتمع، ورعاية مصالحه، والدولة بأجهزتها وأنظمتها مسؤولة عن استقامة الموظفين، وتقديم الخدمة للمجتمع، وتقويم ما يحدث من اعوجاج. إن المطلع على واقع الأداء في بعض الأجهزة الحكومية يدرك ان هناك تقصيراً واضحاً في أداء المسؤولية، والتهاون فيها، ويلحظ ان سوء استخدام السلطة ليس رهيناً لممارسة نوع واحد منها، أو مقتصراً على أولئك الذين يملكون صلاحيات واسعة، وإنما أصبح واضحاً في كل مجالات السلطة التي يتمتع بها الموظفون العموميون، لكن أهم أشكال هذه الاساءة تلك المرتبطة بالفساد الإداري أو ما يسمى «إساءة استعمال السلطة في الوظيفة العامة»، حيث يلاحظ ذلك في الممارسات المنطوية على: 1 الاتجار بالوظيفة أو التربح من أعمالها. 2 التلاعب بالأنظمة والتعليمات واستغلال ثغراتها. 3 المحاباة والايثار والاستئثار. 4 الاعتداء على الأموال العامة أو الاستيلاء عليها بغير حق. 5 اساءة معاملة الناس بالاكراه أو القسوة أو التعذيب أو الاذلال أو التسخير.. أو نحو ذلك. 6 الاضرار بالأموال والمصالح. إن اتخاذ السلطة وسيلة للاستبداد أو الكبرياء أو الاستعلاء أو الظلم أو نحو ذلك يعد في عرف الشرع والقانون «جريمة» في حد ذاته، بل هو تحويل للسلطة من خدمة المجتمع إلى الاضرار به. ومن هذا المنطلق جاء تعميم سموه الكريم بالتأكيد على ان يلتزم الجميع بمسؤولياتهم، وان يتحملوا أمانتهم الملقاة عليهم، وألا يستعملوا سلطاتهم إلا لجلب مصلحة أو درء مفسدة، وهذا هو المعيار الذي يحدد النطاق الذي يجب ان يمارس أصحاب السلطة من خلاله سلطاتهم، مؤكداً حفظه الله حرص الدولة على نزاهة الوظيفة العامة من خلال نزاهة الموظفين أنفسهم. إننا يجب ان ندرك ان هناك اخطاء، وان هناك قصورا في أداء بعض الأجهزة، لاسيما مع غموض بعض الأنظمة او انعدامها مما يشجع البعض على تخطي الحدود المرسومة لهم، لكننا ندرك أيضاً انه مهما وضع من مبادئ ونظريات، ومهما أحسنت صياغة التعاميم، وروعي الاحتياط والتبصر في وضعها فهي عاجزة بمفردها ان تحقق هذا المفهوم، ولهذا كان الإسلام سباقا إلى تحقيق ذلك من خلال ربطه المسؤولية بالجانب الأخلاقي والديني، وجعل عمل الإنسان الموكل إليه «أمانة» يجب الوفاء بها.. قال تعالى: {إنَّ اللَّهّ يّأًمٍرٍكٍمً أّن تٍؤّدٍَوا الأّمّانّاتٌ إلّى" أّهًلٌهّا} [النساء: 58] ، وقال سبحانه: {يّا أّيٍَهّا الَّذٌينّ آمّنٍوا لا تّخٍونٍوا اللَّهّ وّالرَّسٍولّ وّتّخٍونٍوا أّمّانّاتٌكٍمً وّأّنتٍمً تّعًلّمٍونّ *27*} [الأنفال: 27] ، فالبعد الديني والأخلاقي هو الكفيل في الحد من ظاهرة اهمال المسؤولية، حيث يصعب على الشخص ذي التربية الدينية السليمة ان يسير في تيارات الفساد الإداري، بل انه يقاومها وينصح لغيره، والالتزام الذاتي والاحساس بالمسؤولية يغنيان عن معظم التعاميم والتعليمات، ويريحان أجهزة الرقابة والمساءلة. إن الدولة لو اعتمدت على مجرد الرقابة لمحاربة التساهل في أداء المسؤولية، ومحاربة الفساد الإداري، وأهملت دور الأمانة والالتزام الذاتي لاحتاجت إلى رقيب على كل فرد، ورقيب على كل رقيب وهذا يتنافى مع المنطق السليم. من هنا يجب ان ندرك ان أسباب الفساد الإداري تزداد أكثر فأكثر، وهذا الفساد ليس ظاهرة عارضة، وإنما هو مستتب، يعتبره بعض الناس خاصة من لا حيلة لهم نمطاً للحياة وجزءاً لا يتجزأ من التعامل، بل ويتسامح كثيرون بشأنه، لدرجة اعتبار بعض الممارسات أحياناً وكأنها حق مشروع، وذلك مثل النظر إلى «الرشوة» وكأنها «إكرامية» أو تعبيراً مسبقاً عن الشكر والامتنان، أو تعويضاً مشروعاً عن ضعف المرتب، وكذلك اعتبار الواسطة والمحسوبية، والايثار والمحاباة وكأنها واجب على أصحاب المناصب، وحقاً لأقربائهم وأصدقائهم، يلامون ان لم يستجيبوا له، والنظر إلى التلاعب بالأنظمة والتعليمات والتحايل عليها وكأنه أمر طبيعي لا يثير السخط أو الاستياء، مع اغتنام كثيرين ممن تتاح لهم الفرصة إلى اغتنام أي ريع قد يدره عليهم موقع المسؤولية والسلطة الممنوحة لهم باسم الوظيفة، حتى لو كان ذلك خيانة لواجبات العمل، واضراراً بالمصلحة العامة، وتعطيلاً لمصالح الناس وحقوقهم، ومن العجب في هذا اننا نلاحظ ان التخلص من المسؤولية والهرب منها أصبح قدراً مشتركاً بين أكثر الموظفين، رغم اعترافهم بوقوع الخطأ وفساد الأحوال، واضطراب المقاييس!!؟.إن سموه قد رمى الكرة في مرمى أصحاب السلطة الوظيفية، وأكد على ان ما استوجب هذا التعميم أموراً قد تبدو في ظاهرها يسيرة، لكن في باطنها الخوف والخشية التي يستشعرها كل مسؤول في هذه البلاد تجاه مسؤوليته أمام الله ثم تجاه وطنه وأهله، مما يوجب على الجميع تحمل مسؤولياتهم، وأداء أماناتهم، وإحياء الرقابة الذاتية لديهم.لقد لامس سموه الحقيقة، وطرح المشكلة بكل وضوح كما هي عادته في كل موقف، ويبقى الدور على المعنيين بالأمر ممن يقومون على مصالح الناس، ليتقوا الله فيما اؤتمنوا عليه. وبالله التوفيق. سليمان بن محمد الجريش